(مقاطع) |
-1- |
قالت الأرض في جذوري أبادُ |
حنين ، وكلُّ نلضي سؤالُ |
بيَ جوعٌ إلى الجمال ، ومن صدريَ |
كان الهوى ، وكان الجمالُ |
-2- |
ماليَ اليوم أستفيقُ ، فلا حقلي |
نضيرٌ ، ولا تلالي زواهِرْ |
لا النواطير يسمرون مع النّجم |
ولا الضوء راتعٌ في المحاجرْ |
أنا كنزٌ مخبّأٌ ، أين أبنائي |
فكلّي صوتٌ ، وكلّي حناجرْ . |
-3- |
ربّما أنهكتْهمُ ضربةٌ عمياءُ |
فاستسلموا لها واستلانوا |
ربّما أُلبسوا ثياباً سَرَت فيها |
أكفُّ الأوثان ، والأوثانُ |
ربما..ربما ، كأن الحروف السود |
صُمّت في وقعها الآذانُ |
فكأن لم أطلعْ على الأرض ميلاداً |
ةيُخلقْ من صدرَ الإنسانُ. |
-4- |
قُمْ مع الشمس يا شبابي ، وحرِّكْ |
عالماً ساهِمَ البصيرة ، جامِدْ |
أنتَ علّمته الحياة قديماً |
وستبقى له دليلاً ورائدْ |
-5- |
أنا سوّيتُ من عروقيَ أبنائي |
وربّيتهم ذرىً وجبالا |
يتسامحون فالطموح مدىً جدبٌ |
ويحيون في الزمان مثالا |
أنا سوّيت من عروقي أطفالي |
وسوّيتُ فيهمِ الأطفالا. |
-6- |
مجّدوني ، تفتّقوا في ينابيعي |
فيضاً ، وفي ترابي ربيعا |
وحدةٌ نحن ، يضحك القلبُ للقلب |
وتَستلْهِمُ الضلوعُ الضلوعا |
كم أقَلْنا مُعثَرينَ حيارى |
واحترقنا على الدروب شموعا |
ومَدَدْنا للظامئين نفوساً |
فُجِّرت في حياتهم ينبوعا. |
-7- |
يا لتَوقي، يا عمقَه ، يُخلقُ |
المجهول فيه ، وتولد الأيامُ |
يمسحُ الوهمَ عن حياتي فلا |
الإيهام يلهو فيها ولا الأوهام |
بعضيَ الفجرُ ، بعضيَ النور والحبُّ |
فما مرّ في كياني ظلامُ |
إن أكن نمتُ مرةٌ ، فلأعماقي |
دويٌّ مجلجِلٌ لا ينامُ. |
-8- |
أيّ خلقٍ كالسرّ، كالحلْم، كالفتح |
يفضُّ البعيدَ والمجهولا... |
جُمِّع الكلّ فيه ، فالخلقُ |
مضفورٌ على كبريائه إكليلا. |
-9- |
حملت فجرَه بلادي أنباءَ |
حياةٍ غَلابةٍ وشبابِ |
قُلْ لمن يحضن السّراب ويلهو |
بفراغٍ مُطرّزٍ بالسّرابِ |
أشرقَ العالم الجديدُ ، وماتتْ |
خلفَهُ ، جاهليّةُ الأحقاب. |
-10- |
يَئِس الشعب من مغالبة اليأسِ |
ففيه لليأس بابٌ عتيقُ |
يتمشّى في صدره قلقٌ جمْرٌ |
وصوتٌ مجرّحُ مخنوق |
جُنَّ فيه السؤالُ ، أين غدٌ |
يخلق ما شاءه ، وأين الطريقُ |
كلّما همّ أن يثور على القيد |
تولاه خائنٌ أو عَقوقُ |
ربّ صبحٍ أفاق فيه فعَفّى |
خائنيه، إباؤه المستفيقُ. |
-11- |
لا نواعيرهُ تدور، وإن دارت |
فالبؤس والشقاء تدورُ |
بيدرٌ يسأل الحصادَ عن القمح |
وحقلٌ يذوي وأرضٌ تبورُ |
وعلى أنّةِ العذاب وآه اليُتْمِ |
تعلو مرابعٌ وقصورُ |
تَشرئبُ الذرى على ضجّة الويل |
وتشكو إلى الصخور الصخورُ. |
-12- |
في الدروب انتفاضةُ الكبْر |
فالخَطْوُ عليها محقّرٌ مرذولُ |
قدَمٌ تكتب الجريمة والبغيَ |
