تفسير آيات الأحكام [5]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فنكمل في هذا المجلس شيئاً من آي الأحكام من سورة البقرة, وأول هذه الآيات في قول الله جل وعلا: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115].

سعة ملك الله عز وجل

قول الله سبحانه وتعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:115], اللام هنا للتمليك, فالله سبحانه وتعالى مالك المشرق والمغرب وما بينهما, والمراد من ذلك: تمام ملك الذات والتدبير والتصرف فيها, والتصرف فيما بينها, فالله جل وعلا حينما بين ملكه للمشرق والمغرب أراد أن يبين ذلك لمن ملكه من عباده, فهو يملك العباد, فأراد أن يبين لهم ملكه للمشرق والمغرب وما بينهما, وأن الله سبحانه وتعالى يوجه العباد إلى ما أراد جل وعلا من التصرف في الكون.

وقوله جل وعلا: الْمَشْرِقُ [البقرة:115]: هو مطلع الشمس, وكذلك مطلع القمر يسمى: مشرقاً, وهو مصدر؛ كقولنا: مسجد؛ الموضع الذي يسجد فيه, وكذلك المشرق: الموضع الذي تشرق فيه الشمس ويشرق فيه القمر, كذلك أيضاً المغرب: موضع غروب الشمس وغروب القمر؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى بين ملكه وتدبيره للمشارق والمغارب فقال: رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [المعارج:40], فإذا جاءت المشارق والمغارب على الجمع فهي مطالع الشمس ومطالع القمر المتعددة, ومعلوم أن مشرق الشمس يخرج في موضع ولا يخرج منه مرة أخرى حتى يأتي العام الذي يليه, فثمة درجات يسيرة, ويغرب في مقابلها كذلك على درجة يسيرة يعرفها أهل الفلك, فهذه هي المشارق, والمغارب هي التي تقابلها, فالله جل وعلا رب هذه المشارق ورب هذه المغارب.

الحكمة من إفراد المشرق والمغرب هنا وذكر الجمع في غير هذا الموضع

وذكر الله جل وعلا هنا المشرق والمغرب بصيغة الإفراد مع أنه ذكرها في بعض الآي بصيغة الجمع: رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [المعارج:40] والتثنية: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن:17] ؟ فالله جل وعلا سمى نفسه بأنه رب المشرقين والمغربين, ورب المشارق والمغارب, ورب المشرق والمغرب, فذكر المشارق والمغارب على صيغة الجمع في أبواب التعظيم له جل وعلا, المتضمنة للانقياد له جل وعلا بإثبات ربوبيته سبحانه وتعالى, ولهذا يعقبها الله جل وعلا بشيء من المعاني المتضمنة لكمال قدرته جل وعلا وكمال تدبيره؛ كقوله جل وعلا: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ [المعارج:40], فالله سبحانه وتعالى بين أنه يقسم بنفسه وهو رب المشارق والمغارب على قدرته جل وعلا وتدبيره لهذا الكون.

وأما بالنسبة لهذه الآية فإنها في موضع تحديد القبلة, وتحديد القبلة يحتاج فيها إلى تثبيت, فمشرق ومغرب واحد, حتى تحدد القبلة على جهة معينة, ولهذا يذكر الله جل وعلا المشرق والمغرب في سياق تحديد القبلة, والمشارق والمغارب بالعدد أو التثنية في أبواب التعظيم, فيكون المشارق والمغارب هي مطالع الشمس والقمر, والتثنية يكون مطلع الشمس والقمر ومغرب الشمس والقمر, وأما المطلع والمغرب للشمس والقمر فإن هذا يكون في تحديد القبلة؛ كما في قول الله جل وعلا: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:115], وإنما قدم المشرق على المغرب باعتبار أن الشروق هو أول ما يبتدئ به النهار, فقدم الله جل وعلا الإشراق على الغروب.

