دمشق/ أيلول/ 1990 |
حمص/ شباط/ 1991 |
هنا أغنيَّتي احتشدتْ بميقاتٍ يُبشِّرُ بالمهاوي، |
فادخلي من أيّ باب شئتِ يا لغتي |
هي الأسرارُ تُعْلَنُ، والقصيدةُ بعضُ كارثتي. |
... ... ... |
تعالى باذخاً وهوى جبينُ الشِّعرِ فوق يدي |
وسيَّجني بسحر الغيمة العذراءِ، |
أعصرُ ضرعَها فيسيلُ قمحٌ أشقرُ الخطواتِ |
يقتات اليباسُ به، |
ويرفعُ فيه روحي قبّةَ الصّلواتْ |
بمن أسريتِ يا لغتي وفجرُكِ لم يزل يحبو على جسدي |
يحاور فيه قنديلاً من الظّلماتْ |
يشيّع في دمي مرثيّةَ الشريانِ، يهبطُ بالغناء |
على ضريح القلب ، يُحيْي في العظام رميمها، |
ويَشيِعُ في بستانِ أطرافي صهيلاً أخضراً ونباتْ. |
لمن توَّجت يا لغتي |
حروفَ الطِّين، بالتَّكوين؟ |
بينكِ والمدى وادي الصَّدى، |
تتراكمُ الأحجارُ فيه وتسقط الكلماتْ |
أهاويةٌ تؤرّخُ روحنا الموبوءَ؟ |
هاويةٌ بلا أسماءَ لوَّثتِ السَّلامَ على الأحبَّةِ |
والهيامَ، ولذّةَ التَّقبيلِ، والطِّفلَ الجميلَ، |
وفضَّةَ الأصواتْ |
خرابٌ عامرٌ هذا |
إلى من أرفعُ القدَّاسَ فيه؟ سمعتُ أجراسَ الخريفِ |
ترنّ في رئتي |
فقام اليائسون إلى هياكلهم |
ليعترف الفؤادُ المرُّ بالترحالِ خلف هواء جنَّازاتْ |
وكنتُ زرعتُ كرسيّاً على كفّيَّ، أجلَسْتُ العويلَ عليه، |
قلت: أضىءْ فراغَ المعبدِ الخاوي على |
أنقاضِ أعمدةٍ بَناها الرُّوح فزَّاعاتْ |
أصلّي قرب شاهدتي |
يطوفُ فضاء ربِّي بالدّخان، وتحتَ جمجمتي |
تولولُ جوقة الأمواتْ |
هوى الكونُ الفقيرُ؟ أم النّسورُ تقاسَمَتْ |
أعشاشَ غابتنا وعاد الكائنُ الحجريّ يتلو سورة الغاباتْ |
ويعتادُ الغيابَ وراء غيب مقفرٍ. |
تمضي عجائزهُ بذاكرة الطّفولةِ، |
تردمُ الأنهارُ، تحشو بالغبارِ منافذَ الحدقاتْ |
فيختطفُ المكانَ العقربُ الثَّلجيُّ، |
تذهلُ كلُّ مرضعةٍ، |
وتلفظُ أرضُنا الجرداء جوهَرَها، |
وينتشرُ الجراد على نهودِ العاشقاتِ |
وتنهدمُ الحياةُ على الحياةِ.. |
... ... ... |
تهاوى من رواق الرّوح طيرُ الموتِ، |
يبرقُ بالتَّراتيل الخريفيّهْ |
ليحمل من سنابليَ الدّفينة زادَهُ، ويقيمَ في |
تجويف تابوت أربيّه ليحضَن إرثي العاري |
أقول لهابطٍ في اللَّيلِ: |
خذْ من فاجعِ الإيقاعِ رقصَتَكَ البدائيَّةْ |
وأنزلْ وحيك الأبدي في ميقاتيَ المرصوفِ بالأموات، |
إنَّ ظلام جوهرتي يشعّ بكهف عينيَّا |
هو الكهفُ القديمُ حفرتُهُ بجفون كارثتي |
إذِ الوحش الفضائيّ استوى ورعى |
زهورَ الحلم، واستلقى على أشلاء جنبيَّا |
هو الكهف القديمُ، ادخلْ، ستعوي بضعُ قطعانٍ |
فغابةُ روحيَ الصفراء ذئبيّهْ |
ترنَّمْ طائري الآتي |
ورفرفْ تحت أجنحتي |
وبارك إثمَ أمواتي |
هنا الجثمان مقبرةٌ وهذا الكون مأساتي |
فنادمني قليلاً، مؤنسٌ جسدي وخمرةُ رعشتي ألَقٌ |
وما أخفيه من فرح سيقتلني ويصلبني |
غماماً في جدار الرّيح، أصهل خلف أصواتي: |
سلاماً يا بروق العالم السّفليّ، ما أبرقتُ بعدُ، |
ولم يزلْ عظمي كوىً للدّود، لم أفتحْ كتابي للرَّبيع، |
وتحت أسمالي مراثي أمّةٍ عمياءَ، تنهشني |
وأحملُها على ظَهري، وأشرُدُ في غروبِ الأرضِ، أُجْلِسُها |
على حَجَرِ الخلودِ، ينامُ قلبي عند فضَّتها |
وقبلَ الفجر، أحلم بالهشيم يلفُّ جنَّاتي |
وأنهض، يصرخ الشّيطان قربي: |
/بعتُ أمّتكَ العجوزَ لسيّدِ الألواح، |
يَنْفثُ في قلائدها شعاعَ السِّحر، تجمدُ، |
ثمّ يلقيها على قدميكَ شاهدةً لقبركَ، حين |
تغضب منك آلهة السَّمواتِ/ |
ترنّمْ طائري الآتي |
جنازةُ أمّتي وصلت |
ولا أحدٌ وراء النَّعش غير الريح صافرةً |
وجمعٍ من خراباتِ... |
... ... ... |
هي الرّؤيا استطابَتْ يأسها، |
ورويتُ عن سِفْر الخرائب سيرةَ الحلمِ |
وتابعتُ البريقَ المستفيضَ إلى نهاياتِ الينابيع القصَّيةِ |
واستثرتُ الموتَ: طُفْ بالخلقِ، إنَّي لائذٌ بفتاتِ مائدتي |
أشعّ بكأسيَ المكسور، أصعدُ... |
يا فضاءً فائضاً ما زلتُ أعلى منكَ، فلتهبطْ عن القممِ |
وحدّثْ في جموع الرّيح عن جسدٍ |
تواطأ في عباءته إلهُ الشّعر والقَهرُ المكابرُ، |
وانطوى فيه كتاب الخصب، |
شدَّ الكونَ بالأهدابِ واتَّحدا مع العدمِ |
وقل لهواء مرثيتي: |
تنفّسْ من هوائي وامتزجْ بدمي |
وقل: إنْ جفَّ بعضُ الماءِ في أضلاع هذا الكون، |
فالأنهارُ تحت الجلدِ تكمُنُ، حيث |
تولدُ عائلاتٌ من هلاماتٍ واشنياتْ |
أنا الكونُ الأخيرُ لما يضيءُ الأرضَ من رعدٍ |
يقشّر جوفَها الدَّامي |
أنا النَعشُ الجديدُ لما يبيحُ الوقتُ من جنّازِ أحلامي. |