أرشيف الشعر العربي

رؤيا الكارثة

رؤيا الكارثة

مدة قراءة القصيدة : 5 دقائق .

دمشق/ أيلول/ 1990‏

حمص/ شباط/ 1991‏

هنا أغنيَّتي احتشدتْ بميقاتٍ يُبشِّرُ بالمهاوي،‏

فادخلي من أيّ باب شئتِ يا لغتي‏

هي الأسرارُ تُعْلَنُ، والقصيدةُ بعضُ كارثتي.‏

... ... ...‏

تعالى باذخاً وهوى جبينُ الشِّعرِ فوق يدي‏

وسيَّجني بسحر الغيمة العذراءِ،‏

أعصرُ ضرعَها فيسيلُ قمحٌ أشقرُ الخطواتِ‏

يقتات اليباسُ به،‏

ويرفعُ فيه روحي قبّةَ الصّلواتْ‏

بمن أسريتِ يا لغتي وفجرُكِ لم يزل يحبو على جسدي‏

يحاور فيه قنديلاً من الظّلماتْ‏

يشيّع في دمي مرثيّةَ الشريانِ، يهبطُ بالغناء‏

على ضريح القلب ، يُحيْي في العظام رميمها،‏

ويَشيِعُ في بستانِ أطرافي صهيلاً أخضراً ونباتْ.‏

لمن توَّجت يا لغتي‏

حروفَ الطِّين، بالتَّكوين؟‏

بينكِ والمدى وادي الصَّدى،‏

تتراكمُ الأحجارُ فيه وتسقط الكلماتْ‏

أهاويةٌ تؤرّخُ روحنا الموبوءَ؟‏

هاويةٌ بلا أسماءَ لوَّثتِ السَّلامَ على الأحبَّةِ‏

والهيامَ، ولذّةَ التَّقبيلِ، والطِّفلَ الجميلَ،‏

وفضَّةَ الأصواتْ‏

خرابٌ عامرٌ هذا‏

إلى من أرفعُ القدَّاسَ فيه؟ سمعتُ أجراسَ الخريفِ‏

ترنّ في رئتي‏

فقام اليائسون إلى هياكلهم‏

ليعترف الفؤادُ المرُّ بالترحالِ خلف هواء جنَّازاتْ‏

وكنتُ زرعتُ كرسيّاً على كفّيَّ، أجلَسْتُ العويلَ عليه،‏

قلت: أضىءْ فراغَ المعبدِ الخاوي على‏

أنقاضِ أعمدةٍ بَناها الرُّوح فزَّاعاتْ‏

أصلّي قرب شاهدتي‏

يطوفُ فضاء ربِّي بالدّخان، وتحتَ جمجمتي‏

تولولُ جوقة الأمواتْ‏

هوى الكونُ الفقيرُ؟ أم النّسورُ تقاسَمَتْ‏

أعشاشَ غابتنا وعاد الكائنُ الحجريّ يتلو سورة الغاباتْ‏

ويعتادُ الغيابَ وراء غيب مقفرٍ.‏

تمضي عجائزهُ بذاكرة الطّفولةِ،‏

تردمُ الأنهارُ، تحشو بالغبارِ منافذَ الحدقاتْ‏

فيختطفُ المكانَ العقربُ الثَّلجيُّ،‏

تذهلُ كلُّ مرضعةٍ،‏

وتلفظُ أرضُنا الجرداء جوهَرَها،‏

وينتشرُ الجراد على نهودِ العاشقاتِ‏

وتنهدمُ الحياةُ على الحياةِ..‏

... ... ...‏

تهاوى من رواق الرّوح طيرُ الموتِ،‏

يبرقُ بالتَّراتيل الخريفيّهْ‏

ليحمل من سنابليَ الدّفينة زادَهُ، ويقيمَ في‏

تجويف تابوت أربيّه ليحضَن إرثي العاري‏

أقول لهابطٍ في اللَّيلِ:‏