الحكمة من ذكر الإشراق في القرآن أكثر من الغروب

وذكر الإشراق أكثر من الغروب في القرآن؛ وذلك تيمناً بأفضلية أول النهار, ولهذا يقال: إن أفضل الأوقات لعمل الإنسان ونشاطه هو الضحى, ولهذا اختاره الله جل وعلا لموسى عليه الصلاة والسلام في مناظرة السحرة: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه:59], كذلك أيضاً فإن الله عز وجل إذا أراد أن يعذب أمة أنزل العذاب عليها في الضحى, في حال تفاؤلها وسعادتها ونشوتها بما هي فيه من رغد عيش.

أشهر الجهات المذكورة في القرآن والحكمة من ذلك

والجهات كما لا يخفى أربعة: الشرق والغرب, والشمال والجنوب, ولكن المعروف في القرآن والأشهر ذكره هو الشرق والغرب؛ لأنها أظهر في أبواب الدلالة, فالجنوب والشمال يستدل عليها بمعرفة الشرق والغرب, أما الشرق والغرب فتعرف في ذاتها من غير معرفة جنوب وشمال, ولهذا نقول: لما كان الشرق والغرب معروفة بذاتها قدمت؛ لأن الدلالة عليه ظاهرة, بخلاف الجنوب والشمال فلا يمكن للإنسان أن يعرفها إلا بمعرفة الشرق والغرب, ولهذا كثر في كلام الله عز وجل وسنة رسوله ذكر المشرق والمغرب, وكذلك في كلام العرب.

وكذلك أيضاً لارتباط أزمنة الناس بها, فغالب أزمنة الناس وجهاتهم تضبط بالشروق والغروب, فالشروق والغروب يضبط فيه الزمن والمكان, بخلاف الشمال والجنوب فإنه يضبط فيه المكان ولا يضبط فيه الزمان.

ولهذا تقول: إن البلدة الفلانية شمالاً, ولكن لا تستطيع أن تضبط زمناً بحال الشمال, وإنما تضبط مكاناً, أما المشرق والمغرب فتضبط به الزمان والمكان فتقول: عند شروق الشمس, والبلدة الفلانية مشرقاً, فضبطت بها زماناً ومكاناً.

وفي ذكر المشرق والمغرب الاهتمام بها في ظاهر كلام الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, كذلك أيضاً في كلام العرب, والله جل وعلا ذكر المشرق والمغرب في قوله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:115], وهذا له أثر في أمر القبلة, كما تقدم الإشارة إليه، وإنما ذكر الله سبحانه وتعالى المشرق والمغرب على سبيل الإفراد لا على سبيل الجمع؛ لأن المشرق والمغرب مطلع واحد, وإذا أردنا أن نضبط القبلة لا بد من تحديد موضع الشروق والغروب, ومعلوم أن الشمس من جهة شروقها في الشتاء تختلف عن الصيف, فإذا ذكر الله عز وجل المشارق والمغارب فإن الضبط في ذلك ينبغي أن يدور الإنسان إذا تغيرت القبلة, فإذا قيل: إنه على درجة معينة بالانتصاب بين المشرق والمغرب فإنه إذا تغير الشروق ينبغي له أن ينحرف عن القبلة, وذلك أن الله عز وجل ذكر المشارق والمغارب, ولكن ذكرها على سبيل الانفراد يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يضبط القبلة على شرق وغرب واحد ثم يلزم ذلك, وهذا من ألفاظ الإعجاز في كلام الله سبحانه وتعالى.

وفي هذه الآية دلالة على التوسعة في أمر القبلة, وعدم المشقة على الناس.

اختلاف العلماء في قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب..) بين النسخ والإحكام

وهذه الآية من العلماء من قال بإحكامها, ومن العلماء من قال بنسخها, وهما قولان معروفان عند المفسرين:

القول الأول: من قال بنسخ هذه الآية, قال: وذلك أن الله جل وعلا قد خير نبيه في ابتداء الأمر باستقبال ما يشاء فاستقبل المسجد الأقصى, ثم أمضاه الله عز جل عليه ولم ينصرف منه إلا بعد أن أمره الله سبحانه وتعالى بأن يتوجه إلى البيت الحرام كما يأتي بيانه, وذهب إلى هذا القول بعض العلماء، وهو مروي عن عبد الله بن عباس و قتادة , رواه عنه سعيد بن أبي عروبة و معمر بن راشد .