فخطْواتُها دمٌ وقتيل |
والقرى صفرةٌ ، فقد مسح الخضرةَ |
عن وجهها النضير ، الذبولُ |
كل بيتٍ فيها ، شفاهٌ تجمّدْنَ ... |
فماذا تشكو ، وماذا تقولُ؟ |
يورِقُ اليَبْسُ في الصراع ، ويحيا |
المَيْتُ فيه ، ويبطل المستحيلُ ! |
-13- |
ألجبال العتاقُ والصخر والشاطئُ |
والزورق المُدِلُّ المغامرْ |
صَرخاتٌ - مَدى كأن عليه |
من جفون التاريخ آلافَ ساهرْ |
هي فينا حبٌّ يسائل عن حبٍّ |
وماضٍ يلفّ بالمجد حاضرْ |
عبثاً ، لن تهدّ جلجلةَ البغي |
شفاهُ ندّابة ، أو منابرْ |
ليس إلا أن ننسجَ الحبّ راياتٍ |
وأن نرفع النفوس منائرْ |
-14- |
ها طريقُ الحياة نحن شقَفْناها |
عِراكاً وثورةً وجهادا |
نتخطى عنفَ الزّمانِ ونُلقي |
صورَ العُنفِ خلفنا أمجادا |
ربّ نورٍ كان الحياةَ لشعبٍ |
لمحته عين الظلام سوادا. |
-15- |
لغة الحقّ أن نموت مع الحقِّ |
انتصاراً أو أن نموت انكسارا |
ليس عاراً لنا ، إذا ما نُكِبْنا |
إنّ في خفضنا الجِباهَ العارا |
-16- |
يا لذلٍّ يطوي النفوس ويبنيها |
عروشاً تتيه ، أو سلطانا |
كم مشت حولنا مواكبها السودُ |
جحيماً ، وغلغلت أفعوانا |
أيّ حقّ حَنَا الجمالُ عليه |
لم يصرْ في ضميرها بهتانا |
مالها، ما لها يُمزّقُها الحقدُ |
جنوناً، وترتمي خذلانا |
لم يَلِن نابُها العتيُّ ، ولكن |
لمَحَت في صدورنا الطوفانا. |
-17- |
آنَ يا شعبُ أن تزولَ حياةٌ |
تَتَمادى قولاً وقيلاً وقالا |
لا يصير السّراب حقاً ولا تُعطي |
أكفّ الرّمال إلا رمالا. |
-18- |
أيها الجيلُ أين كبرك يا جيلُ |
فهل ماتَ في هواكَ الجهادُ؟ |
أرضك الأرضُ لا السنابل آفاقٌ |
تهزُّ الرؤى ولا الحصادُ |
أتُرى هدّك العياءُ وأسلسْتَ |
قياداً ، فجُنّ فيك القيادُ |
كيف تحيا وكلّ أرضكَ أنّاتٌ |
حيارى ، وكلّها أصفادُ |
أين يا جيلُ ، أين كبرك يا جيلُ |
فهل مات في هواكَ الجهادُ |
-19- |
ما علينا قهرُ الصعاب، ولكن |
علينا أن نقهر المستحيلا |
نحن تاريخنا ونحن ليالٍ |
ضحكت في يمينه إزميلا |
فجّر الكِبْرَ في جوانحنا زيتاً |
وألقى جراحنا قنديلا |
هَمُّنا أن نمزِّقَ الحُجُب السود |
ضياءٌ ، ونكشف المجهولا |
كثّفتنا الحياة حتى كأنّا |
ألفُ جيلٍ منها يعانق جيلا. |
-20- |
أبداً، نخلقُ الوجودَ ونعطيه |
حياةٌ ، كما نرى ونشاءُ |
قطرت في أكفّنا فلقُ الصَخْر |
عبيراً، واهتزّتِ الصحراءُ |
قيلَ:كنّا ، فاخضرّ من شَغَفٍ |
حلمُ الليالي، واخضرّت الأشياءُ. |
-21- |
منذ كنّا ، كنّا طغاةً على الذلّ |
وكنّا في وجهه ثوارا |
نتخطّى عنف الحياة ونُلقي |
خلف خُطْواتِنا الشذى والغارا |
فزرعنا عين الوجود جمالاً |
وملأنا أعماقه أسرارا |
وشمخنا نلفّ بالعبَق الدنيا |
ونبني في جبهة الشمس دارا |
سهرت بعدنا النجوم وصارت |
