بائعة الورد
مدة
قراءة القصيدة :
7 دقائق
.
من الفرنسيس قيد العين صورتها | عذراء قد ملئت أجفانها حورا |
كأنّما و هبتها الشّمس صفحتها | وجها و حاكت لها أسلاكها شعرا |
يد المنيّة طاحت غبّ مولدها | بأمّها ، و أبوها مات منتحرا |
في قرية من قرى باريس ما صغرت | عن الفتاة و لكن همّها كبرا |
و النّفس تعشق في الأهلين موطنها | و ليس تعشقه يحويهم حفرا |
و تعظم الأرض في عينيك محترما | و ليس تعظم في عينيك محتقرا |
فغادرتها و ما في نفسها أثر | منها و لا تركت في أهلها أثرا |
إلى التي تفتن الدّنيا محاسنها | و حسن من سكنوها يفتن البشرا |
إلى التي تجمع الأضداد دارتها | و يحرس الأمن في أرجائها الخطرا |
إذا رآها تقيّ ظنّها " عدنا " | و إن رآها شقيّ ظنّها " سقرا " |
تودّ شمس الضّحى لو أنّها فلك | و الأفق لو طلعت في أوجه قمرا |
و الغرب لو كان عودا في منابرها | و الشّرق لو كان في جدرانها حجرا |
في كلّ قلب هوى كأنّ له | في أهلها صاحبا ، في أرضها وطرا |
( باريس ) أعجوبة الدّنيا و جنّتها | وربّة الحسن مطروقا و مبتكرا |
... | |
حلّت عليها فلم تنكر زخارفها | فطالما أبصرت أشباهها صورا |
و لا خلائق أهليها وزيّهم | فطالما قرأت أخلاقهم سيرا |
و إنّما أنكرت في الأرض وحدها | كذلك الطّير إما فارق الوكرا |
يتيمة مالها أم تلوذ بها | و لا أب إن دعته نحوها حضرا |
غريبة يقتفيها البؤس كيف مشت | ما عزّ في أرض " باريس " من افتقرا |
مرّت عليها ليال و هي في شغل | عن سالف الهمّ بالهمّ الذي ظهرا |
حتّى إذا عضّها ناب الطّوى نفرت | تستنزل الرّزق فيها الفرد و النّفرا |
تجني اللّجين الباذلوه لها | من كفّها الرود منظوما و منتثرا |
لا تتّقي الله فيه و هو في يدها | و تتّقي فيه فوق الوجنة النّظرا |
تغار حتّى من الأرواح سارية | فلو تمرّ قبول أطرقت خفرا |
أذالت الورد قانية و أصفره | كيما تصون الذي في خدّها نضرا |
حمته عن كلّ طرف فاسق غزل | لو استطاعت حمته الوهم و الفكرا |
تضاحك لا زهرا و لا لعبا | و تجحد الفقر لا كبرا و لا أشرا |
فإن خلت هاجت الذكرى لواعجها | فاستنفدت طرفها الدمع الذي اذّخرا |
... | |
تعلّقته فتى كالغصن قامته | حلو اللّسان أغرّ الوجه مزدهرا |
وهام فيها تريه الشمس غرّتها | و الفجر مرتصفا في ثغرها دررا |
إذا دنا رغبت لا يفارقها | و إن نأى أصبحت تشتاق لو ذكرا |
تغالب الوجد فيه و هو مقترب | و تهجر الغمض فيه كلّما هجرا |
كانت توقّى الهوى إذ لا يخامرها | فأصبحت تتوقّى في الهوى الحذرا |
قد عرّضت نفسها للحبّ واهية | فنال الهوى الجبّار مقتدرا |
و الحبّ كاللّص لا يدريك موعده | لكنّه قلّما ، كالسّارق ، استترا |
... | |
و ليلة من ليالي الصّيف مقمرة | لا تسأم العين فيها الأنجم الزهرا |
تلاقيا فشكاها الوجد فاضطربت | ثمّ استمرّ فباتت كالذي سحرا |
شكا فحرّك بالشّكوى عواطفها | كما تحرّك كفّ العازف الوترا |
وزاد حتّى تمنّت كلّ جارحة | لو أصبحت مسمعا أو أصبحت بصرا |
ران الهيام على الصّبّين فاعتنقا | لا يملكان النّهى وردا و لا صدرا |
" كان ما كان ممّا لست أذكره " | تكفي الإشارة أهل الفطنة الخبرا |
