بِسيفكَ يعلو الحقُّ والحقُّ أغلبُ
مدة
قراءة القصيدة :
19 دقائق
.
بِسَيفِكَ يَعلو الحَقُّ وَالحَقُّ أَغلَبُ | وَيُنصَرُ دينُ اللَهِ أَيّانَ تَضرِبُ |
وَما السَيفُ إِلّا آيَةُ المُلكِ في الوَرى | وَلا الأَمرُ إِلّا لِلَّذي يَتَغَلَّبُ |
فَأَدِّب بِهِ القَومَ الطُغاةَ فَإِنَّهُ | لَنِعمَ المَرَبي لِلطُغاةِ المُؤَدِّبُ |
وَداوِ بِهِ الدولاتِ مِن كُلِّ دائِها | فَنِعمَ الحُسامُ الطِبُّ وَالمُتَطَبِّبُ |
تَنامُ خُطوبُ المُلكِ إِن باتَ ساهِراً | وَإِن هُوَ نامَ اِستَيقَظَت تَتَأَلَّبُ |
أَمِنّا اللَيالي أَن نُراعَ بِحادِثٍ | وَأَرمينيا ثَكلى وَحَورانَ أَشيَبُ |
وَمَملَكَةُ اليونانِ مَحلولَةُ العُرى | رَجاؤُكَ يُعطيها وَخَوفُكَ يُسلَبُ |
هَدَدتَ أَميرَ المُؤمِنينَ كَيانَها | بِأَسطَعَ مِثلِ الصُبحِ لا يَتَكَذَّبُ |
وَمازالَ فَجراً سَيفُ عُثمانَ صادِقاً | يُساريهِ مِن عالي ذَكائِكَ كَوكَبُ |
إِذا ما صَدَعتَ الحادِثاتِ بِحَدِّهِ | تَكَشَّفَ داجي الخَطبِ وَاِنجابَ غَيهَبُ |
* * * | |
وَهابَ العِدا فيهِ خِلافَتَكَ الَّتي | لَهُم مَأرَبٌ فيها وَلِلَّهِ مَأرَبُ |
سَما بِكَ يا عَبدَ الحَميدِ أُبُوَّةٌ | ثَلاثونَ خُضّارُ الجَلالَةِ غُيَّبُ |
قَياصِرُ أَحياناً خَلائِفُ تارَةً | خَواقينُ طَوراً وَالفَخارُ المُقَلَّبُ |
نُجومُ سُعودِ المَلكِ أَقمارُ زُهرِهِ | لَوَ اَنَّ النُجومَ الزُهرَ يَجمَعُها أَبُ |
تَواصَوا بِهِ عَصراً فَعَصراً فَزادَهُ | مُعَمَّمُهُم مِن هَيبَةٍ وَالمُعَصَّبُ |
هُمُ الشَمسُ لَم تَبرَح سَماواتِ عِزِّها | وَفينا ضُحاها وَالشُعاعُ المُحَبَّبُ |
نَهَضتَ بِعَرشٍ يَنهَضُ الدَهرُ بِهِ | خُشوعاً وَتَخشاهُ اللَيالي وَتَرهَبُ |
مَكينٍ عَلى مَتنِ الوُجودِ مُؤَيَّدٍ | بِشَمسِ اِستِواءٍ مالَها الدَهرَ مَغرِبُ |
تَرَقَّت لَهُ الأَسواءُ حَتّى اِرتَقَيتَهُ | فَقُمتَ بِها في بَعضِ ما تَتَنَكَّبُ |
فَكُنتَ كَعَينٍ ذاتِ جَريٍ كَمينَةٍ | تَفيضُ عَلى مَرِّ الزَمانِ وَتَعذُبُ |
مُوَكَّلَةٍ بِالأَرضِ تَنسابُ في الثَرى | فَيَحيا وَتَجري في البِلادِ فَتُخضِبُ |
فَأَحيَيتَ مَيتاً دارِسَ الرَسمِ غابِراً | كَأَنَّكَ فيما جِئتَ عيسى المُقَرَّبُ |
وَشِدتَ مَناراً لِلخِلافَةِ في الوَرى | تُشَرِّقُ فيهِم شَمسُهُ وَتُغَرِّبُ |
* * * | |
سَهِرتَ وَنامَ المُسلِمونَ بِغَبطَةٍ | وَما يُزعِجُ النُوّامَ وَالساهِرُ الأَبُ |
فَنَبَّهَنا الفَتحُ الَّذي ما بِفَجرِهِ | وَلا بِكَ يا فَجرَ السَلامِ مُكَذِّبُ |
حُسامُكَ مِن سُقراطَ في الخَطبِ أَخطَبُ | وَعودُكَ مِن عودِ المَنابِرِ أَصلَبُ |