القول الثاني: من قال: إن هذه الآية محكمة, وهي شاملة لمجموعة من المعاني.

المعنى الأول: أن الله جل وعلا قال: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115], قالوا: إن هذا محمول على الضرورة والحاجة, ويمثل لهذه الضرورة في حال إذا استقبل الإنسان غير القبلة وظن أنها القبلة ثم بان له بعد ذلك أنه لم يستقبل القبلة؛ قالوا: فهذه ضرورة؛ لأن الله لا يكلف عبده ما لا يطيق, فقد أداها في حال أدائها, وهو يحسب أنها على القبلة, قالوا: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].

إذاً: فهذه الآية تحمل على مثل هذه الحال, فهو قد استقبل القبلة من جهة ذاته ولو كان قد استدبرها؛ لأنه خوطب بذلك بما في قلبه إذا لم يقصد الانحراف, واجتهد بالتصويب إلى القبلة, وهذا المعنى قد ذهب إليه بعض العلماء. وجاء في ذلك خبر كما رواه الترمذي , وكذلك ابن جرير الطبري من حديث أبي الربيع أشعث بن سعيد السمان عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أنه قال: ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فبتنا ليلة, فأخذ كل واحد منا حجراً فصلى, فلما أصبحنا فإذا نحن على غير القبلة, فأنزل الله جل وعلا: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] ), قالوا: وفي هذا دلالة على أن المراد بذلك هو التوسعة في مثل هذه الحال.

ولكن غير واحد من العلماء يعل هذا الحديث, وهو كذلك, كما أعله الترمذي رحمه الله؛ وذلك أنه تفرد بروايته أبو الربيع السمان وهو: أشعث بن سعيد وهو ضعيف, ويروي هذا الحديث عن عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف أيضاً, ضعفه يحيى بن معين وغيره, وقد قال فيه البخاري : منكر الحديث, وهذا المعنى حمله عليه أيضاً بعض العلماء من المفسرين, وله وجه كذلك.

المعنى الثاني ممن قال بإحكام هذه الآية: قالوا: إن هذه الآية نزلت في النافلة, وهذا جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه كما رواه ابن جرير الطبري من حديث عبد الملك بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه, قال سعيد بن جبير : ( كنا مع عبد الله بن عمر في سفر فكان يصلي على راحلته إلى غير القبلة, فقال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسافر من مكة إلى المدينة يصلي على راحلته جهة المدينة, فأنزل الله جل وعلا: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] ), وهذا المعنى جاء عن بعض المفسرين, فجاء عن إبراهيم النخعي , و عطاء , كما رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف عن عطاء بن أبي رباح أنه أفتى بمثل ما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

المعنى الثالث لمن قال بالإحكام: قالوا: إن هذه الآية محكمة والمراد بها استقبال القبلة, ففي قول الله جل وعلا: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115], قال بعض العلماء: إن معنى التولي جهة القبلة, هو أن الإنسان مهما تعددت جهاته ودارت به الأرض سواء اتجه شرقاً أو غرباً إذا كان على القبلة فتلك الجهات لا تؤثر، فهو يتولى وجه الله سبحانه وتعالى بحسب اتجاهه, فقبلة أهل اليمن تختلف عن قبلة أهل العراق, وقبلة أهل المدينة تختلف عن قبلة أهل البحرين, وهكذا, قالوا: فهؤلاء كلهم يولي وجه الله سبحانه وتعالى, وهي القبلة التي أمر الله جل وعلا باستقبالها, جاء هذا المعنى عن مجاهد بن جبر , قال: وهذه الآية محكمة على هذا المعنى.

وعلى كل سواء قلنا: بأن هذه الآية منسوخة أو ليست بمنسوخة؛ فإن المقطوع بذلك أن هذه الآية لم يقل أحد من أهل الإسلام: إن الإنسان له أن يستقبل ما شاء من الجهات, ومن قال: إن للإنسان أن يستقبل ما شاء من الجهات لظاهر هذه الآية فهو كافر مرتد, ولا خلاف عندهم في ذلك, وإنما الخلاف في حالها, هل كانت قبل نسخ القبلة أو بعد ذلك, وإذا كانت بعد ذلك فما المعنى المراد بها, ولا خلاف عندهم على مجموع هذه المعاني, إنما الخلاف فيها على هذه المعاني.

