بَينَ تِلكَ الرُبى وَذاكَ الوَردِ
بَينَ تِلكَ الرُبى وَذاكَ الوَردِ | فَوقَ حَصباءِ شاطىءٍ لازوردي |
تَحتَ أُفقٍ كَالخَدِّ أَو كَالفَرَندِ | أَملَسٍ عَطَّرتَه نَفحَةُ رَندِ |
فَسَرى الطَيبُ في الفَضاءِ زَكِيّا | |
كانَ داودُ دائِماً يَتَرَدَّد | وَعلى صَخرَةٍ يُهَيِّىءُ مُقعَد |
فَإِذا مالَتِ الغُصونُ تَنهَّد | وَاِنجَلى عَنهُ حُزنُهُ وَتَبَدَّد |
وَتَناسى عَهد الشَقاءِ القَصيّا | |
كانَ حلوَ الحَديثِ عَذبَ الطِباعِ | شاعِراً مُصغِياً لكلِّ التِياعِ |
إِن رَأى أَدمُعاً بَكَت لِدَواعِ | ذَرفَ الدَمعَ من عُيونِ اليراعِ |
راسِماً مَشهَدَ الحَياةِ شَقِيّا | |
كُلَّما كانَ جالِساً يَتَأَمَّل | في السَواقي ذاتِ الزَلالِ المسلسل |
كَيفَ تَجري بِدون أَن تَتَمَهَّل | ثُمَّ تَنصَبُّ جَدولاً إِثرَ جَدوَل |
بَينَ وَردِ الرُبى فَيَنمو نَدِيّا | |
كانَ يَمضي أَمامَهُ اِمرَأَتانِ | كَرُخامِ القُبورِ صامِتَتانِ |
تَنظُرانِ الرَبيعَ بَعضَ ثَوانِ | وَوَراءَ الأَدغالِ تَختَفِيانِ |
كَخَيالينِ من سعادٍ وَمَيّا | |
كَهلَةٌ قَد تُناهِزُ الخَمسينا | وَفَتاةٌ لا تَبلغُ العِشرينا |
حَمَلَت في الضُلوع داءً دَفينا | فَهيَ تَسلو الآلامَ حيناً وَحينا |
تُبصِرُ المَوتَ دانِياً يتهَيّا | |
مُقلَتَاها ما عادَتا مُقلَتَيها | فَهما مَيتَتانِ في جَفنَيها |
وَيَداها في الداءِ غَيرُ يَدَيها | أَيُّها السِلُّ لِم جَنَيتَ عَلَيها |
أَوَلا تَرحَم الفُؤادَ الفَتِيّا | |
بَعدَ شَهرٍ كَأَنَّما هُوَ عامٌ | نَسَجَت فيهِ بُردَها الآلامُ |
شاءَ داودُ أَن يَكونَ سَلامٌ | وَاِبتِسامٌ ما بَينَهُم وَكَلامُ |
وَحَديثٌ عَن الفَتاةِ فَحَيّا | |
وَدَرى بَعدَ ذاكَ أَنَّ أَباها | ماتَ بِالداءِ نَفسِهِ وَأَخاها |
فَبَكى راثِياً جَمالَ صِباها | وَاِبتِساماً مُوَدِّعاً في لماها |
وَشَباباً يَموتُ شَيئاً فَشَيّا | |
أُمها وَهيَ أَثكَلُ الأُمَّهاتِ | بَعدَ تِلكَ المَشاهِدِ الماضِياتِ |
لَم تَكُن تَستَطيعُ بِالبَسماتِ | رَدعَ مَصدورَة عَن الحَسَراتِ |
فَاِبتِسامُ الحَزينِ كانَ عَصيّا | |
طالَما ذِكرَياتُ تِلكَ المَشاهِد | عاوَدَتها وَاللَيلُ سَكرانُ ساهِد |
يَومَ كانَت تَبكي أَمامَ الوسائِد | حيثُ ماتَ الوَليدُ بَعد الوالِد |
تارِكينَ الداءَ المُخيفَ الخَفِيّا | |
ربِّ قالَت يا رَبَّ هذا الوُجودِ | وَرَجاءَ الشَقِيِّ وَالمَنكودِ |
قَد كَفاني في شَقوَتي وَجُهودي | موتُ زَوجي الفَتى وَمَوتُ وَحيدي |
فَاِشفِ بِنتي وَكن شَفيقاً عَلِيّا | |
ذاتُ حُسنٍ كَالفَجرِ في نيسانِ | لامَسَتهُ أَنامِلُ الأَحزانِ |
وَبياضٍ كَالثَلجِ في لُبنانِ | وَحَديثٍ يُذيبُ في الآذانِ |
نَغَماً لِلحَياةِ موسيقِيّا | |