وَعَزمُكَ مِن هوميرَ أَمضى بَديهَةً | وَأَجلى بَياناً في القُلوبِ وَأَعذَبُ |
وَإِن يَذكُروا إِسكَندَراً وَفُتوحَهُ | فَعَهدُكَ بِالفَتحِ المُحَجَّلِ أَقرَبُ |
وَمُلكُكَ أَرقى بِالدَليلِ حُكومَةً | وَأَنفَذُ سَهماً في الأُمورِ وَأَصوَبُ |
ظَهَرتَ أَميرَ المُؤمِنينَ عَلى العِدا | ظُهوراً يَسوءُ الحاسِدينَ وَيُتعِبُ |
سَلِ العَصرَ وَالأَيّامَ وَالناسَ هَل نَبا | لِرَأيِكَ فيهِم أَو لِسَيفِكَ مَضرِبُ |
هُمُ مَلَئوا الدُنيا جَهاماً وَراءَهُ | جَهامٌ مِنَ الأَعوانِ أَهذى وَأَكذَبُ |
فَلَمّا اِستَلَلتَ السَيفَ أَخلَبَ بَرقُهُم | وَما كُنتَ يا بَرقَ المَنِيَّةِ تُخلِبُ |
أَخَذتَهُمُ لا مالِكينَ لِحَوضِهِم | مِنَ الذَودِ إِلّا ما أَطالوا وَأَسهَبوا |
وَلم يَتَكَلَّف قَومُكَ الأُسدُ أُهبَةً | وَلَكِنَّ خُلقاً في السِباعِ التَأَهُّبُ |
* * * | |
كَذا الناسُ بِالأَخلاقِ يَبقى صَلاحُهُم | وَيَذهَبُ عَنهُم أَمرُهُم حينَ تَذهَبُ |
وَمِن شَرَفِ الأَوطانِ أَلّا يَفوتَها | حُسامٌ مُعِزٌّ أَو يَراعٌ مُهَذَّبُ |
مَلَكتَ سَبيلَيهِم فَفي الشَرقِ مَضرِبٌ | لِجَيشِكَ مَمدودٌ وَفي الغَربِ مَضرِبُ |
ثَمانونَ أَلفاً أُسدُ غابٍ ضَراغِمٌ | لَها مِخلَبٌ فيهِم وَلِلمَوتِ مَخلِبُ |
إِذا حَلِمَت فَالشَرُّ وَسنانُ حالِمٌ | وَإِن غَضِبَت فَالشَرُّ يَقظانُ مُغضِبُ |
فَيالِقُ أَفشى في البِلادِ مِنَ الضُحى | وَأَبعَدُ مِن شَمسِ النَهارِ وَأَقرَبُ |
وَتُصبِحُ تَلقاهُم وَتُمسي تَصُدُّهُم | وَتَظهَرُ في جِدِّ القِتالِ وَتَلعَبُ |
تَلوحُ لَهُم في كُلِّ أُفقٍ وَتَعتَلي | وَتَطلُعُ فيهِم مِن مَكانٍ وَتَغرُبُ |
وَتُقدِمُ إِقدامَ اللُيوثِ وَتَنثَني | وَتُدبِرُ عِلماً بِالوَغى وَتُعَقِّبُ |
وَتَملِكُ أَطرافَ الشِعابِ وَتَلتَقي | وَتَأخُذُ عَفواً كُلَّ عالٍ وَتَغصِبُ |
وَتَغشى أَبِيّاتِ المَعاقِلِ وَالذُرا | فَثَيِّبُهُنَّ البِكرُ وَالبِكرُ ثَيِّبُ |
يَقودُ سَراياها وَيَحمي لِواءَها | سَديدُ المَرائي في الحُروبِ مُجَرِّبُ |
* * * | |
يَجيءُ بِها حيناً وَيَرجِعُ مَرَّةً | كَما تَدفَعُ اللَجَّ البِحارُ وَتَجذِبُ |
وَيَرمي بِها كَالبَحرِ مِن كُلِّ جانِبٍ | فَكُلُّ خَميسٍ لُجَّةٌ تَتَضَرَّبُ |
وَيُنفِذُها مِن كُلِّ شِعبٍ فَتَلتَقي | كَما يَتَلاقى العارِضُ المُتَشَعِّبُ |
وَيَجعَلُ ميقاتاً لَها تَنبَري لَهُ | كَما دارَ يَلقى عَقرَبَ السَيرِ عَقرَبُ |
فَظَلَّت عُيونُ الحَربِ حَيرى لِما تَرى | نَواظِرَ ما تَأتي اللُيوثُ وَتُغرِبُ |
تُبالِغُ بِالرامي وَتَزهو بِما رَمى | وَتُعجَبُ بِالقُوّادِ وَالجُندُ أَعجَبُ |
