احمد شوقي ..
مدة
قراءة القصيدة :
6 دقائق
.
طوى الموتُ ربَّ القوافي الغُرَرْ | وأصبحَ " شوقي " رهينَ الحُفَرْ |
وأُلقِيَ ذاكَ التُّراثُ العظيمُ | لِثقلِ التّراب وضغطِ الحَجر |
وجئنا نُعزّي به الحاضرين | كأنْ لم يكنْ أمسِ فيمن حضر |
ولم يُنتجِ السُوَرَ الخالداتِ | من المُلحقاتِ بأمِّ السُّوَر |
من اللاَّءِ يهتزُّ منها النديُّ | ويُطربُ إيقاعُهُنَّ السَّمر |
برغمِ الشُعورِ يشُلُّ البِلى | لسانَكَ أو يعتريكَ الكدَر |
وأن يقطعَ الموتُ ذاك النشيدَ | وأن يأكلَ الدودُ ذاكَ الوتَر |
وأنَّا نعودُ بنفضِ الأكفِّ | عنكَ وأنتَ العظيمُ الخَطَر |
فيا لكِ من عِبرةٍ يُستفزُّ | منها على كثرةٍ في العِبَر ..! |
زمانٌ وفيٌّ بميعادهِ | فظُلماً يقالُ ليالٍ غُدُر |
كما يُقْرعُ " الجَرْسُ " للناشئينَ | تأتي إلى الناس منه النُّذُر |
ولكن يُريدُ الفتى أنْ يدوم | ولو دامَ سادَ عليه الضجر |
ويأبى التنازعُ طولَ البقاء | وتأباهُ بُقْيا نفوسٍ أُخر |
وقد يُهلكُ الناسَ فردٌ يعيشُ | حيناً فكيف إذا ما استمر! |
فلّلهِ من شارعٍ لم يَعُقْهُ | حكمُ الضرورةِ أو ما ندَر |
سواءٌ صليبُ الصفا والزجاجِ | كسراً بكفِّ القضا والقدَر |
وبالدهرِ في الناسِ مثلُ الجُنون | فليس يُبالي بمنْ ذا عثر |
وحتمٌ على الخفرِ الآنسات | والوحش حشرجةُ المْحْتَضَر |
تجيءُ إلى الصدرِ تحتَ الحرير | كجيئتها الصدرَ تحتَ الوَبر |
وكلُّ الفوارقِ بينَ اللغاتِ | وبينَ الطباعِ وبينَ الأْسَر |
سيُوقِفها للردى زائرٌ | ثقيلُ الورودِ بغيضُ الصَّدر |
فيا صُفرةَ الموتِ إنَّ الوجوهَ | تَساوى بها صَلَفٌ أو خَفَر |
تحَيْرتُ في عِشةِ الشاعرين | أتَحْلو خُلاصتُها أم تَمَرّ |
فقد جارَ " شوقي " على نفسهِ | وقد يقتُلُ المرءَ جَورُ الفِكَر |
على أنَّه لم يعِشْ خالداً | خلودَ الجديدَينِ لو لم يَجُر |
تتبَّعْتُ آثارَ " شوقي " وقد | وقفتمْ على من يقصُّ الأثر |
لقد فاتَ بالسبقِ كلَّ الجيادِ | في الشعر هذا الجوادُ الأغرّ |
ترسَّلَ لم يَرْتَبِكْ خَطوُهُ | عناءً .. ولا نال منه البَهَر |
" شَكِسْبيرُ " أُمَّتِهِ لم يُصِبْهُ | بالعِيِّ داءٌ ولا بالحَصَر |
وإن أصدُقَنَّ " فشوفي " لهُ | عيونٌ من الشعرِ فيها حَوَر |
تعرَّضه من طلاءِ البيانِ | ومن زِبْرِج اللفظ دربٌ خطِر |
ولو خافَ مثلَ سِواه العُبُور | لخابَ وزلَّ .. ولكنْ عَبَر |
تمشَّى لمصطلحاتِ البديع | مُندسَّةً في البيانِ النَّخِر |
فأفرغها من قوافيهِ في | قوالبَ مرصوصةٍ كالزُّبُر |
فجاءَتْ كأنْ تنَلْها يدٌ | خلافَ يدِ الماهرِ المقتدِر |
يُذلِّلُ من شارداتِ القريضِ | ما لو سِواهُ ابتغاهُ لَفَر |
ويستنزلُ الشِعَر عذبَ الرُّواءِ | كصوبِ الغمامةِ إذْ ينحدِر |
يُمَيِّزهُ عن سِواه الذَّكاءُ | وطولُ الأناةِ ، وبُعدُ النظَّر |
وتبدو الرجولةُ في شِعره | منزَّهةً من صعىً أو صَعر |
وفي كِبَرِ النَّفْس مندوحةٌ | عن الكبرِ ، شأنُ الضعاف الكبر |
ولم يتخبَّثْ بهُجْر الكلام | ولم يتصيَّدْ بماءٍ عكر |
