أرشيف الشعر العربي

سفر في مخيلة الحبر

سفر في مخيلة الحبر

مدة قراءة القصيدة : 6 دقائق .

وقرعتُ بابَ الحبرِ،‏

بستانٌ وراء الحبر مختومٌ،‏

خذيه ونظِّفيه من البقايا اليائسَةْ‏

ليحلَّ في جسدي صباحٌ من حواس غامضَةْ‏

وأضمّ أحلاماً بأطفالٍ غسلتُ خطاهُمُ‏

وتبعتُ عطراً في ضمائرهم وقلتُ تدفَّقوا‏

بين الضّحى واللَّيل،‏

هذي الأرضُ أبوابٌ تقلِّد شاعراً في رقصِهِ‏

فخذوا أراجيح الضّياءِ‏

وقلِّبوا بأكفِّكُمْ هذا التُّرابَ‏

لينجلي ذهباً أشكُّ شعاعَهُ عقْداً‏

لسيِّدةٍ تناولني الصَّباح بكفِّها‏

وتريقُ صوتَ حريرها بين العروقِ اليابسَةْ‏

كم فيكِ بايعَ شاعرٌ قلقاً‏

وأطلق في يديك شتاءَهُ‏

فاستنبتي قمحاً يباشُرهُ‏

فإنّ الروح أوّلُه كلامُ القمحِ في جسدٍ قديمْ‏

وصدى أجنَّته يسافرُ في بروق الأرضِ‏

يسكنُ أيَّ ينبوعٍ فضائيٍّ تفجَّرَ‏

أزرقاً من سرَّةٍ نشوى لآلهة الجمالْ‏

هذا الجمالُ خطاب فلاَّح إلى مطرٍ‏

رسالةُ طفلةٍ لدُمى المساءِ‏

عناقُ عشّاقٍ‏

ورعشةُ شاعرٍ في كأسِ ضوءٍ باذخٍ بالياسمينْ‏

هذا الجمالُ ازّيّنتْ منهُ حدائق بابلَ العليا‏

تماثيلُ الألوهةِ في زمان الصَّيدِ...‏

هل تتذكّرين بدايةَ الظّلماتِ‏

كانت هذه الأرضُ الفَراشَ الأنثويَّ‏

رحيقُها الأجسادُ يمزجُه العبادُ لربَّة الإيقاعِ...‏

هل تتذكَّرينْ؟‏

كانت أنوثتُكِ القصيَّةُ عرشَنا البحريَّ‏

عودي نحو كوخِ الغابةِ العذراءِ‏

نصطادُ الثّمار لطفلنا‏

وتشعّ بين معابدِ الأعراس فطرتُنا‏

تضيءُ على جموع الشَّاكرينْ‏

والآن أنتِ هنا، هنا،‏

تتأبَّطين صباح قيثارٍ‏

وتنسربين بين أنامل الوقتِ‏

المبلَّل بالغموضِ وتهربينْ‏

ولكِ القصيدة تنحني‏

امتلئي بهذا المشهد الشَّتويّ‏

سوف أُعِدّ أبراجاً لصوتِ حمامنا‏

وألمّ أسحاراً أزيّنُ من كواكبها نباتَ سلامنا‏

سأكونُ أوّلَ من يراكِ هنا،‏

وآخرَ من يراكِ هناك في سُحب الرَّبيعْ‏

لا تفرطي في الصَّحو، هذا الكونُ ذئبيٌّ مُرِيعْ‏

فلتدخلي ملكوت مائي نرجساً‏

ولتجلسي في طاقةٍ زرقاء تربطني بعالي الغَيْمِ،‏

يدهشني رنينُ لسانِكِ الشّعريِّ‏

يُطْلِعُ من يديَّ حديقةً‏

أُبلي بلاءً سرمدياً في مداخلها‏

وأستبقُ الجميعْ‏

هل جاء قبلي شاعرٌ بالحَدْسِ يمعنُ في خطاه إليكِ‏

منذ بكيتِ وانكسرَتْ بوجهكِ غيمتانِ‏

فوجدتُ باباً للأغاني‏

كان النَّشيدُ مجنَّحاً بيديكِ،‏

حلّقْ سيّدي الإيقاعَ‏

لسنا هامشاً في آخر السَّطر‏

الوجوديّ الأخيرْ‏

نحن الكتابةُ أوّلاً‏

والقلبُ حبرُ دعائنا السّريِّ‏

حين نضيءُ في اللَّيل الضَّريرْ‏

... ... ...‏

والحبُ يأخذني إليكِ...‏

للحبر- هذا السيد الخلاَّقِ- بوصلةٌ‏

أسافرُ خلفَها وأضيعُ من شطٍّ إلى شطٍّ‏

أوزّعُ في المتاه رغائبي‏

أُلقي- يميناً- بَرْقَ أعيادٍ‏

وأشعل في الجنوبِ‏

شفقاً يدلّ على حبيبي‏

فإذا وصلت إلى الشّمال‏

رفعتُ قلبي خرزةً زرقاء تدفَعُ عنكِ‏

شرَّ الحاسدينْ‏

ورميتُ أمتعتي على بابٍ مصابٍ بالحنينْ‏

وغرقتُ في موجٍ تبعثرُه يداكِ‏

فهل أعودُ بسلَّة مثقوبةٍ‏

تلهو بها ريحُ الهلاكْ؟‏

