عصر الرشيد
مدة
قراءة القصيدة :
6 دقائق
.
كم بين طيّات القرون الخالية | عظة لأبناء الدهور الآتية |
عبر اللّيالي كاللّيالي جمّة | لكنّما النزر القلوب الواعية |
الدّهر يفنينا و نحسب أنّه | يفني بنا أيّامه و لياليه |
فاذا مشى فينا الفناء فراعنا | خلق الخيال لنا الحياة الثانية |
إنّ الحياة قصيدة ، أبياتها | أعمارنا ، و الموت فيها القافية |
كم تعشق الدنيا و تنكر صدّها | أنسيت أنّ الخلف طبع الغانية ؟ |
و تودّ لو يبقى عليك نعيمها | أجهلت أن عيك ردّ العارية ؟ |
خلذ الغرور بما لديك فإنّما | دنياك زائلة و نفسك فانية |
إنّ الألى وطئت نعالهم السّهى | و طئت جباههم نعال الماشية |
لو أنّ حيّا خالد فوق الثّرى | ما مات " هارون " و زال " معاوية " |
أو كان عزّ دائما ما أصبحت | " بغداد " في عدد الطلول البالية |
أخنت عليها النائبات، فدروها | خرب تعاودها الرياح السّافية |
يأوى إليها البوم غير مروّع | من كلّ نعّاب أحمّ الخافيه |
نزل القضاء فما حماها سورها | ولطالما ردّ الجيوش الغازية |
و اجتاح مجتاح العروش ملوكها | فكأنهم أعجاز نخل خاوية |
أين القصور الشاهقات و أهلها | باد الجميع ، فما لهم من باقية |
درست معالمها و غيّرها البلى | و لقد ترى حلل المحاسن كاسية |
أيّام لا دوح المعارف ذابل | ذاو ، و لا دور الصّناعة خالية |
أيّام لا لغة " الكتاب " غريبة | فيها و لا همم الأعارب وانية |
أيّام كان العلم يغبط أهله | أهل الثراء ، ذوو البرود الضافية |
أيّام كان لكلّ حسن شاعر | كلف به و لكلّ شعر راويه |
أيّام " دجلة " مطمئن هاديء | جذلان يهزأ بالبحور الطامية |
" النيل " خادمه الأمين ، و عبده | " نهر الفرات " و كلّ عين " جارية " |
تهوى الكواكب أنّها حصباؤه | أو أنّها شجر عليه حانيه |
و تودّ كلّ سحابة مرّت به | لو أنّه سحب عليها هامية |
و ترى الغزاله طيفها عند الضحى | في سطحه فتبيت عطشى راوية |
أيّام كان الشرق مرهوب اللوا | يكسو الجلال سهوله و روابيه |
أيّام تحسدها العواصم مثلما | حسد العواطل أختهنّ الحالية |
و لطالما كانت تعزّ بعزّها | " مصر " و يحمي ذكرها " أنطاكيه " |
*** | |
أيّام " هارون " يدير شؤونها | يا عصر هارون " عليك سلاميه |
ملك أدال من الجهالة علمه | و أذلّ صارمه الملوك العاتيه |
ومشت تطوّف في البلاد هباته | تغشى حواضرها و تغشى البادية |
ملأ البلاد عوارفا و معارفا | و الأرض عدلا و النفوس رفاهيه |
فتحضّر البادون في أيّامه | و استأنست حتّى الوحوش الضارية |
و تسربلت " بغداد " ثوب مهابة | ليست تراه أو " تراه " ثانيه |
هاتيك أيّام تلاشت مثلما تمحو | من الرقّ الحروف الماحية |
لم يبق إلاّ ذكرها يا حسنها | ذكرى تهشّ لها العظام الباليه |
لو أنّ هذا الدهر سفر كنت يا | عصر الحضارة متنه و الحاشية |
عصر لئن جاء البشير بعودة | فلأخلعنّ على البشير شبابيه !.. |
*** | |
إيه " أبا المأمون " ذكرك آبد | في الأرض مثل الشامخات الراسيه |
باق على مرّ العصور بقاءها | و كذاك ذكر ذوي النفوس السامية |
إن لم يكن لك من مثال بيننا | فلأنّ روحك كلّ حين دانيه |
هي في الخمائل زهرة فيّاحة | هي في الكواكب شمسها المتلالية |
إنّي لأعجب كيف متّ و في الورى | حيّ و كيف طوتك هذي الطاوية |
ومن الزمان يهدّ ما شيّدته | ويح الزمان أما تهيّب بانيه ؟ |
تشكو إليك اليوم نفسي شجوها | فلأنت مفزع كلّ نفس شاكية |
أتراك تعلم أنّ دارك بدّلت | من صوت " إسحق " بصوت النّاعية ؟ |
أتراك تعلم أنّ ما أثلته | قد ضيّعته الأنفس المتلاهية ؟ |
يا ويح هذا الشرق بعدك إنّه | للضعف بات على شفير الهاوية |
ما كان يقنع بالنجوم وسائدا | و اليوم يقنع أهله بالعافية ! |
مسترسلون إلى الذهول كأنّما | سحروا أو اصطرعوا ببنت الخابية |
مستسلمون إلى القضاء كأنّما | أخذوا و لمّا يؤخذوا بالغاشية |
المجد إدراك النفيس ، و عندهم | ما المجد إلاّ شادن أو شادية |
يهوى الحياة الناس طوع نفوسهم | و هم يريدون الحياة كما هيه |
صغرت نفوسهم فبات عزيزهم | يخشى الجبان كما يخاف الطاغية |
حملوا المغارم ساكتين كأنّما | كبرت على أحناكهم لا الناهية |
لم تسمع الدنيا بقوم قبلهم | ماتوا و ما برحوا الديار الفانية |
الله لو حرصوا على أمجادهم | فلتلك عنوان الشعوب الراقية |
ملك " العلوج " أمورهم و متاعهم | حتّى سوامهم و حتّى الآنية |
وا خجلة العربيّ من أجداده | صارت عبيدهم الطغاة موالية !.. |
*** | |
أبني الغطارفة الجبابرة الألى | و طئوا " اللّوار " و دوّخوا " إسبانية " |
من حولكم و أمامكم تاريخهم | فاستخبروه فذاك أصدق راويه |
قادوا الجيوش فكلّ سهل ضيّق | ورموا المعاقل فهي أرض داحيه |
و سطوا فأسقطت العروش ملوكها | رعبا و أجفلت الصروح العالية |
و مشوا على هام النجوم فلم تزل | في اللّيل من وجل تحدّق ساهية |
وردت خيولهم المجرّة شزّبا | و الشهب من حول المجرّة صادية |
أعطاهم صرف الزمان زمامه | أمنوا و ما أمن الزمان دواهيه |
لا أستفزّكم لمثل فتوحهم لكن | إلى حفظ البقايا الباقية |
أتذلّ آناف الملوك جدودكم | و تسومكم خسفا رعاة الماشية ؟ |
كم تصبرون على الهوان كأنّكم | في غبطة و الذّلّ نار حامية |
يا للرجال ! أما علمتم أنّكم | إن لم تثوروا ، أمّة متلاشية ؟ |
*** | |
" دار السّلام " تحيّة من شاعر | حسدت مدامعه عليك قوافية |
فأراق ماء شؤونه و لو أنّه | في الغاديات أراق ماء الغادية |
لو كان مجدك مستردا بالبكا | قطرت محاجره الدماء القانية |
فعليك تذهب كلّ نفس حسرة | و لمثل خطبك تستعار الباكية !! |