وديوانُ " شوقي " بما فيه من | صنوفِ البداعةِ روضٌ نضر |
فبيتٌ يكادُ من الارِتياحِ | واللطفِ من رِقَّةٍ يُعتْصَر |
وبيتُ يكادً من الاِندفاعِ | يقدحُ من جانبيهِ الشَّررَ |
وبيتٌ كأنَّ " رُفائيلَ " قد | كساهُ بكفَّيْهِ إحدى الصُوَر |
تُحِسُّ الطبيعةَ في طيَّةِ | تَكشَّفُ عن حُسنها المستتر |
كأنَّكَ تسمعُ وقعَ النَّدى | بتصويرهِ أو حفيفَ الشَّجر |
وبيتٌ ترى " مصرَ " أسيانةً | تُناغي به مجدَها المندثر |
ففي مصرعٍ يومُها المبتلى | وفي مرعٍ أمسُها المزدهر |
و"فرعونُ " إذ ينطوي مُلْكُهُ | و " فرعونُ " في القبرِ إذ يَنْتَشِر |
وديوانُ " شوقي " يُجِدُّ الشبابَ | لتأريخِ أُمتَّهِ المُختَصَر |
ولولا المغالاةُ قلتُ : انطوى | بمنعاهُ عُنوانُها المُفَتخَر |
فيا نجلَ مصرَ وفَتْ برَّةً | بذكراكَ " مصرُ " وأنتَ الأبَّر |
مئاتُ الصحائفِ مسودةٌ | مُجلَّلةٌ بمئاتِ الصُور |
ظهرتَ بها وجناحُ البيانِ | مهيضٌ ، وأسلوبُه مُحتقر |
بقايا من الكَلِمِ الباقياتِ | تناقَلَها نفرٌ عن نفر |
ولفظٌ هجينٌ ثوَتْ تحتهُ | معانٍ لِقلَّتها تًحتكر |
وحسبُكَ من حالةٍ رثَّةٍ | بفرطِ الجمودِ الجمودِ لها يعتذر..! |
فكنتَ وعِلَّتها كالطبيبِ | يُنْعش جسماً عراهُ الخَوَر |
تُعَلِّمُها أنَّ للعبقريِّ | حكْماُ مُطاعاً إذا ما أمر |
وأنَّ القوافي عِبِدَّى له | يُفَرِّقُ أشتاتَها أو يَذر |
يصوغُ المعاني كما يشتهي | ويلعبُ باللفظِ لعبَ الأكر |
" عُكاظُ " من الشعر تحتلّهُ | ويرعاهُ " حافظُ " حتى ازدهر |
تلوذُ الوفودً بساحَيْكمُا | وتأتيهِ من كلِّ فجٍّ زُمر |
تُبَجَّلُ فيه مزايا الشُعور | على حينَ في غيرهِ تًحتَقَر |
وتًنسى الضغائنُ في ساحةٍ | بها كلُّ مكرُمةٍ تُدَّكر |
وأنت كصمصامةٍ مُنتضىً | و " حافظُ " كالأبلقِ المشتَهَر |
تمشَّى بإثْركَ في شِعره | وماتَ .. وأعقبتَهُ بالأثر |
بقدْرِ اختلافِكما في النُبوغِ | كانَ اختلافُكما في العُمُر |
فلا تَبعُدا إن شأنَ الزمانِ | أنْ يُعقِبَ الصفوُ منه الكَدَر |
عزاءُ الكِنانة أنَّ القريضَ | تأمَّرَ دهراً بها ثمَّ فَر |
بنجمينِ كانت تباهي السما | وما في السما من نجومٍ كُثُر |
بشوقي وحافظَ كانت متى | تُنازلْ بمعركةٍ تَنتصِر |
فها هي قد عَريتْ منهما | وها هي من وحشةٍ تَقْشَعِر |
فلا تحسبنْ أنَّ طولَ البكا | يذودُ الأسى او نِثارَ الزَهر |
خسرناكَ كنزاً إلى مثلِهِ | إذا أحْوَجَتْ أزمةٌ يفتقر |
وما كنتَ من زمنٍ واحدٍ | ولكنْ نِتاجَ قُرونٍ عُقُر |
مضى بالعروبةِ دهرٌ ولمْ | يَلُحْ ألمعيٌّ ومرت عُصُر |
وإن النُبوغَ على ما يُحيطُ | بعيشِ النوابغِ أمرٌ عَسِر |
يثيرُ اهتماماً أديبٌ يجد | كما قيلَ نجمٌ جديدٌ ظهر |
قرونٌ مضتْ لم يسُدِّ العراقُ | مِن المتنبي مكاناً شَغَر |
ولم تتبدلْ سماءُ البلادِ | ولا حالَ منها الثَّرى والنَّهر |
ولم يتغيرْ عَروضُ الخليل | ولا العُربُ قد بُدلّوا بالتَتر |
ولكِنَّما تُنْتُجُ النابهينَ | من الشاعرينِ دواعٍ أُخَر |
فنْ فُقدَتْ لم يشعَ الأريبُ | الا ليخبو كلمحِ البَصَر |