... ... ...‏

الآن يختمرُ الرَّحيلُ إليكِ‏

عبرَ الشَّاعرِ الجوَّال يحملُ في يديه كراتِ نارٍ‏

أطفئيها في يديكِ‏

ردِّي عليَّ جنونَ ريحي‏

واهربي لأراكِ أوضَحَ...‏

آهِ من لغزٍ يخبِّئهُ وضوحي...‏

شكراً لصوتِكِ، لو يهذِّبُ لي جموحي‏

أو يستعيرُ من الوصايا حكمةً أولى‏

دعي سِفْرَ الوجودِ بلا دليلْ‏

في الوقت نارٌ زورقي فيها يغامرُ‏

لونها عسلٌ نبيذيٌّ‏

وزرقتُها بنفسجُ صدركِ الظَّمآنِ‏

أصعَدُ في لهيبكِ‏

ثم أولدُ طائراً يرثُ الفضاءَ المستحيلْ‏

فأرى القيامةَ صورةً للموتِ‏

يا موتي الجميلْ.‏

جمّلتِ أوراقَ القصيدَةْ‏

واخترتِ كرسيّاً قريباً من عواصف موسمي الآتي...‏

أخاف عليكِ وحشاً مخملياً داخلي‏

يمضي ليلْتهمَ الرَّغيف الأنثويّْ‏

ويعود نحو ضلوعِهِ متداعياً يبكي‏

ويُخْفي عنكِ صرختَهُ البعيدَهْ‏

أقرأتِ في عينيَّ صوفيّاً يدمّر ذاتَهُ‏

ليعيدَ تأليفَ الدَّمار؟‏

أتصدّقين نحيبَ مزماري؟‏

ضعيني داخلَ المرآةِ وارتجفي قليلاً‏

أنا لستُ خابيةً معتَّقةً من الأفراح‏

لكنّي أحاولُ أن أمرَّ على الحياةِ‏

كشاعرٍ يلدُ الحدائقَ من يدَيْهِ‏

أو يحاول أن يضيء لها سبيلا‏

هل كنتِ من عرَّيتُ ذاتي في سرائرها‏

.. وكنتِ جميلةً‏

تصغين للبحر المكوَّر في يدي‏

يلقي عليكِ حشودَ أسرارٍ...‏

أكنتُ إذاً جميلا‏

قلتِ القصيدةُ مستحيلَةْ‏

هل كان بحري مستحيلا؟‏

أطلقتُ فيكِ زوارقاً زرقاءَ...‏

سيري في الزمَّانْ‏

ولتكسري بخطاكِ بضْعَ حصىً،‏

ضعي نيسانَ بين يديكِ،‏

صوغيه مكاناً للمكانْ‏

رشّي عليه رنينَ قلبكِ،‏

خائفٌ نيسانُ، أعطيهِ الأمانْ...‏

وتوهَّجي بين الخيال وظلِّه‏

كأذانِ فجرٍ نازلٍ فوقي‏

أساوِرُهُ تفتِّتُ في شغافي رنّةً‏

كسقوطِ أغنيةٍ من الفيروز في حضنٍ من الياقوتِ‏

آه ما الذي فعل الأذانْ؟‏

بمعابدٍ مهجورةٍ في الرّوحِ؟‏

كنتُ جمعتُ فيها عاشقاتِ الضَّوءِ‏

صلّينا معاً فرضاً وفوضى‏

لكنَّني في آخر اللّيل اليتيم تُرِكتُ وحدي‏

لا أرى إلاّ السَّماء تمدّ من نجماتها الزَّرقاء أرضا‏

أرضاً أمارسُ وحشتي معَها‏

أعمِّر جنّةً بيديَّ أحرسُها ليبقى‏

الدَّاخلون إلى عرائشها معي...‏

هل تدخلين الآنَ؟ بعد غدٍ؟‏

رضيتُ بأن تمرّي لمعةً في البالِ‏

أو صوتاً شتائياً على بلّور هذا الفجر‏

كي أزدادَ إيماناً بأنّ الكون يبدعُ خالقَهْ‏

... ... ...‏

للحبر بوصلةٌ...‏

ورثتُ طفولةً سأزورها يوماً، أعاتبُها،‏

أهشّم صرحَها، وأفرّ نحوكِ، فازرعيني واحصدينْ‏

هذي حقولي غربةٌ هجمَ الحنينُ على سنابلها‏

وغادرها غناء الزَّارعينْ‏

وعليكِ أن تتجمَّلي بالماء، هذي رحلتي طالَتْ وطالَتْ‏

وعطشتُ... والأنهار مالَتْ للجفافْ‏

صعدتْ جبالاً واستقالَتْ من ولادتها‏

ولم تسقي النَّبات ولا الخرافْ‏

فإلى متى تغتالني الصَّحراء من ظَهري‏

وكنتُ على هواجسها أخافْ؟‏

... ... ...‏

الحبر أغرقني، شربتُ صدى مخيِّلتي‏

وتابعتُ السّفرْ‏

فوجدتُني في الرّيح ملقىً كالحَجَرْ‏

___________

2/4/1998-7/11/1999‏

اخترنا لك قصائد أخرى للشاعر (علاء الدين عبد المولى) .


ساهم - قرآن ٣