لأساطيرِ مجدنا سُمّارا. |
-22- |
ذاك مجدافنا يسيرُ إلى الشاطئ |
في مهرجانه المجتاحِ |
لم تُلامسْ شراعَه رعشةُ اليأس |
ولا هزّه ضجيج الرّياحِ |
ما روانا دضفْقُ الجراح، ففينا |
لمداها، تلفّتُ الملتاح |
كلما اسْتَيْأسَ بصدرٍ |
جلجلت تستفزُّنا للكفاح. |
-23- |
ربّ أمٍّ تمدُّ كفّاً إلى الأرض |
وكفّا لطفلها المقرورِ |
لمحت في صراخه لغة القهرِ |
ورُعْبَ الدنيا وموت الشعور |
ورأت في جبينه ثورة الجوع |
وأطياف جفنها المذعور |
فانحنتْ تأكل التراب وتسْتَفُّ |
بقايا موائد وقشور. |
وعلى ثغرها رجاءٌ: غدا تخضرُّ |
أرضي، غداً يُضيء سريري. |
-24- |
وغداً تلعب الطفولة بالوردِ |
وتنمو حقولنا وتفيض |
يملأ الخير أرضنا، فإذا الشعبُ |
نموٌّ ، وقوّةٌ ، ونهوض |
وإذا أرضنا منائر لا تخبو |
ودفْقٌ من الشذى لا يغيض |
لا مُكِبٌّ على السؤال ولا مُلقىً |
على شاسع الدروب مريض |
كل فقْرٍ يفنى، ويفنى مع الفقر |
زمانٌ جَهْمٌ وكَوْنٌ بَغيضُ. |
-25- |
.. فإذا الكون كونُنا وإذا الدنايا |
شمالٌ لحبِّنا ، ويمينُ |
إنّ خلق الحياة صعبٌ، ولكن |
كلّ صعب، إذا أردنا يهونُ. |
-26- |
أنا شئتُ الزمان حلْماً على جفني |
وصوتاً مجلجلاً في شبابي |
لي غدٌ كلما تَلَمّسه الليل بباب |
أطلّ من ألف باب |
فتحت كفّه دروبي وأرْسَتْها |
على التّيه، دفقةً من شهاب |
أنا وجهُ المدَى، فكلّ جمالٍ |
في فؤادي يحيا وفي أهدابي |
كلّما أومأَ التراب لأجفاني |
تمثّلتُ قوتي في الترابِ. |
-27- |
لبلادي أنا، لثورتها الكبرى |
لآفاقها الفِساح البواسِم |
لحقول..مواسمٍ، تزرع الأرض |
ربيعاً، تكلّمي يا مواسِمْ ! |
ثورةٌ من تفتّح الذاتِ لا تُطْلعُ |
إلا منائراً وملاحِمْ. |
-28- |
أنا فيها الفلاح أزرعها قمحاً |
وورداً، وأقلع الأشواكا |
سكّتي تنطح الصخور، وتمشي |
في الأحافير، نَشْوةٌ وعراكا |
وحقولي سنابلٌ تفرع النجم |
كأني زرعت فيها السِّماكا |
قيّمٌ باسم أمّتي..لست مقطوعاً |
ولا غاصباً ولا ملاكا |
أن للشعب.. أيها الشعب مُجِّدتَ |
فإني في كل شيءٍ أراكا. |
-29- |
أنا فيها الراعي..أطوف وأغنامي |
ذراها وغابها ورُباها |
ليَ قلبٌ يُحِسُّ خلْج المجاهيل |
ويصطاد في البعيد الآها |
قَلقٌ ، يحرس القطيع وينْقَضُّ |
على الرُّعب ، شامخاً تيّاها |
ومعي النايُ - جُمِّعت فيه آفاق |
بلادي: شطآنها وقراها |
أُطلِعُ اللّحنَ ، لحنها فكأني |
واضعٌ بين راحتيّ إلها. |
-30- |
كلها في دمي : تراباً وأجواءٌ |
وزهراً ، وصبيةٌ وصبايا |
سُوِّيَتْ من رحابها الخضر أجفاني |
وقُدّتْ جوانحي ويدايا |
أنا إن متُّ ، لا أموت ، فقد |
ركّزْتُ في جبهة البقاء، خطايا |
ربّما عشتُ في مزاميرها لحناً |
وغَلْغَلْتُ في ذراها عشايا |
