أرشيف الشعر العربي

إيقاع للفقر الجديد

إيقاع للفقر الجديد

مدة قراءة القصيدة : 7 دقائق .

أيار/ 1991‏

- إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك-‏

* أبو ذر الغفاري‏

سحبٌ من الفقرِ الجديدْ‏

تنمو، وتصعد في فضاء الأمة الخاوي،‏

وتهطل في صحارى حلمنا الهاوي،‏

وتكمن في الدّماءْ‏

للزَّرع سيرتُه يرتّلها العبيدْ‏

والأرض تحفظها وميراث الخواءْ‏

هبّت علينا الرّيح عاريةً، فتحنا كلَّ نافذةٍ،‏

ولم يسلم سوى صدأ الحديدْ‏

ألحانُها وحشيّة الإيقاع، يرقص حولها‏

جنُّ التّراب مع السماءْ‏

وقتٌ تجدّده المراثي والفضاءُ نَمَتْ بهِ‏

سحبٌ من الفقر الجديدْ‏

آه على فقر الفضاءْ‏

آه على الفقر الجديدْ...‏

في اللّيل كان الرّوح يُخرِجُ للمدى أثقالَهُ‏

ويبيح أسرار المنافي‏

روح على أرض الجنون مشت طحالبُه وأسرف في الجنونْ‏

واخضرَّ فيه دم العيونْ‏

روح جَموحٌ طار فوق الخيل فاحترق الهواءْ‏

... ... ...‏

سحبٌ تلّف مآذنَ العشّاق، فاشَهْد صبوةَ الأشواقِ،‏

واكشِفْ سرَّكَ الباقي لآلهةِ الجنودْ‏

هل أنتَ من نجدٍ؟‏

سنُتْهِمُ كلّما انتسب المغنّي للنّجودْ‏

هل أنتَ للحريّة الحمراء والصَّفراء؟‏

هذي الأرض أحذيةٌ تضيء سمومُها ليلَ الحدودْ‏

أين المسافر ينحني بعد الغيابْ؟‏

هي لحظة النّيران تكبر... تستديرْ‏

طاحونةُ الأسماء، لا أسماءَ في هذا الخرابْ‏

إلاّ لظلِّ الفقر، للرّوح الفقيرْ‏

هيّا، سننسبُ للقبائل كلَّ منفيٍّ،‏

منازلنا الأليفةُ أقفزَتْ من عاشقيها‏

ليس فيها من بنيها غيرُ بائعها وشاريها‏

و(حاميها...) ويا بؤس التّرابْ‏

ينشقّ عن جثثٍ مقنَّعةٍ، عروشٌ من حريرْ‏

تسمو على أعناقنا وتقيم هاوية العذابْ‏

نحن الفتوحُ المشرقيّهْ‏

هُجِرتْ حقولُ غنائنا‏

وهوت طيور سمائنا‏

هل ننتقي لجنازة الأرواح من تأتمُّ خلفَهْ؟‏

طوفوا إذاً في الباديَهْ‏

وسلوا جموع الفتح أين يخبّىءُ السّلطانُ سيفَهْ؟‏

في ظهرنا، أم في البقايا الباقيهْ؟‏

نختار من غابات موتانا نبياً شاهداً‏

لكَ ننحت الأوثان مولانا، نسميّك الوحيدَ الواحدا‏

بكَ معبد الظّلمات مبتهج،‏

وخلفك كان شيخ العالم المهجور عبداً عابدا‏

بك تحلم الفتياتُ وقت زفافهنَّ،‏

وأنتَ للأيتام كنتَ الوالدا‏

خذ هذه الأشعارِ مطفأةً، ألستَ المُنشدَا؟‏

واحفظ- حُفظتَ- صفاءَها وصفاتها‏

زيّنْ سياج الوقت من شهواتها‏

أنا ما بلغتُ الشّيبَ يا مولاي، لكنَّ العذارى‏

خلف باب الفقر يلسعن الضّلوعْ‏

هنّ الأناشيد اليتيمة وحدهنَ لآلىءُ الأعراسِ.‏

يطلقن الفراش من الصّدور،‏

على الصّدور تزهّر الأغصانُ،‏

عطَّرَها نعاسُ الفجرِ...‏

يا مولاي، زوجتك المقدَّسَةُ اشترتْ ميراثهنَّ،‏

فغبن في ملكوتكَ العالي وأحرقن القلوعْ‏

مولاي يا مولاي امرأةٌ تجوعْ‏

أنثى تحلّ ضفيرةَ الأعياد،‏

تغسلها بماء القلبِ،‏

تحتشد النّهود وراء أرتالٍ من البؤس العجوزْ‏

مولاي يا مولاي امرأةُ الكنوزْ‏

فازت برضوان الاله، ومن يفوزْ‏

برضاه إلاّها؟‏

وفي قلبي إناث الفقر أسرارٌ يتوّجها العلَنْ‏

أنثى تعدّ رغيفها ونباتها‏

أنثى ستنسخ عن دمي مأساتها‏

فيها من الأحزان ما يبني وطنٌ‏

أنثى تشيب حديقةُ الفخذين فيها وهي مرآةُ الزّمنْ‏

لا فرق- ليل زفافها- بين البياض أوالكفنْ...‏

... ... ...‏

سحبٌ من الفقر الجديدْ‏

غشيتْ كهوف العائدين من الحروبْ‏

والحرب معجزة تعيدْ‏

نبضَ القلوب إلى القلوبْ‏

سحبٌ دَنَتْ، سترَ العيونَ غبارُها‏