استقبال عين الكعبة وجهتها في الصلاة

وهذه الآية إذا حملناها على المعنى في عدم النسخ مع المعنى الذي جاء عن مجاهد بن جبر فإنها تفيد عدم التشديد في أمر القبلة لمن كان بعيداً من أهل الآفاق ومن لم ير الكعبة, فإن الأمر في ذلك يسر.

فلدينا جهة وهي التي يصلي إليها الإنسان ممن لم ير الكعبة، ولدينا عين عين الكعبة, فالإنسان إذا عاينها بعينه فإنه يجب عليه أن يصلي عياناً إليها, وهذا محل اتفاق عند العلماء, ولا يجوز له أن يصلي جهتها غير مصوب عليها, منحرف عن حائطها فإن صلاته باطلة, وهذا محل اتفاق عند العلماء, وهذا في حال المشاهدة.

وأما إذا كان الإنسان لا يراها, تحول بينه وبينها الجبال وهو من أهل مكة أو كان بعيداً عنها, فصلى جهتها ثم بان أنه لم يصوب عليها فصلاته صحيحة على قول جماهير العلماء, كذلك على الصحيح من كان في الحرم, وحال بينه وبين الكعبة ومباشرتها الحيطان أو المباني وشق عليه أن يراها, فصلى ناحيتها ثم بان له أنه انحرف عنها قليلاً فصلاته صحيحة على قول جماهير العلماء.

وأما استقبال عين الكعبة لمن عاينها فنقول: إنه يجب التصويب عليها للمنفرد والإمام وهذا لا خلاف فيه.

ولكن إذا خرج المأموم عنها شيئاً يسيراً هل تصح صلاته أم لا؟ أولاً ينبغي أن نبين أن الصفوف حول الكعبة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء الراشدين لم تكن مستديرة, وإنما كانت صفاً واحداً من جهة الباب, فيبتدأ من الحجر إلى الحِجر فإذا زاد الصف انقطع وبدءوا بصف آخر وهكذا, وكلما ابتعدت الصفوف زادت الصفوف؛ لأنه كما لا يخفى أن أمر الجهة وهذا معلوم بالحس, ومعلوم أيضاً حتى عند علماء الهندسة أنهم يقولون: أن الزاوية كلما ابتعد اتسعت وكلما قرب منها ضاقت, ولهذا الإنسان يقف مثلاً بعيداً عن منزل أو نحو ذلك فيقول: إنه عن يميني, بينهما لو مشى إليها خطاً مستقيماً لوجد أن بين النقطة التي يصل إليها وبين ذلك البيت أو ذلك الجبل مسافة طويلة ربما تزيد على كيلو متر أو أكثر من ذلك بحسب بعده, وهو في ذاته يرى أنه مصوب, ومن كان بعده مثلاً بمائة متر أو أكثر من ذلك, أو ربما كيلو وكل منهم يرى أن ذلك المكان البعيد هو صوبه, وهذا معلوم، فكلما بعد الإنسان اتسعت الجهة بالنسبة له, وكذلك أيضاً العين, فإذا قلنا: بأن الصفوف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر فهل نأخذ من ذلك أنهم ييسرون في أمر المأموم, وذلك أن الصفوف إذا كانت في أحد حيطان الكعبة من جهة البيت يصلون صفاً واحداً ثم يليه صفاً آخر ثم آخر ثم آخر وهكذا, فهل كانوا ييسرون للمأموم, وذلك مثلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم حج معه أكثر من مائة ألف, وهؤلاء قطعاً لا يصلون جماعة بكل هذا العدد؛ لأنه لو أراد إمام أن يصلي بهم ما استطاع أن يبلغ الصوت ولو كان وراءه عشرة يبلغون لتغيرت الأركان قبل أن يصل الصوت إلى من كان متأخراً, وهذا معلوم, وإنما يصلون جماعات, كل على جهة, وينزلون منازل متعددة, ولكن هذه الجماعات حتى لو قلنا: إنهم ألف يصلون, فإن هذا يشق أيضاً من جهة تبليغ الصوت لمن صلى خلفه؛ كأن يكون مثلاً الصف العاشر أو العشرين ونحو ذلك, وفي هذا شيء من المشقة, إلا أن نقول: إنهم كانوا لا يصلون جماعات في موضع واحد بالعدد الواحد, وإنما كانوا يصلون جماعات متتالية وهذا أمر محتمل.