مُقلَتاها رَمزُ الفُؤادِ الوَجيعِ | وَلماها اِستَعارَ لَونَ الشُموعِ |
هكَذا هِندُ وَهيَ بِنتَ الدموعِ | كانَ يَبدو شبابُها في الرَبيعِ |
إِنَّ قَلبَ الرَبيعِ كانَ عَتِيّا | |
ذاتَ يَومٍ وَقَد تَدانى الغِيابُ | جَلَست هِندُ في يَدَيها كِتابُ |
قَرَأَت فَترَةً وَجاءَ الضَبابُ | فَمَضى فيهِ جِفنُها المُرتابُ |
تارَةً ساهِياً وَطوراً بكيّا | |
هِندُ لِم أَنت تَنظُرينَ الضَبابا | بِعُيونٍ ذابَت وَقَلبٍ ذابا |
أَفهذي رؤىً تُريكِ الشَبابا | يَتَلاشى وَيَستَحيل ترابا |
قَبلَ أَن يَبلُغَ الحَياةَ قَوِيّا | |
جاءَ هنداً داودُ بَعدَ الظُهورِ | فَرَآها وَالأُمَّ بَينَ الزهورِ |
في يَدَيها قُماشَةٌ من حَريرِ | طَرَّزَت بَعضَها بِفَنِّ خَبيرِ |
فَبدا الفَنُ في يَدَي هِندَ حَيّا | |
قالَ هذي لِمَن بِبَعضِ اِبتِسامٍ | إِنَّها مثلُ برنسٍ لِغلامِ |
فَأَجابَت بِزَفرَةِ الآلامِ | لِفَتاةٍ تَزَوَّجت مُنذُ عامِ |
فَهَنيئاً لَها الزَواج هَنيّا | |
فَأَتاها عِندَ الضُحى فَرَآها | وَكتابٌ يَهتَزُّ في يَمناها |
فَإِذا عَينُها تُعيرُ اِنتِباها | صَفحَةً ودَّ لَو يعي فَحواها |
وَقَفَت عِندَها الفَتاةُ مَلِيّا | |
فَمَضى خَلفَ ظَهرِها بِتَأَنِّ | فَرَآها تَتلو بِبَأسٍ وَحُزنِ |
بيتَ شعرٍ قَد قالَهُ مُنذُ قرنِ | شاعِرٌ وَهو يا أَبي لا تُمِتني |
قَبلَ أَن أَعرفَ الهَوى العُذريّا | |
أَبصَرت هِندُ وَهيَ تَفكُر بِالغَد | مِن خِلالِ الأَحلامِ قَبراً أَسوَد |
رَقَدَت فيهِ غادَةٌ ما تَنَهَّد | صَدرُها في الحَياةِ حَتّى توسَّد |
تُربَةً ضَمَّت الظَلامَ الدَجِيّا | |
وَتَراءَت لَها عَروسُ القَبرِ | تَنحَني فَوقَ وَجهِها المصفِّر |
في يَدَيها باقاتُ وَردٍ وَزَهرِ | نُثِرَت فَوقَ رَأسِها وَالصَدرِ |
وَأَفاحَت أَريجَها العطريّا | |
وَتَراءَت لَها البَناتُ العَذارى | راقِصاتٍ بِحُبِّهِنَّ سكارى |
يَتَبارَينَ ما الشَبابُ تَبارى | بِجَمالٍ يُهَيِّجُ الأَوتارا |
في يَدَي عازِفٍ جَميلِ المُحَيّا | |
وَفَتىً ناظِرٌ بِعَطفٍ إِلَيها | رابَه السَقمُ في كلا خَدَّيها |
خائِفٌ من دمٍ على شَفَتَيها | قاءَهُ ما جَنى عَلى رِئَتَيها |
وَسُعالٌ بِهِ الرَدى يَتَقَيّا | |
وَتَراءى لَها خَيالٌ مُخيفُ | بَينَ أَهدابِ مُقلَتَيها يَطوفُ |
في يَدَيهِ مَشاعِلٌ وَسُجوفُ | مُثَّلَت دَورَها عَلَيها الصُروفُ |
فَتَراءى لَها الرَدى عَلَنِيّا | |
وَاِستَفاقَت لَدى اِرتِعاشٍ عَنيفٍ | دَبَّهُ الخَوفُ في صِباها الضَعيفِ |
فَتَلاشَت كَالحُلمِ رُؤيا الطُيوفِ | وَتَوارَت أَمامَ دَمعٍ ذَريفِ |
كانَ سِحراً في عَينَيها بابِليّا | |
ربِّ قالَت أَلَم تَهِبني المُيولا | وَحَديثاً عَذباً وَوَجهاً جَميلا |
