أم القرى
مدة
قراءة القصيدة :
4 دقائق
.
أبصرتها ، و الشمس عند شروقها | فرأيتها مغمورة بالنار |
و رأيتها عند الغروب غريقه | في لجّة من سندس و نضار |
و رأيتها تحت الدجى ، فرأيتها | في بردتين : سكينة ووقار |
فتنبّهت في النفس أحلام الصبى | و غرقت في بحر من التّذكار |
... | |
نفسي لها من جنّة خلّابة | نسجت غلائلها يد الأمطار |
أنّى مشيت نشقت مسكا أزفرا | في أرضها و سمعت صوت هزار |
... | |
ذات الجبال الشّامخات إلى العلا | يا ليت في أعلى جبالك داري |
لأرى الغزالة قبل سكان الحمى | و أعانق النّسمات في الأسحار |
لأرى رعاتك في المروج و في الربى | و الشّاء سارحة مع الأبقار |
لأرى الطيور الواقعات على الثرى | و النحل حائمة على الأزهار |
لأساجل الورقاء في تغريدها | و تهزّ روحي نفحة المزمار |
لأسامر الأقمار في أفلاكها | تحت الظّلام إذا غفا سمّاري |
لأراقب " الدلوار " في جريانه | و أرى خيال البدر في " الدلوار " |
... | |
بئس المدينة إنّها سجن النّهى | و ذوي النّهى ، و جهنّم الأحرار |
لا يملك الإنسان فيها نفسه | حتّى يروّعه ضجيج قطار |
وجدت بها نفسي المفاسد و الأذى | في كلّ زاوية و كلّ جدار |
لا يخدعنّ الناظرين برجها | تلك البروج مخابيء للعار |
لو أنّ حاسد أهلها لاقى الذي | لاقيت لم يحسد سوى " بشّار " |
غفرانك اللّهم ما أنا كافر | فلم تعذّب مهجتي بالنّار ؟ |
... | |
لله ما أشهى القرى و أحبّها | لفتى بعيد مطارح الأفكار |
إن شئت تعرى من قيودك كلّها | فانظر إلى صدر السّماء العاري |
و امش على ضوء الصّباح ، فإن خبا | فامش على ضوء الهلال السّاري |
عش في الخلا تعش خليّا هانئا | كالطّير ... حرا ، كالغدير الجاري |
عش في الخلاء كما تعيش طيوره | الحرّ يأبى العيش تحت ستار ! |
... | |
شلّال " ملفرد " لا يقرّ قراره | و أنا لشوقي لا يقرّ قراري |
فيه من السيف الصقيل بريقه | و له ضجيج الجحفل الجرّار |
أبدا يرش صخوره بدموعه | أتراه يغسلها من الأوزار ؟ |
فاذا تطاير ماؤه متناثرا | أبصرت حول السفح شبه غبار |
كالبحر ذي التّيار يدفع بعضه | و يصول كالضرغام ذي الأظفار |
من قمّة كالنهد ، أيّ فتى رأى | نهدا يفيض بعارض مدرار ؟ |
فكأنّما هي منبر و كأنّه | " ميراب " بين عصائب الثوّار |
من لم يشاهد ساعة و ثباته | لم يدر كيف تغطرس الجبّار |
ما زلت أحسب كلّ صمت حكمة | حتّى بصرت بذلك الثرثار |
أعددت ، قبل أراه ، وقفة عابر | لاه فكانت وقفة استعبار ! .. |
... | |
يا أخت دار الخلد ؛ يا أم القرى ، | يا ربّة الغابات و الأنهار |
لله يوم فيك قد قضّيته | مع عصبة من خيرة الأنصار |
نمشي على تلك الهضاب ودوننا | بحر من الأغراس و الأشجار |
تنساب فيه العين بين جداول | و خمائل و مسالك و ديار |
آنا على جبل مكين راسخ | راس ، و آنا فوق جرف هار |
تهوي الحجارة تحتنا من حالق | و نكاد أن نهوي مع الأحجار |
لو كنت شاهدنا نهرول من عل | لضحكت منّا ضحكة استهتار |
الريح ساكنة و نحن نظنّنا | للخوف مندفعين مع إعصار |
و الأرض ثابتة و نحن نخالها | تهتزّ مع دفع النسيم السّاري |
مازال يسند بعضنا بعضا كما | يتماسك الروّاد في الأسفار |
ويشدّ هذا ذاك من أزراره | فيشدّني ذيّاك من أزراري |
حتى رجعنا سالمين و لم نعد | لو لم يمدّ الله في الأعمار |
و لقد وقفت حيال نهرك بكرة | و الطير في الركنات و الأوكار |
متهيّبا فكأنّني في هيكل | و كأنّه سفر من الأسفار |
ما كنت من يهوى السكوت و إنّما | عقلت لساني رهبة الأدهار |
مرّ النسيم به فمرّت مقلتي | منه بأسطار على أسطار |
فالقلب مشتغل بتذكاراته | و الطرف مندفع مع التيّار |
حتى تجلّت فوق هاتيك الربى | شمس الصباح تلوح كالدّينار |
فعلى جوانبه وشاح زبرجد | و على غراربه و شاح بهار |
لو أبصرت عيناك فيه خيالها | لرأيت مرآة بغير إطار |
يمّمته سحرا و أسراري معي | و رجعت في أعماقه أسراري ! .. |
... | |
إنّي حسدت على القرى أهل القرى | و غبطت حتّى نافخ المزمار |
ليل و صبح بين إخوان الصّفا | ما كان أجمل ليلتي و نهاري ! |