والصفوف إنما استديرت في ولاية خالد بن عبد الله القسري وهو أول من جعلها مستديرة, كما ذكر ذلك الأزرقي في كتابه أخبار مكة عن سفيان بن عيينة قال: أول من أدار الصفوف حول الكعبة خالد بن عبد الله القسري , وذلك أجازه بعض العلماء من الأئمة من السلف, كما جاء هذا عن ابن الزبير وكذلك عطاء , ويستأنسون بالملائكة في مقامهم عند العرش, وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ [الزمر:75], أي: مستديرين على حافة العرش, قالوا: وإذا كان كذلك فإنه يجوز أن تدار الصفوف, كما ذكر ذلك الأزرقي في أخبار مكة عن ابن جريج عن عطاء عن ابن الزبير , وهذا معنى حسن من جهة الاستنباط, وعليه مضى أمر الناس, فيكون الإمام من جهة الباب, ثم يصلي الناس مستديرين حول الكعبة.

والذي يظهر والله أعلم أنه يخفف للمأموم ما لم تتغير جهته عن الكعبة، أما الأمام والمنفرد فهذا محل اتفاق ولو خرج شيئاً يسيراً عن صوبها وجب عليه أن يعيد الصلاة, أما المأموم فلدينا صوب ولدينا جهة, الجهة هي التي يتوجه إليها الإنسان وهي ناحية الشيء, وأما التصويب فهو أن يصيب بوجهه هذه الجهة, فإذا تحققت الجهة مع انخرام شيء من التصويب فصلاته صحيحة ما لم يفحش ذلك, والعلماء يحترزون في هذا, ويدل على احترازهم أنهم أداروا الصفوف؛ خشية أن تزيد الصفوف ثم يبالغ في مثل هذا الأمر.

ويبغي للإنسان في مسألة استقبال القبلة الاحتياط, وإنما نقول بمثل هذا المعنى استئناساً بمثل هذه الآية وهي قول الله جل وعلا: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115], وقد نقول بمسألة التيسير على من كان بعيداً لهذه الآية أيضاً؛ كمن كان بالمدينة أو كان من أهل جدة ونحو ذلك أنه لا يلزمه التصويب والدقة, وهذا ما يذهب إليه جماعة من العلماء من المحدثين المحققين وغيرهم؛ كالإمام أحمد رحمه الله وغيره, فإن الإمام أحمد رحمه الله ينكر على من يهتدي ويستدل بالنجوم على القبلة إذا كان يعرف الجهة, وكأنه يقول: صل على الجهة ولا تدقق في هذا, فينكر على من يستدل بالجدي لضبط القبلة؛ لما في ذلك من التشديد على الناس.

تخريج حديث: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)

ويظهر والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال لأهل المدينة وقد اختار القبلة لأمته وضبطها عليه الصلاة والسلام, قال: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ), ويقصد بذلك أهل المدينة, وهذا الحديث قد تكلم فيه بعضهم, وإن كان لا يصح مرفوعاً إلا أنه صحيح عن عمر بن الخطاب , و عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, وجاء معنى ذلك عن علي بن أبي طالب و عبد الله بن عباس , و سعيد بن جبير وغيرهم من السلف.

وأما المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ), فجاء من حديث أبي هريرة و عبد الله بن عمر .