وَتُثني عَلى مُزجي الجُيوشِ بِيَلدِزٍ | وَمُلهِمِها فيما تَنالُ وَتَكسِبُ |
وَما المُلكُ إِلّا الجَيشُ شَأناً وَمَظهَراً | وَلا الجَيشُ إِلّا رَبُّهُ حينَ يُنسَبُ |
تُحَذِّرُني مِن قَومِها التُركِ زَينَبُ | وَتُعجِمُ في وَصفِ اللُيوثِ وَتُعرِبُ |
وَتُكثِرُ ذِكرَ الباسِلينَ وَتَنثَني | بِعِزٍّ عَلى عِزِّ الجَمالِ وَتُعجَبُ |
وَتَسحَبُ ذَيلَ الكِبرِياءِ وَهَكَذا | يَتيهُ وَيَختالُ القَوِيُّ المُغَلِّبُ |
* * * | |
وَزَينَبُ إِن تاهَت وَإِن هِيَ فاخَرَت | فَما قَومُها إِلّا العَشيرُ المُحَبَّبُ |
يُؤَلِّفُ إيلامُ الحَوادِثِ بَينَنا | وَيَجمَعُنا في اللَهِ دينٌ وَمَذهَبُ |
نَما الوُدُّ حَتّى مَهَّدَ السُبلَ لِلهَوى | فَما في سَبيلِ الوَصلِ ما يُتَصَعَّبُ |
وَدانى الهَوى ما شاءَ بَيني وَبَينَها | فَلَم يَبقَ إِلّا الأَرضُ وَالأَرضُ تَقرُبُ |
رَكِبتُ إِلَيها البَحرَ وَهوَ مَصيدَةٌ | تُمَدُّ بِها سُفنُ الحَديدِ وَتُنصَبُ |
تَروحُ المَنايا الزُرقُ فيهِ وَتَغتَدي | وَما هِيَ إِلّا المَوجُ يَأتي وَيَذهَبُ |
وَتَبدو عَلَيهِ الفُلكُ شَتّى كَأَنَّها | بُؤوزٌ تُراعيها عَلى البُعدِ أَعقُبُ |
حَوامِلُ أَعلامِ القَياصِرِ حُضرٌ | عَلَيها سَلاطينُ البَرِيَّةِ غُيَّبُ |
تُجاري خُطاها الحادِثاتِ وَتَقتَفي | وَتَطفو حَوالَيها الخُطوبُ وَتَرسُبُ |
وَيوشِكُ يَجري الماءُ مِن تَحتِها دَماً | إِذا جَمَعَت أَثقالَها تَتَرَقَّبُ |
فَقُلتُ أَأَشراطُ القِيامَةِ ما أَرى | أَمِ الحَربُ أَدنى مِن وَريدٍ وَأَقرَبُ |
أَماناً أَماناً لُجَّةَ الرومِ لِلوَرى | لَوَ اَنَّ أَماناً عِندَ دَأماءَ يُطلَبُ |
* * * | |
كَأَنّي بِأَحداثِ الزَمانِ مُلِمَّةً | وَقَد فاضَ مِنها حَوضُكِ المُتَضَرِّبُ |
فَأُزعِجَ مَغبوطٌ وَرُوِّعَ آمِنٌ | وَغالَ سَلامَ العالَمينَ التَعَصُّبُ |
فَقالَت أَطَلتَ الهَمَّ لِلخَلقِ مَلجَأٌ | أَبَرُّ بِهِم مِن كُلِّ بَرٍّ وَأَحدَبُ |
سَلامُ البَرايا في كَلاءَةِ فَرقَدٍ | بِيَلدِزَ لا يَغفو وَلا يَتَغَيَّبُ |
وَإِنَّ أَميرَ المُؤمِنينَ لَوابِلٌ | مِنَ الغَوثِ مُنهَلٌ عَلى الخَلقِ صَيِّبُ |
رَأى الفِتنَةَ الكُبرى فَوالى اِنهِمالَهُ | فَبادَت وَكانَت جَمرَةً تَتَلَهَّبُ |
فَما زِلتُ بِالأَهوالِ حَتّى اِقتَحَمتُها | وَقَد تُركِبُ الحاجاتُ ما لَيسَ يُركَبُ |
أَخوضُ اللَيالي مِن عُبابٍ وَمِن دُجىً | إِلى أُفقٍ فيهِ الخَليفَةُ كَوكَبُ |
إِلى مُلكِ عُثمانَ الَّذي دونَ حَوضِهِ | بِناءُ العَوالي المُشمَخِرُّ المُطَنَّبُ |
فَلاحَ يُناغي النَجمَ صَرحٌ مُثَقَّبٌ | عَلى الماءِ قَد حاذاهُ صَرحٌ مُثقَبُ |