فَلِماذا أِرى الشَبابَ بَخيلا | لا يرى وَجنَتَيَّ حَتّى يَميلا |
عَن جَمالٍ يَذوبُ في وُجنَتَيّا | |
يا إِلهي أَلَستُ يَوماً أُلاقي | عاشِقاً بَينَ مَعشَرِ العُشّاقِ |
راحِماً في فُؤادي المُشتاقِ | غَيرَ دَمعٍ يَجولُ في آماقي |
وَعَذاب يُضيءُ في مُقلَتَيّا | |
يا اِبنَةَ الدّاءِ يا اِبنَةَ الأَرماسِ | يا خَيالاً يَسيرُ في دَيماسِ |
إِقتَصِد ما اِستَطَعتَ في الأَنفاسِ | إِنَّ رَسمَ الآلامِ وَالأَوجاسِ |
عَن قَريبٍ سَيمَّحي سريّا | |
أَنتَ لَم تَدرِ كَيفَ شَيئاً فَشَيّا | يقضمُ المَوتُ جِسمَكَ الملكيّا |
يا مَلاكاً أَضَلَّكَ الدَهرُ غَيّا | في زَمانٍ ما كانَ قَطُّ وَفِيّا |
فَاِحيَ فينا وَلا تَكن مَنسِيّا | |
سَوفَ تَمضي إِلى دِيار البَقاءِ | بَعد تِلكَ الأَسقامِ وَالأَدواءِ |
طاهِراً كَالزنابِقِ البَيضاءِ | حامِلاً مشعَلَ الأَسى وَالبُكاءِ |
في فُؤادٍ قَضى الحَياةَ نقيّا | |
سَوفَ يُغمى عَلَيكَ في ذا الوُجودِ | بَعدَ حينٍ إِغماءَ روحِ الوُرودِ |
تاركاً في فُؤاد كُلِّ وَدودِ | راءَ في وَجهِك اِصفرارَ الخدودِ |
ذِكرياتٍ شَفّافَةً كَالحَميّا | |
قالَ داودُ ذاتَ يَومٍ لِنَفسِه | وَهوَ يَجلو بِالفِكرِ غامضَ درسِه |
أَيَّ فَضلٍ يُبقي الفَتى بَعدَ رَمسه | إِن أَبى رَحمَةَ التَعيسِ بِتَعسِه |
وَاِنعِطافاً عَلى الشَقيِّ سَخيّا | |
لَيسَ أَنقى من زَهرَةِ الأَحسانِ | فَوقَ صَدرِ المَجاهِد المُتَفاني |
إِن أَكُن زَوجَ غادَةِ الأَحزانِ | أَفَلَيسَ الإنسانُ لِلإِنسانِ |
أَفَما كُنتُ في الحَياةِ وَفِيّا | |
سَوفَ تَحيا بِالحُبِّ تِلكَ الفَتاةُ | هكَذا قَد أَرادَتِ التَضحِياتُ |
فَليُضيء بَينَ مُقلَتَيها المَماتُ | فَالمَنايا عِندَ الهَوى هَيِّناتُ |
فَلتَذُق ذلِكَ الهَوى الكَوثَريّا | |
وَمَضى الشاعِرُ الطَويلُ الأَناةِ | باسِطاً أَمرَهُ لِأُمِّ الفَتاةِ |
قائِلاً إِنَّ مُهجَتي وَحَياتي | وَجهادي وَكلّ أُمنِيّاتي |
تَتَمَنّى لِهِندَ عَيشاً رَخِيّا | |
سَوفَ تَحيا هِندُ السِنين الطِوالا | لَيسَ داءُ الفَتاةِ داءً عضالا |
فَثِقي بي وَأَنعِشي الآمالا | أَنا مِثرٍ فَلَستُ أَطلُبُ مالا |
بَل جمالاً عَذباً وَخُلقاً أَبِيّا | |
سَوفَ تَشفى مِن دائِها بَعدَ عامِ | سَوفَ نَحيا بِغَبطَةٍ وَسَلامِ |
وَثِقي أَنَّ هِندَ ذاتَ السقامِ | سَتَراني أَخاً مَعَ الأَيّامِ |
لا عَشيقاً لِجسمِها وَحشِيّا | |
فَبَكَت أُمُّها لِهذا الكَلام | بِعيونٍ تشعُّ بِالأَحلامِ |
وَلدُن أَيقَنَت بِصِدقِ المَرامِ | شَكَرَتهُ بِمَدمَعٍ بَسّامِ |
كانَ بِالحُزنِ وَالنُواحِ حَريّا | |
هِندُ إِنّي أَهواكِ أَهوى جَمالا | يَرشِقُ الحُبُّ مِن لماكِ نبالا |