... | |
هامت به و هي لا تدري لشقوتها | بأنّها قد أحبّت أرقما ذكرا |
رأته خشفا فأدنته فراء بها | شاة فأنشب فيها نابه نمرا |
ما زال يؤمن فيها غير مكترث | بالعاذلين فلمّا آمنت كفرا |
جنى عليها الذي تخشى ، و قاطعها | كأنّما قد جنت ما ليس مغتفرا |
كانت و كان يرى في خدّها صعرا | عنه فباتت ترى في خدّه صعرا |
فكلّما استعطفته ازور محتدما | و كلّما ابتسمت في وجهه كشرا |
قال النّفار و " فرجيني " على مضض | تجرّع الأنقعين : الصّاب و الصّبرا |
... | |
قالت ، و قد زارها يوما ، معرّضة | متى ، لعمرك ، يجني الغارس الثّمرا ؟ |
كم ذا الصّدود ، و لا ذنب جنته يدي | أرجو بك الصّفو لا أرجو بك الكدرا |
تركتني لا أذوق الماء من ولهي | كما تركت جفوني لا تذوق كرى |
أشفق عليّ و لا تنس وعودك لي | فإنّ ما بي لو بالصّخر لانفطرا |
أطالت العتب ترجو أن يرقّ لها | فؤاده فأطال الصّمت مختصرا |
و أحرجته لأنّ الهمّ أحرجها | و كلّما أحرجته راغ معتذرا |
و ضاق ذرعا بما يخفى لها | إلى م ألزم فيك العيّ و الحصرا |
أهواك صاحبة ... أمّا اقترانك بي | فليس يخطر في بالي و لا خطرا |
أهوى رضاك و لكن إن سعيت له | أغضبت نفسي و الدّيّان و البشرا |
عنيت مالي من قلبين في جسدي | و ليس قلبي إلى قسمين منشطرا |
تطالبني فؤادي و هو مرتهن | في كفّ غيرك ، رمت المطلب العسرا |
يكفيك أنّي فيك خنت إمرأتي ! | و لم يخن قلبها عهدي و لا خفرا |
قد كان طيشا هيامي فيك بل نزفا | و كان حبّك ضعفا بل خورا |
قالت متى صرت بعلا ؟ قال من أمد | لا أحسب العمر إلاّه و إن قصرا |
يا هول ما أبصرت يا هول ما سمعت | كادت تكذّب فيه السّمع و البصرا |
لولا بقيّة صبر في جوانبها | طارت له نفسها من وقعة شذرا |
يا للخيانة ! صاحت و هي هائجة | كما تهيّج ليث بابنه و ترا |
الآن أيقنت أنّي كنت واهمة | و أنّ ما كلّ برق يصحب المطرا |
و هبت قلبك غيري و هو ملك يدي | ما خفت شرعا و لا باليت مزدجرا |
ليست شرائع هذي الأرض عادلة | كان الضّعيف و لا ينفكّ محتقرا |
قد كنت أخشى يد الأقدار تصدعنا | و كان أجدر أن أخشاك لا القدرا |
و صلتني مثل الشمس الأفق ناصعة | و عفتني مثل جنح اللّيل معتكرا |
كما تعاف السّراة الثّوب قد بليت | خيوطه و الرّواة المورد القذرا |
خفت الأقاويل بي قد نام قائلها | هلّا خشيت انتقامي و هو قد سهرا |
يا سالبي عفّتي من قبل تهجرني | أردد عليّ عفافي واردد الطّهرا |
هيهات ما من عفّتي عوض | لاح الرّشاد و بان الغيّ وانحسرا ... |
... | |
و أقبلت نحوه تغلي مراجلها | كأنّها بركان ثار و انفجرا |
في صدرها النّار ، نار الحقد ، مضرمة | لكنّما مقلتاها تقذف الشّررا |
و أبصر النّصل تخفيه أناملها | فراح يركض نحو الباب منذعرا |
لكنّها عاجلته غير وانية | بطعنة فجّرت في صدره نهرا |
فخرّ في الأرض جسما لا حراك به | لكنّ " فرجين " ماتت قبلما احتضرا |
جنّت من الرّعب و الأحزان فانتحرت | ما حبّت الموت لكن خافت الوضرا |
... | |
كانت قبيل الرّدى منسيّة فغدت | بعد الحمام حديث القوم و السّمرا |
تتلو الفتاة عظات في حكايتها | كما يطالع فيها النّاشيء العبرا |