أما أبي هريرة فقد رواه الإمام أحمد و الترمذي وغيرهم من حديث عبد الله بن جعفر عن عثمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة , وجاء من وجه آخر أيضاً من حديث سعيد المقبري عن أبي هريرة , وجاء من وجه آخر من حديث أبي معشر نجيح يرويه عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة , وقد أعل هذا الحديث غير واحد، كـالبخاري و الترمذي و ابن رجب و غيرهم, ولكن جاء أيضاً من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً, والصواب فيه الوقف, وصوب الوقف أبو زرعة كما في العلل, و الدارقطني والحافظ ابن رجب رحمهم الله.

ومال إلى عدم صحة المرفوع الإمام أحمد رحمه الله فقال: ليس له إسناد, يعني: المرفوع, وصححه عن عمر بن الخطاب , فإنه قد جاء عن عبد الله بن عمر من حديث نافع عنه, وإسناده عنه صحيح, وجاء أيضاً عن عمر بن الخطاب رواه الإمام مالك من حديث نافع عن عمر بن الخطاب مرسلاً , وجاء موصولاً كما ذكره الدارقطني في العلل, من حديث نافع عن عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ).

وهذا الحديث المرفوع وإن كان ضعيفاً إلا أن ثبوته عن جماعة من الصحابة يدل على الاعتداد بمعناه.

التيسير في أمر القبلة

والمراد ما بين المشرق والمغرب قبلة هو أمر التيسير وعدم التشديد على الناس؛ ولهذا نقول للإنسان: وإن كان يستطيع أن يهتدي لضبط ذلك بما يسمى بالبوصلة, وما يسمى بعلم النجوم والحساب, فإن الأولى له أن يهتدي إلى الجهة, ونقول له حال الإنسان في ذلك على حالين: الحالة الأولى: إذا كان يعرف الجهة فيصلي إليها من غير حساب.

الحالة الثانية: إذا كان لا يعرف الجهة, لا يدري الشرق من الغرب, لا حرج عليه أن يستعين بشيء من آلات الحساب.

والحالة الأولى إذا عرفها أو عرَّفَه أحد بدقة فعليه أن يصلي صوبها ولا يصلي إلى غيرها مع انحراف يسير ولو كان إلى جهتها؛ فمثلاً إذا قيل له إنها على درجة تسعين ونحو ذلك ثم انحرف شيئاً يسيراً وهو يعلم أن التصويب على ذلك, نقول: إنه ينبغي له أن يصوب ولا ينحرف ولو كان على جهتها, وإنما في قوله: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ), توسعة ابتداءً لا في حال المعرفة, ومن عرفها صوباً ولو كان بعيداً فإنه ينبغي أن يصوب عليها كحال من يعاينها, وينبغي ألا يشدد الناس إذا وجد في بعض المساجد في القرى أو المدن ونحو ذلك انحرافاً يسير عن القبلة, بل يبقي الأمر على ما هو عليه, والتشديد بهدم المساجد وحرف القبلة ونحو ذلك لوجود انحراف يسير هذا فيما أرى أنه مخالف للسنة وعمل السلف, لقوله هنا: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ), فهو نظير قوله: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ), أي: أن الأمر في الضبط بالحساب ليس مطلوباً, وإنما جاء الأمر للتيسير؛ لأنه ما كل أحد يستطيع أن يوجد البوصلة, ويستطيع أن يتعلم بالنجوم ونحو ذلك, فيترك الناس على الجهة, إلا في حال انتفاء الجهة فإنه حينئذ يستعمل آلات الحساب والضبط بما يسمى بالبوصلة, أو تحديد الجهات بمعرفة النجوم والأفلاك, فإن هذا من الأمور الواجبة حينئذ.

الصلاة إلى غير القبلة جاهلاً أو ناسياً

وأما الصلاة إلى غير القبلة للجاهل أو الناسي فصلاته صحيحة على قول جماهير العلماء, وهذا قد جاء عن جماعة من السلف, وهذا نظير مسألة في الصيام وهي: أفطر وهو يظن أن الشمس قد غربت ثم بان ظهورها, والمسألة أيضاً فيها خلاف.