بُروجٌ أَعارَتها المَنونُ عُيونَها | لَها في الجَواري نَظرَةٌ لا تُخَيَّبُ |
رَواسي اِبتِداعٍ في رَواسي طَبيعَةٍ | تَكادُ ذُراها في السَحابِ تُغَيَّبُ |
فَقُمتُ أُجيلُ الطَرفَ حَيرانَ قائِلاً | أَهَذى ثُغورُ التُركِ أَم أَنا أَحسَبُ |
فَمِثلَ بِناءِ التُركِ لَم يَبنِ مُشرِقٌ | وَمِثلَ بِناءِ التُركِ لَم يَبنِ مَغرِبُ |
تَظَلُّ مَهولاتُ البَوارِجِ دونَهُ | حَوائِرَ ما يَدرينَ ماذا تُخَرِّبُ |
إِذا طاشَ بَينَ الماءِ وَالصَخرِ سَهمُها | أَتاها حَديدٌ ما يَطيشُ وَأَسرَبُ |
يُسَدِّدُهُ عِزريلُ في زِيِّ قاذِفٍ | وَأَيدي المَنايا وَالقَضاءُ المُدَرَّبُ |
قَذائِفُ تَخشى مُهجَةُ الشَمسِ كُلَّما | عَلَت مُصعِداتٍ أَنَّها لا تُصَوَّبُ |
إِذا صُبَّ حاميها عَلى السُفنِ اِنثَنَت | وَغانِمُها الناجي فَكَيفَ المُخَيَّبُ |
* * * | |
سَلِ الرومَ هَل فيهِنَّ لِلفُلكِ حيلَةٌ | وَهَل عاصِمٌ مِنهُنَّ إِلّا التَنَكُّبُ |
تَذَبذَبَ أُسطولاهُمُ فَدَعَتهُما | إِلى الرُشدِ نارٌ ثَمَّ لا تَتَذَبذَبُ |
فَلا الشَرقُ في أُسطولِهِ مُتقى الحِمى | وَلا الغَربُ في أُسطولِهِ مُتَهَيَّبُ |
وَما راعَني إِلّا لِواءٌ مُخَضَّبٌ | هُنالِكَ يَحميهِ بَنانٌ مُخَضَّبُ |
فَقُلتُ مَنِ الحامي أَلَيثٌ غَضَنفَرٌ | مِنَ التُركِ ضارٍ أَم غَزالٌ مُرَبَّبُ |
أَمِ المَلِكُ الغازي المُجاهِدُ قَد بَدا | أَمِ النَجمُ في الآرامِ أَم أَنتِ زَينَبُ |
رَفَعتِ بَناتَ التُركِ قالَت وَهَل بِنا | بَناتِ الضَواري أَن نَصولَ تَعَجُّبُ |
إِذا ما الدِيارُ اِستَصرَخَت بَدَرَت لَها | كَرائِمُ مِنّا بِالقَنا تَتَنَقَّبُ |
تُقَرِّبُ رَبّاتُ البُعولِ بُعولَها | فَإِن لَم يَكُن بَعلٌ فَنَفساً تُقَرِّبُ |
وَلاحَت بِآفاقِ العَدُوِّ سَرِيَّةٌ | فَوارِسُ تَبدو تارَةً وَتُحَجَّبُ |
نَواهِضُ في حُزنٍ كَما تَنهَضُ القَطا | رَواكِضُ في سَهلٍ كَما اِنسابَ ثَعلَبُ |
* * * | |
قَليلونَ مِن بُعدٍ كَثيرونَ إِن دَنَوا | لَهُم سَكَنٌ آناً وَآناً تَهَيُّبُ |
فَقالَت شَهِدتَ الحَربَ أَو أَنتَ موشِكٌ | فَصِفنا فَأَنتَ الباسِلُ المُتَأَدِّبُ |
وَنادَت فَلَبّى الخَيلُ مِن كُلِّ جانِبٍ | وَلَبّى عَلَيها القَسوَرُ المُتَرَقِّبُ |
خِفافاً إِلى الداعي سِراعاً كَأَنَّما | مِنَ الحَربِ داعٍ لِلصَلاةِ مُثَوِّبُ |
مُنيفينَ مِن حَولِ اللِواءِ كَأَنَّهُم | لَهُ مَعقِلٌ فَوقَ المَعاقِلِ أَغلَبُ |
وَما هِيَ إِلّا دَعوَةٌ وَإِجابَةٌ | أَنِ اِلتَحَمَت وَالحَربُ بَكرٌ وَتَغلِبُ |
فَأَبصَرتُ ما لَم تُبصِرا مِن مَشاهِدٍ | وَلا شَهِدَت يَوماً مَعَدٌّ وَيَعرُبُ |