ورمت على البلد البعيدْ‏

برقَ الحجارة والرعودْ‏

والماءُ ينضب في عروق العاشقينْ‏

والزهر في الأرحام يذبل يستكينْ‏

... ... ...‏

هذي نبوءتي المشعَّهْ‏

بالقلبِ أبصرُ لوعةً أُخفي تدفُّقَها بلوْعَهْ‏

وحدي مع الصّحراء أستجلي وأطوي أضلعي‏

وأرى الفضاءَ يشقّ ضلعَهْ‏

تثبُ الكواكبُ فوق أعمدة الغبارْ‏

اللّيل في جسدي وفي الأعماق مفتاحْ النَّهارْ‏

علناً أغطي هامتي بشعاع أغنية ترف طيورها‏

وأرى القوافل داخلي نُهبت وسالت في الرّمال خمورها‏

أنا وحشة الصّحراء، في رئتيَّ مئذنتان للأمم القديمَهْ‏

أمم متيَّمةٌ يتيمَهْ‏

ألواحُها نُقشت بأظفاري، وأرَّخها انهياري فوق أرضٍ من غضارْ‏

أنا نجمة الرّؤيا الّتي اختبأت وراء سحابة الجوعى‏

وعشّاق القمرْ‏

ما زلتُ أرقبُ ظلمةَ الآتين من تيه الغَجَرْ‏

غجرٌ رموا للرّيح موسيقى الجموحْ‏

واستأنسوا بالنّار حين اللّيل ينشر ما استَتْر‏

شهواتهم جسدٌ وروحْ‏

وهواؤهم سفرٌ يشرّدُه السَّفَرْ‏

أنا لعنةُ الهجراتِ، هذا البحرُ يشهد سِفرُهُ‏

وحدي مع الصحراء تنسجني خيولُ الفاتحينْ‏

بدوٌ وأعرابٌ تشظّتْ شجرةُ الأنساب فيهم فاستجاروا بالحنينْ‏

ومضوا على ذِكْرِ الضّلال أو اليقينْ‏

هم سورة ما رتّلتها المئذناتْ‏

في الفجر، ما انتعشت بحبِّ المنشدينْ‏

هم أمّة العشّاق خانتهم بطونُ العاشقاتْ‏

عقمٌ تكاثَرَ نملُه في كلّ أرضٍ فوقها‏

سحبٌ من الفقر الجديدْ‏

عقمٌ ترسب في النًّباتْ‏

في دورة الأحلامِ، في رئةِ الطفولَهْ‏

حملتْ به الصَحراء تابوتَ القبيلهْ‏

هم أمّة الموتى القتيلهْ...‏

... ... ...‏

سحبٌ من الفقر الجديدْ‏

تنمو، طوائفُ أم هي الطَّبقاتُ أم نُذُرُ العشائرْ‏

هبت من الانقاض، ينشدُ من جديدْ‏

ميلادها القبليَّ شاعرْ؟‏

ماذا يحلّ الآن في مدن الصّديدْ؟‏

الأنبياءُ تراجعوا وتلمَّس الشّهداء جدرانَ المقابرْ:‏

لكَ يا ترابُ خيامُنا السّوداء، أو راياتنا البيضاءُ،‏

والأعداءُ جاؤوا واستدلوا بالأحبَّةْ‏

لكَ يا تراب قبابُنا الصَّفراء تذوي،‏

أيّ نورٍ سوف تبعثه القبابْ؟‏

أرأيتَ أسلحةً الذّبابْ‏

تتدفّقُ؟‏

أسمعتَ آيات الكتابْ‏

إذ تشهقُ؟‏

لكَ يا تراب تحيّة المستضعفين،‏

تضاءلت فيهم شموسُ الحُبِّ وانتشَرَ الضَّبابْ‏

وأنا رأيت، وكلّ أعمى قد رأى‏

أنا ما نطقتُ عن الهوى‏

في ليلةٍ شاهدت فيها أمّتي تُهدي مآذنَها لجيشِ الرُّومِ،‏

فلتبدأ مكاشَفَةُ النّجومْ‏

ما زال يسرقُها الحبيبُ ولم يزلْ يعلو بها‏

نحو الخرابِ المستقيمْ...‏

... ... ...‏

سحبٌ من الفقرِ الجديدْ‏

نشرتْ عباءَتها على أرض الجليدْ‏

ماذا أقول لطفليَ الآتي؟‏

حبيبي أيّ تيهٍ بانتظاركَ؟‏

تلك جائحة الغياب تطلّ من خلف المدائنْ‏

والجوع يزحف من مرايا البحر، من أرض السّوادْ‏

خذ زهرة الفرح الوحيدهِ‏

انضُجْ بها، تنضُجْ عناقيدُ القصيدَهْ‏

واصمت أمام البحرِ تكويه الخرافات الجديدهْ‏

والحوتُ فيه مات من جوعٍ فلا تجرَحْ مراياه الشّهيدهْ‏

سلّمْ حبيبي بعد شيبتنا على هذا التّرابْ‏

وانقل لأزهار الثّلوج عبيرَنا‏

واسفَحْ عليها نورنا‏

نحنُ العجائز والثكالى‏

خذ يا حبيبي إرثَنا العبثيَّ وانثُرْهُ ظلالا‏

فوق الكوى المهجورةِ الأجراسِ، وافتَحْ خلفَ باب اليأسِ‏

بابْ‏

باباً ليدخل خاشعاً جثمانُنا‏

ويتمّ أغنيةَ الضّياع ضياعُنا‏

فليكتمل إيقاعُنا‏

ولينكسر إيقاعنا. ‏

اخترنا لك قصائد أخرى للشاعر (علاء الدين عبد المولى) .


المرئيات-١