قالَ هذا وَقد رَأى الآمالا | راسِماتٍ في مُقلَتَيها خَيالا |
طاهِراً في جَمالِهِ ملكِيّا | |
فَأَجابَت وَقد عَراها السُكوتُ | بَعضَ حينٍ كَأَنَّهُ هاروتُ |
كَيفَ تَهوى أَلا تَراني عييتُ | مُقلَتي تَنطَفي وَقَلبي يَموتُ |
وَيَجولُ التُرابُ في خديّا | |
قالَ لا بَل تَحيَينَ عُمراً طروبا | وَتَرَينَ الحَياةَ عيشاً خصيبا |
فَأَنا عاقِلٌ سَأَلتُ الطَبيبا | قالَ لي هِندُ سَوفَ تَشفى قَريبا |
وَتَرى لَونَ خَدِّها الوَردِيّا | |
مرَّ بِالعاشِقينِ أُسبوعانِ | هَيَّئا فيهِما جِهازَ القرانِ |
وَالرَبيعُ الجَميلُ في نيسانِ | كانَ يَزهو بِالفُلِّ وَالريحانِ |
ساكِباً ذلِكَ النَدى اللُؤلُؤيّا | |
بِحَريرٍ مُزَركَشٍ وَمُخَرَّم | وَطِرازٍ عَلى النَوافِدِ مُعلم |
هكَذا غُرفَةُ الزَفافِ الأَقتَم | بَرَزَت وَهيَ تَستعدُّ لِمَأتم |
بِجَمالِ العرسِ الرَهيبِ تزيّا | |
وَسَريرٍ أُعدَّ فيها صَغير | أُلقِيَت فَوقَه سُتورُ الحَريرِ |
لَعبت أَنملُ النَسيم الطهورِ | بِجَنايا رِدائِه المَنشورِ |
فَاِستَطارَ الرِداءُ نَشراً وَطيّا | |
وَهنا بَعدَ عرسِها الملكيِّ | ظَهَرت هِندُ كَالصَباحِ البَهِيِّ |
بِنَقاءٍ ككلِّ قَلبٍ نَقِيِّ | وَبَياضٍ كَثَوبِها الزَنبَقيِّ |
وَدَلالٍ يَفوح طهراً وَريّا | |
ما لِتِلكَ الفراشَةِ السَوداءِ | تَتَغَنّى في الغُرفَةِ البَيضاءِ |
جَنحُها حالكٌ كَقطعِ الرجاءِ | وَغناها الرَهيبُ رَمزُ البُكاءِ |
خالهُ المُبتَلي غناءً شَجِيّا | |
ذاتَ يَومٍ وَقد تَدانى الظَلامُ | خَفَقَت في ضُلوعِها الآلامُ |
فَتَرامَت وَقد تَراءى الحمامُ | مُستَفيضاً في عينها لا يَنامُ |
يَنتَحي عالَمَ الدُجى الأَبدِيّا | |
وَاِستَفاقَت قَبلَ المَماتِ الرَهيبِ | فَرَأَت زَوجَها كَثيرَ الشحوبِ |
يا حَبيبي قالَت لهُ يا حَبيبي | حانَ مَوتي وَجاءَ وَقتُ مَغيبي |
فَعَذابي يثورُ في رئَتيّا | |
غَيرَ أَنّي أَمضي لِدارِ البقاءِ | بِسُرورٍ وَغِبطَةٍ وَصَفاءِ |
فَأَنا رُغمَ عِلَّتي وَبَلائي | ذُقتُ طعمَ الهَوى كَباقي النِساءِ |
وَعَرَفتُ التَآلفَ الذهبِيّا | |
وَاِرتَمى رَأسُها اِرتِماءَ يَدَيها | وَتلاشى اللهاثُ في مُرشَفَيها |
فَبَدَت وَالدماءُ في شَفَتَيها | مِثلَ شاةٍ بَيضاء أَلقى عَلَيها |
شِرسُ القَلبِ سهمَه الدموَيّا | |
أَيُّ ذَنبٍ جنَته تِلكَ الصبيّه | ليجازى شَبابُها بِالمنِيَّه |
ربِّ إِن كانَ أَصلُ تِلكَ الضَحِيَّه | والدٌ أَورَثَ السُمومَ الخَفِيَّه |
فَصباها لَم يَأتِ أَمراً فَريّا | |
ربِّ لِم أَنتَ تظلمُ الأَبرِياءَ | وَتَزيدُ العاني الشَقِيَّ شَقاءَ |
هُم يَقولونَ هكَذا اللَهَ شاءَ | فَاِحتَرَم فيهِ حكمَةً عَلياءَ |
وَاِحبُهُ الشُكرَ بِكرَةً وَعَشِيّا |