الصلاة نافلة إلى غير جهة القبلة

أما بالنسبة لمن أراد أن يصلي النافلة إلى غير القبلة, فنقول: له ذلك ولو لم يستقبلها ابتداءً؛ كالإنسان يكون على راحلته, على السيارة, أو على الطيارة, أو نحو ذلك, فأراد أن يصلي نقول: صل كيفما شئت في النافلة فالأمر في ذلك سواء, وهذا في حال السفر. وأما في حال الحضر فيجب عليه أن يستقبل القبلة في النافلة كالفريضة, ولو صلى إلى غير القبلة في النافلة في حال الحضر بطلت صلاته، ويجب عليه أن يعيدها إذا كانت واجبة عليه إما بنذر أو نحو ذلك, وكذلك على القول بوجوب قضاء العبادة الباطلة ولو كانت نفلاً. وأما الصلاة على الراحلة في الحضر فإنها لا تجوز على قول عامة العلماء, وذهب قلة وهو من العلماء مروي عن أنس بن مالك وفيه حديث مرفوع ولا يصح, ونسب لبعض الفقهاء من الحنابلة؛ كـابن عقيل , ونسب أيضاً رواية عن الإمام أحمد وفيها نظر أنه يجوز ذلك.

هنا الآية الثالثة, ولعلنا نرجئ الثانية؛ لأنها تحتاج إلى مجلس كامل, فلا نستطيع أن نقسمها بين مجلسين وهي في قول الله جل وعلا: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124], وهي سنن الفطرة, والكلام عليها وكما جاء ذلك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه, حيث قال: ابتلاه بعشر: خمس في الرأس، وخمس في سائر الجسد, وتحتاج إلى كلام, ومما في الرأس: السواك, وقص الشارب, وفرق الشعر, والمضمضة, والاستنشاق وأحكامها, وكذلك أيضاً ما كان في الجسد من نتف الإبط, وحلق العانة, والاستنجاء, والاستجمار, والختان, وهذه تحتاج إلى مجلس كامل في هذه الآية, لهذا نرجئها إلى المجلس الآتي. ونأخذ التي بعدها وهي: قوله جل وعلا: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125].

قول الله سبحانه وتعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:115], اللام هنا للتمليك, فالله سبحانه وتعالى مالك المشرق والمغرب وما بينهما, والمراد من ذلك: تمام ملك الذات والتدبير والتصرف فيها, والتصرف فيما بينها, فالله جل وعلا حينما بين ملكه للمشرق والمغرب أراد أن يبين ذلك لمن ملكه من عباده, فهو يملك العباد, فأراد أن يبين لهم ملكه للمشرق والمغرب وما بينهما, وأن الله سبحانه وتعالى يوجه العباد إلى ما أراد جل وعلا من التصرف في الكون.

وقوله جل وعلا: الْمَشْرِقُ [البقرة:115]: هو مطلع الشمس, وكذلك مطلع القمر يسمى: مشرقاً, وهو مصدر؛ كقولنا: مسجد؛ الموضع الذي يسجد فيه, وكذلك المشرق: الموضع الذي تشرق فيه الشمس ويشرق فيه القمر, كذلك أيضاً المغرب: موضع غروب الشمس وغروب القمر؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى بين ملكه وتدبيره للمشارق والمغارب فقال: رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [المعارج:40], فإذا جاءت المشارق والمغارب على الجمع فهي مطالع الشمس ومطالع القمر المتعددة, ومعلوم أن مشرق الشمس يخرج في موضع ولا يخرج منه مرة أخرى حتى يأتي العام الذي يليه, فثمة درجات يسيرة, ويغرب في مقابلها كذلك على درجة يسيرة يعرفها أهل الفلك, فهذه هي المشارق, والمغارب هي التي تقابلها, فالله جل وعلا رب هذه المشارق ورب هذه المغارب.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير آيات الأحكام [30] 2757 استماع
تفسير آيات الأحكام [48] 2719 استماع
تفسير آيات الأحكام [54] 2520 استماع
تفسير آيات الأحكام [22] 2441 استماع
تفسير آيات الأحكام [58] 2332 استماع
تفسير آيات الأحكام [25] 2313 استماع
تفسير آيات الأحكام [35] 2266 استماع
تفسير آيات الأحكام [11] 2211 استماع
تفسير آيات الأحكام [55] 2171 استماع
تفسير آيات الأحكام [32] 2170 استماع