جِبالَ مَلونا لا تَخوري وَتَجزَعي | إِذا مالَ رَأسٌ أَو تَضَعضَعَ مَنكِبُ |
فَما كُنتِ إِلّا السَيفَ وَالنارَ مَركَباً | وَما كانَ يَستَعصي عَلى التُركِ مَركَبُ |
عَلَوا فَوقَ عَلياءِ العَدُوِّ وَدونَهُ | مَضيقٌ كَحَلقِ اللَيثِ أَو هُوَ أَصعَبُ |
فَكانَ صِراطُ الحَشرِ ما ثَمَّ ريبَةٌ | وَكانوا فَريقَ اللَهِ ما ثَمَّ مُذنِبُ |
يَمُرّونَ مَرَّ البَرقِ تَحتَ دُجُنَّةٍ | دُخاناً بِهِ أَشباحُهُم تَتَجَلبَبُ |
حَثيثينَ مِن فَوقِ الجِبالِ وَتَحتِها | كَما اِنهارَ طَودٌ أَو كَما اِنهالَ مِذنَبُ |
تُمِدُّهُمُ قُذّافُهُم وَرُماتُهُم | بِنارٍ كَنيرانِ البَراكينِ تَدأَبُ |
تُذَرّى بِها شُمُّ الذُرا حينَ تَعتَلي | وَيَسفَحُ مِنها السَفحُ إِذ تَتَصَبَّبُ |
تُسَمَّرُ في رَأسِ القِلاعِ كُراتُها | وَيَسكُنُ أَعجازَ الحُصونِ المُذَنَّبُ |
فَلَمّا دَجى داجي العَوانِ وَأَطبَقَت | تَبَلَّجَ وَالنَصرَ الهِلالُ المُحَجَّبُ |
وَرُدَّت عَلى أَعقابِها الرومُ بَعدَما | تَناثَرَ مِنها الجَيشُ أَو كادَ يَذهَبُ |
جَناحَينِ في شِبهِ الشِباكَينِ مِن قَنا | وَقَلباً عَلى حُرِّ الوَغى يَتَقَلَّبُ |
* * * | |
عَلى قُلَلِ الأَجبالِ حَيرى جُموعُهُم | شَواخِصُ ما إِن تَهتَدي أَينَ تَذهَبُ |
إِذا صَعَدَت فَالسَيفُ أَبيَضُ خاطِفٌ | وَإِن نَزَلَت فَالنارُ حَمراءُ تَلهَبُ |
تَطَوَّعَ أَسراً مِنهُمُ ذَلِكَ الَّذي | تَطَوَّعَ حَرباً وَالزَمانُ تَقَلُّبُ |
وَتَمَّ لَنا النَصرُ المُبينُ عَلى العِدا | وَفَتحُ المَعالي وَالنَهارُ المُذَهَّبُ |
فَجِئتُ فَتاةَ التُركِ أَجزي دِفاعَها | عَنِ المُلكِ وَالأَوطانِ ما الحَقُّ يوجِبُ |
فَقَبَّلتُ كَفّاً كانَ بِالسَيفِ ضارِباً | وَقَبَّلتُ سَيفاً كانَ بِالكَفِّ يَضرِبُ |
وَقُلتُ أَفي الدُنيا لِقَومِكِ غالِبٌ | وَفي مِثلِ هَذا الحِجرِ رُبّوا وَهُذِّبوا |
رُوَيداً بَني عُثمانَ في طَلَبِ العُلا | وَهَيهاتَ لَم يُستَبقَ شَيءٌ فَيُطلَبُ |
أَفي كُلِّ آنٍ تَغرِسونَ وَنَجتَني | وَفي كُلِّ يَومٍ تَفتَحونَ وَنَكتُبُ |
وَما زِلتُمُ يَسقيكُمُ النَصرُ حُمرَهُ | وَتَسقونَهُ وَالكُلُّ نَشوانَ مُصأَبُ |
إِلى أَن أَحَلَّ السُكرَ مَن لا يُحِلُّهُ | وَمَدَّ بِساطَ الشُربِ مَن لَيسَ يَشرَبُ |
وَأَشمَطَ سَوّاسِ الفَوارِسِ أَشيَبُ | يَسيرُ بِهِ في الشَعبِ أَشمَطُ أَشيَبُ |
رَفيقاً ذَهابٍ في الحُروبِ وَجيئَةٍ | قَدِ اِصطَحَبا وَالحُرُّ لِلحُرِّ يَصحَبُ |
إِذا شَهِداها جَدَّدا هِزَّةَ الصِبا | كَما يَتَصابى ذو ثَمانينَ يَطرُبُ |
فَيَهتَزُّ هَذا كَالحُسامِ وَيَنثَني | وَيَنفُرُ هَذا كَالغَزالِ وَيَلعَبُ |
