الفرات الطاغي !...
مدة
قراءة القصيدة :
4 دقائق
.
طغَى فضوعف منه الحسنُ والخَطَرُ | وفاض فالأرضُ والأشجارُ تنغمِرُ |
وراعت الطائرَ الظمآنَ هيبتُه | فمرَّ وهو جبانٌ فوقَه حذِر |
كأنما هو في آذيِّه جَبَلٌ | على الضفاف مُطلٌّ وهي تنحدر |
رَبُّ المزارعِ والملاّحِ راعَهما | بالحول منه عظيمُ البطش مقتدِر |
باتت على ضَفَّتيه الليلَ تحرُسُه | غُلبُ الرجال لما يأتيه تنتظر |
راحو أُسارى مطأطين الرؤوسَ له | وراح طوعَ يديه النفعُ والضرر |
مَشَى على رِسْلِه لا الخوفُ يَردَعُه | ولا عن الفِعلة النكراءِ يعتذِر |
ومر يَهزَأ من أيد تقاومه | تسعَى لتحكيم أسداد وتبتدِر |
فكلُّ ما بلغَ الانسانُ من عَنَتٍ | قُوى الطبيعةِ تأتيه فيندحِر |
وما " الفرات ُ " بمسطاعٍ فمختَضَدٍ | ولا بمستعبَد بالعُنفِ يُقتَسر |
كم من معاركَ شنَّ الفنُ غارتَها | على " الفرات " ولكنْ كانَ ينتصر |
نَموذَجٌ " للأنانيينَ " ليس له | ولا عليه ، أفازَ الناسُ أم خسِروا |
في حينَ باتَ جميعُ الناس يُرهبُهم | في كل ثانيةٍ عن سَيره خَبَر |
ملءُ القلوب خشوعٌ من مهابتِه | وملءُ أعينهم من خوفِه سَهر |
وراح شُغْل النوادي عن فظاظته | يُجرى الحديثَ وفيه ينقضي السهر |
ورُوِّعَ السمعُ حتى بات من ذَهَل | يود سَمعُ الفتى لو أنه بَصَر |
واستُبطِئت عن نَثَا أخباره بُرُدٌ | واستُنهِضَ البرقُ يُستقصي به الخَبَر |
هو " الفرات " وكم في أمره عَجَبٌ | في حالتيهِ وكم في آيِه عِبَر |
بينا هو البحرُ لا تُسطاع غضبتُه | إذا استشاطَ فلا يُبقي ولا يَذرَ |
إذا به واهنُ المَجرى يعارِضُه | عودٌ ويمنعه عن سيره حَجَر |
طَمَى فردَّ شبابَ الأرض قاحلةً | به وعادت إلى رَيعانها الغُدُر |
وأشرفت بقعةٌ أُخرى ألَّم بها | على الممات فأمسَت وهي تُحتَضر |
وودَّعَ الزارعون الزرعَ وانصرفوا | للماء ما زَرَعوا منه وما بَذَروا |
من كان بالامس يعلو وجهَهُ فرحٌ | بما يُرجِّيه غطَّ وجهَه كَدَر |
وقطَّبت بعد تهليل أسرَّتُه | وبان فوق خُطاه الضعفُ والخَوَر |
صُبَّت عليها بلاياه ونقمتُه | أنا " القصورُ " فلا خوفٌ ولا حذَر |
طافت عليه حنايا الكوخ واقتُلِعَتْ | مضارِبُ البيت منه فهي تنتثر |
غط الهديرُ فغضَّت منه ثاغيةٌ | ورددت ثغيّها من خلفِها أُخر |
واستحكمت ضجةٌ من كل ناحية | جاءت إليها بموتٍ عاجلٍ نُذُر |
ورُبَّ طالبةٍ بالماء راضَعَها | ورب عاريةٍ بالماء تأتزر |
وصفحةٍ من بديع الشعر منظرهُ | طامي العُباب مُطِلاً فوقَه القَمَر |
وقد بدت خضرةُ الأشجار لامعةً | مغمورةً بسناه فهي تزدهِر |
ومن على ضَفَّتيه انصاعَ منغمرا | في الماء نصفٌ فوقَه الشَجر |
باتت على خَطَرٍ ناسٌ بثورته | وراح يؤنُسنا في المنظر الخَطَر |
وهكذا الناسُ يُغريهم تخيُّلُهم | حتى يَجيئوا الى البَلْوى فيختبروا |
كما أتى الحربَ فنانٌ ليرسُمَها | في حينَ آخرُ يُصلى جسمَه الشرَر |
روحٌ جرت لم يُردْ نَفعا بها بدنٌ | وعسجدٌ سال إلا أنه هَدَر |
هذا المشيِّدُ للعُمران ريِّقَه | في الرافدين به العُمرانُ يندثر |
كان العراقُ سواداً من مزارعه | على بنيهِ يفيءُ الظلُ والثَمَر |
تَفيض خيرا على الأقطار غلَّتُه | موفورةً لسنين الجوع تُدَّخر |
ووزّع الماءَ عدلاً في مسايله | فكلُّ ناحيةٍ يجري بها نَهَر |
باسم " الفرات " وتنظيمٍ له خُلقتْ | دوائرٌ لم يَبِنْ من سعيها أثَر |
أغفَت طويلاً ولما هاجَ هائجُه | جاءته بعد فواتِ الوقتِ تبتدِر |
وهاهو الماءُ موتٌ في زيادته | وفي النقيصةِ مسروقٌ فمُحتَكَر |