خذْ من فاجعِ الإيقاعِ رقصَتَكَ البدائيَّةْ‏

وأنزلْ وحيك الأبدي في ميقاتيَ المرصوفِ بالأموات،‏

إنَّ ظلام جوهرتي يشعّ بكهف عينيَّا‏

هو الكهفُ القديمُ حفرتُهُ بجفون كارثتي‏

إذِ الوحش الفضائيّ استوى ورعى‏

زهورَ الحلم، واستلقى على أشلاء جنبيَّا‏

هو الكهف القديمُ، ادخلْ، ستعوي بضعُ قطعانٍ‏

فغابةُ روحيَ الصفراء ذئبيّهْ‏

ترنَّمْ طائري الآتي‏

ورفرفْ تحت أجنحتي‏

وبارك إثمَ أمواتي‏

هنا الجثمان مقبرةٌ وهذا الكون مأساتي‏

فنادمني قليلاً، مؤنسٌ جسدي وخمرةُ رعشتي ألَقٌ‏

وما أخفيه من فرح سيقتلني ويصلبني‏

غماماً في جدار الرّيح، أصهل خلف أصواتي:‏

سلاماً يا بروق العالم السّفليّ، ما أبرقتُ بعدُ،‏

ولم يزلْ عظمي كوىً للدّود، لم أفتحْ كتابي للرَّبيع،‏

وتحت أسمالي مراثي أمّةٍ عمياءَ، تنهشني‏

وأحملُها على ظَهري، وأشرُدُ في غروبِ الأرضِ، أُجْلِسُها‏

على حَجَرِ الخلودِ، ينامُ قلبي عند فضَّتها‏

وقبلَ الفجر، أحلم بالهشيم يلفُّ جنَّاتي‏

وأنهض، يصرخ الشّيطان قربي:‏

/بعتُ أمّتكَ العجوزَ لسيّدِ الألواح،‏

يَنْفثُ في قلائدها شعاعَ السِّحر، تجمدُ،‏

ثمّ يلقيها على قدميكَ شاهدةً لقبركَ، حين‏

تغضب منك آلهة السَّمواتِ/‏

ترنّمْ طائري الآتي‏

جنازةُ أمّتي وصلت‏

ولا أحدٌ وراء النَّعش غير الريح صافرةً‏

وجمعٍ من خراباتِ...‏

... ... ...‏

هي الرّؤيا استطابَتْ يأسها،‏

ورويتُ عن سِفْر الخرائب سيرةَ الحلمِ‏

وتابعتُ البريقَ المستفيضَ إلى نهاياتِ الينابيع القصَّيةِ‏

واستثرتُ الموتَ: طُفْ بالخلقِ، إنَّي لائذٌ بفتاتِ مائدتي‏

أشعّ بكأسيَ المكسور، أصعدُ...‏

يا فضاءً فائضاً ما زلتُ أعلى منكَ، فلتهبطْ عن القممِ‏

وحدّثْ في جموع الرّيح عن جسدٍ‏

تواطأ في عباءته إلهُ الشّعر والقَهرُ المكابرُ،‏

وانطوى فيه كتاب الخصب،‏

شدَّ الكونَ بالأهدابِ واتَّحدا مع العدمِ‏

وقل لهواء مرثيتي:‏

تنفّسْ من هوائي وامتزجْ بدمي‏

وقل: إنْ جفَّ بعضُ الماءِ في أضلاع هذا الكون،‏

فالأنهارُ تحت الجلدِ تكمُنُ، حيث‏

تولدُ عائلاتٌ من هلاماتٍ واشنياتْ‏

أنا الكونُ الأخيرُ لما يضيءُ الأرضَ من رعدٍ‏

يقشّر جوفَها الدَّامي‏

أنا النَعشُ الجديدُ لما يبيحُ الوقتُ من جنّازِ أحلامي.‏

اخترنا لك قصائد أخرى للشاعر (علاء الدين عبد المولى) .


ساهم - قرآن ٢