تَوالى رَصاصُ المُطلِقينَ عَلَيهِما | يُخَضِّلُ مِن شَيبِهِما وَيُخَضِّبُ |
* * * | |
فَقيلَ أَنِل أَقدامَكَ الأَرضَ إِنَّها | أَبَرُّ جَواداً إِن فَعَلتَ وَأَنجَبُ |
فَقالَ أَيَرضى واهِبُ النَصرِ أَنَّنا | نَموتُ كَمَوتِ الغانِياتِ وَنُعطَبُ |
ذَروني وَشَأني وَالوَغى لا مُبالِياً | إِلى المَوتِ أَمشي أَم إِلى المَوتِ أَركَبُ |
أَيَحمِلُني عُمراً وَيَحمي شَبيبَتي | وَأَخذُلُهُ في وَهنِهِ وَأُخَيِّبُ |
إِذا نَحنُ مِتنا فَاِدفِنونا بِبُقعَةٍ | يَظَلُّ بِذِكرانا ثَراها يُطَيِّبُ |
وَلا تَعجَبوا أَن تَبسُلَ الخَيلُ إِنَّها | لَها مِثلُ ما لِلناسِ في المَوتِ مَشرَبُ |
فَماتا أَمامَ اللَهِ مَوتَ بَسالَةٍ | كَأَنَّهُما فيهِ مِثالٌ مُنَصَّبُ |
وَما شُهَداءُ الحَربِ إِلّا عِمادُها | وَإِن شَيَّدَ الأَحياءُ فيها وَطَنَّبوا |
مِدادُ سِجِلِّ النَصرِ فيها دِماؤُهُم | وَبِالتِبرِ مِن غالي ثَراهُم يُتَرَّبُ |
فَهَل مِن مَلونا مَوقِفٌ وَمَسامِعٌ | وَمِن جَبَلَيها مِنبَرٌ لي فَأَخطُبُ |
فَأَسأَلُ حِصنَيها العَجيبَينِ في الوَرى | وَمَدخَلُها الأَعصى الَّذي هُوَ أَعجَبُ |
وَأَستَشهِدُ الأَطوادَ شَمّاءَ وَالذُرا | بَواذِخَ تُلوي بِالنُجومِ وَتُجذَبُ |
هَلِ البَأسُ إِلّا بَأسُهُم وَثَباتُهُم | أَوِ العَزمُ إِلّا عَزمُهُم وَالتَلَبُّبُ |
أَوِ الدينُ إِلّا ما رَأَت مِن جِهادِهِم | أَوِ المُلكُ إِلّا ما أَعَزّوا وَهَيَّبوا |
وَأَيُّ فَضاءٍ في الوَغى لَم يُضَيِّقوا | وَأَيُّ مَضيقٍ في الوَرى لَم يُرَحِّبوا |
وَهَل قَبلَهُم مَن عانَقَ النارَ راغِباً | وَلَو أَنَّهُ عُبّادُها المُتَرَهِّبُ |
وَهَل نالَ ما نالوا مِنَ الفَخرِ حاضِرٌ | وَهَل حُبِيَ الخالونَ مِنهُ الَّذي حُبوا |
* * * | |
سَلاماً مَلونا وَاِحتِفاظاً وَعِصمَةً | لِمَن باتَ في عالي الرِضى يَتَقَلَّبُ |
وَضِنّي بِعَظمٍ في ثَراكِ مُعَظَّمٍ | يُقَرِبُهُ الرَحمَنُ فيما يُقَرِّبُ |
وَطِرناوُ إِذ طارَ الذُهولُ بِجَيشِها | وَبِالشَعبِ فَوضى في المَذاهِبِ يَذهَبُ |
عَشِيَّةَ ضاقَت أَرضُها وَسَماؤُها | وَضاقَ فَضاءٌ بَينَ ذاكَ مُرَحِّبُ |
خَلَت مِن بَني الجَيشِ الحُصونُ وَأَقفَرَت | مَساكِنُ أَهليها وَعَمَّ التَخَرُّبُ |
وَنادى مُنادٍ لِلهَزيمَةِ في المَلا | وَإِنَّ مُنادي التُركِ يَدنو وَيَقرُبُ |
فَأَعرَضَ عَن قُوّادِهِ الجُندُ شارِداً | وَعَلَّمَهُ قُوّادُهُ كَيفَ يَهرُبُ |
وَطارَ الأَهالي نافِرينَ إِلى الفَلا | مِئينَ وَآلافاً تَهيمُ وَتَسرُبُ |
نَجَوا بِالنُفوسِ الذاهِلاتِ وَما نَجَوا | بِغَيرِ يَدٍ صِفرٍ وَأُخرى تُقَلِّبُ |