كلها في دمي، وكليَ فيها: |
صبيةٌ يعشقونها وصبايا. |
-31- |
أنا دربي طويلةٌ كَغَدٍ يُقْبِلُ |
كالكون ، في مداه الطويلِ |
أنا دربي خضراءُ ، لوّنها قلبي |
وغطّى جراحها تقبيلي |
أنا دربي وَثْب على الموت خَطّافٌ |
وغَذٌّ في المغلق المجهول |
أنا جيلٌ في أمّتي ، وأنا فردٌ |
من الجيل ، بل أنا كلٌّ جيل |
أينما كنت ، كنت في صدرها أحيا |
وفي روحها الكبير الأصيلِ . |
-32- |
أنا جرحٌ مُضَمّخٌ بالبطولات |
وضوءٌ على الذرى مرشوقُ |
أنا لي مشرقُ النجوم ومرساها |
ولي أفْقُها الفسيح العميق |
وليَ البحرُ ؛ شمسُهُ ودياجيه |
ولغزٌ في جانحيه عتيق |
أنا لي أمتي: جمالٌ وتاريخٌ |
ولي أرضها: غدٌ وطريق |
لست وحدي، فكلّها كلّ ما |
فيها، نداءٌ يضمّني ورفيقُ. |
-33- |
أنا فيضٌ من أمّتي وعتيقٌ |
مر في كونها العتيقِ الجديدِ |
مطْلَقٌ في كيانها، فأنا فيها |
كيانٌ طَلْقٌ بغير حدودِ |
كلّ فردٍ فيها أُحِسُّ كأنْ |
جُمِّع فيه صدري، وسال وريدي |
إنّ في الغير بعضَ نفسي ، وفي |
الآخر، شرطاً ومنبعاً لوجودي. |
-34- |
أنا لي نبضةُ الملايين في شعبي |
ولي هذه السهولُ الفِساحُ |
ليّ آهات أمّتي وأمانيها |
ولي كبرياؤها والجِراحُ |
أنا وردٌ في هذه الأرض نَمّامٌ |
وعِطْرٌ من أمّتي فوّاحُ. |
-35- |
آن لي أن أَسُلَّ نفسيَ |
من ليلٍ أليفٍ ، ومن صباح مُعادِ |
آن لي أن أكون نفسيَ ، أن أحيا |
وجودي، وأمّتي وبلادي |
وأردّ التاريخ شهقة جوعٍ |
تتغذّى من قبْضتي وفؤادي. |
-36- |
من هنا، من بلادنا، نحن أقْلعنا |
شراعاً ، وموجةً ، وليالي |
ومشينا حرفاً على صفحة القلب |
وحرفاً على شفاه السؤال |
زرعت كبرياؤنا صور الحبِّ |
وروداً وسوسناً ودوالي |
وملأنا عين الزمان، فما تبصرُ |
إلا كواكباً ولآلي |
فإذا نحن لهفة القلب للقلب |
وإرثُ الأجيال للأجيال. |
-37- |
ها بلادي ، كأنّ بغدادَ صارت |
من ذُرى الشّامِ ، أو غَدت لبنانا |
نحن شئنا الدنيا جمالاً وحَقّاً |
وخلقنا للعالم الإنسانا |
-38- |
من رأى الشمس تستفيقُ مع الشّعْبِ |
وتشتاقُه مدىً وضياءَ ؟ |
من رآها تنْكبُّ ظمْأى على أرض |
بلادي: صخراً وظلاً وماءَ ؟ |
آن يا شمس أن نغرِّب في الأرضِ |
ونُلقي عن صدرها الأعباءَ |
عرفتْنا مراكباً تقهر الموج |
وفأساً خلاقةً خضراءَ |
ورأتنا نسير فيها أساطير |
ونحيا في قلبها أنبياءَ . |
-39- |
ها رجعنا للْكَشْفِ : تُنْشَرُ آفاقُ |
عُصورٍ ، وتنطوي آفاقُ |
سُفُنٌ تقحم العباب .. ففي اللجّ |
دويٌّ مغامرٌ ، خلاقُ |
بعضها سنديانةُ ، بعضها أرزٌ |
وبعضٌ مغامرون رفاقُ |
تتغنّى بنا الشواطئ ، فاللحن |
شموخٌ ونشوةٌ وانعتاق |
كلّما فُضّ مغلقٌ في مداها |
جذبتْنا الأبعادُ والأعماقْ ... |
( 1949 - 1959 ) |