وَطالَت يَدٌ لِلجَمعِ في الجَمعِ بِالخَنا | وَبِالسَلبِ لَم يَمدُد بِها فيهِ أَجنَبُ |
يَسيرُ عَلى أَشلاءِ والِدِهِ الفَتى | وَيَنسى هُناكَ المُرضَعَ الأُمُّ وَالأَبُ |
وَتَمضي السَرايا واطِئاتٍ بِخَيلِها | أَرامِلَ تَبكي أَو ثَواكِلَ تَندُبُ |
فَمِن راجِلٍ تَهوي السِنونُ بِرِجلِهِ | وَمِن فارِسٍ تَمشي النِساءُ وَيَركَبُ |
وَماضٍ بِمالٍ قَد مَضى عَنهُ وَألُهُ | وَمُزجٍ أَثاثاً بَينَ عَينَيهِ يُنهَبُ |
يَكادونَ مِن ذُعرٍ تَفُرُّ دِيارُهُم | وَتَنجو الرَواسي لَو حَواهُنَّ مَشعَبُ |
يَكادُ الثَرى مِن تَحتِهِم يَلِجُ الثَرى | وَيَقضِمُ بَعضُ الأَرضِ بَعضاً وَيُقضِبُ |
تَكادُ خُطاهُم تَسبِقُ البَرقَ سُرعَةً | وَتَذهَبُ بِالأَبصارِ أَيّانَ تَذهَبُ |
تَكادُ عَلى أَبصارِهِم تَقطَعُ المَدى | وَتَنفُذُ مَرماها البَعيدَ وَتَحجُبُ |
تَكادُ تَمُسُّ الأَرضَ مَسّاً نِعالُهُم | وَلَو وَجَدوا سُبلاً إِلى الجَوِّ نَكَّبوا |
هَزيمَةُ مَن لا هازِمٌ يَستَحِثُّهُ | وَلا طارِدٌ يَدعو لِذاكَ وَيوجِبُ |
* * * | |
قَعَدنا فَلَم يَعدَم فَتى الرومِ فَيلَقاً | مِنَ الرُعبِ يَغزوهُ وَآخَرَ يَسلُبُ |
ظَفِرنا بِهِ وَجهاً فَظَنَّ تَعَقُّباً | وَماذا يَزيدُ الظافِرينَ التَعَقُّبُ |
فَوَلّى وَما وَلّى نِظامُ جُنودِهِ | وَيا شُؤمَ جَيشٍ لِلفَرارِ يُرَتِّبُ |
يَسوقُ وَيَحدو لِلنَجاةِ كَتائِباً | لَهُ مَوكِبٌ مِنها وَلِلعارِ مَوكِبُ |
مُنَظَّمَةٌ مِن حَولِهِ بَيدَ أَنَّها | تَوَدُّ لَوِ اِنشَقَّ الثَرى فَتُغَيَّبُ |
مُؤَزَّرَةٌ بِالرُعبِ مَلدوغَةٌ بِهِ | فَفي كُلِّ ثَوبٍ عَقرَبٌ مِنهُ تَلسِبُ |
تَرى الخَيلَ مِن كُلِّ الجِهاتِ تَخَيُّلاً | فَيَأخُذُ مِنها وَهمُها وَالتَهَيُّبُ |
فَمِن خَلفِها طَوراً وَحيناً أَمامَها | وَآوِنَةً مِن كُلِّ أَوبٍ تَأَلَّبُ |
فَوارِسُ في طولِ الجِبالِ وَعَرضِها | إِذا غابَ مِنهُم مِقنَبٌ لاحَ مِقنَبُ |
فَمَهما تَهِم يَسنَح لَها ذو مُهَنَّدٍ | وَيَخرُج لَها مِن باطِنِ الأَرضِ مِحرَبُ |
وَتَنزِل عَلَيها مِن سَماءِ خَيالِها | صَواعِقٌ فيهِنَّ الرَدى المُتَصَبِّبُ |
رُؤىً إِن تَكُن حَقّاً يَكُن مِن وَرائِها | مَلائِكَةُ اللَهِ الَّذي لَيسَ يُغلَبُ |
وَفِرسالُ إِذ باتوا وَبِتنا أَعادِياً | عَلى السَهلِ لُدّاً يَرقُبونَ وَنَرقُبُ |
وَقامَ فَتانا اللَيلَ يَحمي لِواءَهُ | وَقامَ فَتاهُم لَيلَهُ يَتَلَعَّبُ |
تَوَسَّدَ هَذا قائِمَ السَيفِ يَتَّقي | وَهَذا عَلى أَحلامِهِ يَتَحَسَّبُ |
وَهَل يَستَوي القِرنانُ هَذا مُنَعَّمٌ | غَريرٌ وَهَذا ذو تَجاريبَ قُلَّبُ |
حَمَينا كِلانا أَرضَ فِرسالَ وَالسَما | فَكُلُّ سَبيلٍ بَينَ ذَلِكَ مَعطَبُ |
وَرُحنا يَهُبُّ الشَرُّ فينا وَفيهِمُ | وَتَشمُلُ أَرواحُ القِتالِ وَتَجنُبُ |
* * * | |
كَأَنّا أُسودٌ رابِضاتٌ كَأَنَّهُم | قَطيعٌ بِأَقصى السَهلِ حَيرانَ مُذئِبُ |
كَأَنَّ خِيامَ الجَيشِ في السَهلِ أَينَقُ | نَواشِزُ فَوضى في دُجى اللَيلِ شُزَّبُ |
كَأَنَّ السَرايا ساكِناتٍ مَوائِجاً | قَطائِعُ تُعطى الأَمنَ طَوراً وَتُسلَبُ |
كَأَنَّ القَنا دونَ الخِيامِ نَوازِلاً | جَداوِلُ يُجريها الظَلامُ وَيُسكَبُ |
كَأَنَّ الدُجى بَحرٌ إِلى النَجمِ صاعِدٌ | كَأَنَّ السَرايا مَوجُهُ المُتَضَرِّبُ |
كَأَنَّ المَنايا في ضَميرِ ظَلامِهِ | هُمومٌ بِها فاضَ الضَميرُ المُحَجَّبُ |
كَأَنَّ صَهيلَ الخَيلِ ناعٍ مُبَشِّرٌ | تَراهُنَّ فيها ضُحَّكاً وَهيَ نُحَّبُ |
كَأَنَّ وُجوهَ الخَيلِ غُرّاً وَسيمَةً | دَرارِيُّ لَيلٍ طُلَّعٌ فيهِ ثُقَّبُ |
كَأَنَّ أُنوفَ الخَيلِ حَرّى مِنَ الوَغى | مَجامِرُ في الظَلماءِ تَهدا وَتَلهُبُ |
كَأَنَّ صُدورَ الخَيلِ غُدرٌ عَلى الدُجى | كَأَنَّ بَقايا النَضحِ فيهِنَّ طُحلُبُ |
كَأَنَّ سَنى الأَبواقِ في اللَيلِ بَرقُهُ | كَأَنَّ صَداها الرَعدُ لِلبَرقِ يَصحَبُ |
كَأَنَّ نِداءَ الجَيشِ مِن كُلِّ جانِبٍ | دَوِيُّ رِياحٍ في الدُجى تَتَذَأَّبُ |
كَأَنَّ عُيونَ الجَيشِ مِن كُلِّ مَذهَبٍ | مِنَ السَهلِ جُنَّ جُوَّلٌ فيهِ جُوَّبُ |
كَأَنَّ الوَغى نارٌ كَأَنَّ جُنودَنا | مَجوسٌ إِذا ما يَمَّموا النارَ قَرَّبوا |
كَأَنَّ الوَغى نارٌ كَأَنَّ الرَدى قِرىً | كَأَنَّ وَراءَ النارِ حاتِمَ يَأدِبُ |
كَأَنَّ الوَغى نارٌ كَأَنَّ بَني الوَغى | فَراشٌ لَهُ مَلمَسُ النارِ مَأرَبُ |
* * * | |
وَثَبنا يَضيقُ السَهلُ عَن وَثَباتِنا | وَتَقدُمُنا نارٌ إِلى الرومِ أَوثَبُ |
مَشَت في سَراياهُم فَحَلَّت نِظامَها | فَلَمّا مَشَينا أَدبَرَت لا تُعَقِّبُ |
رَأى السَهلُ مِنهُم ما رَأى الوَعرُ قَبلَهُ | فَيا قَومُ حَتّى السَهلُ في الحَربِ يَصعُبُ |
وَحِصنٌ تَسامى مِن دُموقو كَأَنَّهُ | مُعَشِّشُ نَسرٍ أَو بِهَذا يُلَقَّبُ |
أَشُمُّ عَلى طَودٍ أَشَمَّ كِلاهُما | مَنونُ المُفاجي وَالحِمامُ المُرَحِّبُ |
تَكادُ تَقادُ الغادِياتُ لِرَبِّهِ | فَيُزجي وَتَنزُمُّ الرِياحُ فَيَركَبُ |
حَمَتهُ لُيوثٌ مِن حَديدٍ تَرَكَّزَت | عَلى عَجَلٍ وَاِستَجمَعَت تَتَرَقَّبُ |
تَثورُ وَتَستَأني وَتَنأى وَتَدَّني | وَتَغدو بِما تَغدي وَتَرمي وَتَنشُبُ |
اخترنا لك قصائد أخرى للشاعر (أحمد شوقي) . |