التواضع والحياء .. صفتان أصيلتان عند النبي صلى الله عليه وسلم
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
التواضع والحياءصفتان أصيلتان عند النبي محمد صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد:
فلقد كان رسولُ الله محمد - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ الناس تواضعًا وحياءً، فمن تواضعه - صلى الله عليه وسلم - أن الجارية كانت تأخذ بيده - بأبي هو وأمي - فتطوف به طرقات المدينة المنورة وتذهب به حيثما شاءت، يقول الصحابي الكريم أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "إنْ كانت الأَمَةُ من [إماء] أهل المدينة لتأخذُ بيدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما ينزع يدَه من يدها حتى تذهَب به حيث شاءت من المدينة في حاجتها"[1].
قال ابن حجر في فتح الباري: "والمقصود من الأخذ باليد لازِمُه، وهو الرِّفق والانقياد، وقد اشتمل - أي الحديث - على أنواع من المبالغة في التواضع؛ لذكرِه المرأة دون الرجل، والأَمَة دون الحرَّة، وحيث عمَّم بلفظ الإماء، أي أمة كانت، وبقوله: حيث شاءت؛ أي: من الأمكنة، والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف، حتى لو كانت حاجتُها خارج المدينة، والتمست منه مساعدتها في تلك الحاجة لساعد على ذلك، وهذا دالٌّ على مزيدِ تواضعه، وبراءته من جميع أنواع الكِبْرِ صلى الله عليه وسلم"[2]، وأحيانًا يزوره ضيوف في بيته، ويطيلون المكوث عنده، فيستحيي أن يطلُبَ منهم المغادرة، على الرغم من كثرة انشغالاته والتزاماته، وفي هذا قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الأحزاب: 53].
وكان - صلوات ربي وسلامه عليه - يرفض أن يقومَ له أصحابه - رضي الله عنهم - تعظيمًا، على الرغم من حبهم العظيم له، ناهيك عن رِفعة مقامه عند أهل الأرض وأهل السماء؛ فعن أنس - رضي الله عنه - قال: "لم يكن شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لِما يعلمون من كراهيته لذلك"[3].
وقد سمِع عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - عمر على المنبر يقول: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تُطروني[4] كما أطرت النصارى ابنَ مريم، فإنما أنا عبدُه، فقولوا: عبدُ الله ورسولُه))[5]، وما ذلك إلا من تواضعه - صلى الله عليه وسلم - لأنه يعلم أنه من أحقِّ الناس بالمدح والثناء؛ لأنه سيد ولد آدم كما هو معلوم، لكن المدح لا يكون بالمبالغة، كما فعلت النصارى؛ إذ بالَغُوا في مدح المسيح عيسى - عليه الصلاة والسلام - فأخرجوه عن كونه عبدًا بشرًا رسولًا.
ومن تواضعه - صلى الله عليه وسلم - ما جاء عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلًا قال: يا محمد، يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس، عليكم بتقواكم، ولا يستهويَنَّكم الشيطان، أنا محمدُ بن عبدالله، عبدُ الله ورسوله، واللهِ ما أحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني اللهُ عز وجل))[6].
وفي رواية عبدالله بن الشِّخِّير - رضي الله عنه - أنه وفَد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في رهطٍ من بني عامر، قال: فأتيناه فسلَّمْنا عليه، فقُلْنا: أنت وليُّنا، وأنت سيِّدنا، وأنت أطولُ علينا طَولًا، وأنت أفضلنا علينا فضلًا، وأنت الجَفنة الغراء، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((قولوا قولكم))؛ الحديث[7].
وكان - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُ أصحابَه التواضع فيقول - صلى الله عليه وسلم - لهم: ((من أحبَّ أن يَمْثُلَ له الرجال قيامًا، فليتبوَّأْ مقعدَه من النار))[8].
ومِن تواضعه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان هو الذي يتفقَّد أصحابه بنفسه، على الرغم من أنه إمامُهم وقائدهم وكبيرهم؛ سياسيًّا واجتماعيًّا وشرعيًّا، فيعود مريضَهم، ويدعو لِمُسيئِهم، ويُعلِّم جاهلهم، ويساعد محتاجَهم، ويُجيبُ دعواتهم إذا دعَوه.
ومن الحوادث المهمة التي لا بد من ذكرها هنا أن نبيَّ الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كان له غلام يهودي يخدمه، فمرض الغلام، فأتاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعُوده، فقعَد عند رأسه، فقال له: ((أَسْلِمْ))، فنظر الغلام إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطِعْ أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - فأسلَم الغلام، فخرج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه من النار))[9].
وكان - صلوات ربي وسلامه عليه - يعمل في بيته، فيقطع اللَّحم مع سيدتنا عائشة بنت الصِّديق، رضي الله عنها وعن أبيها، ويخصِفُ نعلَه بيده، ويَخيط ثوبه، ويحلُبُ شاته، ويرفع دَلْوَه، على الرغم من أنه لو رغب في أن يقوم غيرُه بهذه الأعمال، لوجد مئات الرجال يتمنَّوْنَ أن يخدُموه في هذه الأمور وغيرها، ولكنه يتواضع - صلى الله عليه وسلم - ليربِّي الأمَّةَ على ذلك، ولم يُسمِع خادمَه كلمةً تؤذيه أبدًا.
وكان رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - يجيب دعوة الحر والعبد على السواء؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن جدَّتَه مُلَيكَة دعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعته له، فأكل منه، ثم قال: ((قوموا فلأصلِّ لكم)).
قال أنس - رضي الله عنه -: فقُمت إلى حصيرٍ لنا قد اسودَّ من طول ما لُبِس، فنضحته بماء، فقام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وصفَفْتُ واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، ثم انصرف[10].
وأما جلوسه - صلى الله عليه وسلم - فكان القرفصاء؛ فعن قيلة بنت مخرمة - رضي الله عنها - أنها رأت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو قاعد القرفصاء، قالت: "فلما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - المُتَخَشِّعَ في الجلسة أُرْعِدْتُ مِنَ الفَرَق"[11]؛ أي: ارتجفت من الخوف والفزع لِمَا رأت من الخشوع والتواضع.
وإذا أكل أو شرب، فإنه يجلس على الأرض تواضعًا؛ فعن عبدالله بن بُسْرٍ - رضي الله عنه - قال: "كان للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قصعة يقال لها: الغرَّاء، يحملها أربعة رجال، فلما أضحَوا وسجدوا الضحى أُتي بتلك القصعة - يعني وقد ثُرِد فيها - فالتفُّوا عليها، فلما كثروا جثا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أعرابي: ما هذه الجِلسة؟ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله جعلني عبدًا كريمًا، ولم يجعلني جبارًا عنيدًا))، ثم قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كُلوا من حواليها، ودعوا ذروتَها، يُبارَكْ فيها))[12].
بل من عجيب تواضعه - صلى الله عليه وسلم - أن الغريب يدخل إلى مسجده - صلى الله عليه وسلم - وهو بين أصحابه - رضي الله عنهم - وقد يُخيل له أنه ملِكٌ بين حشمه - فلا يميِّزه عنهم من مظهره؛ كما قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "بينما نحن جلوسٌ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد دخَل رجل على جمل، فأناخه في المسجد، ثم عقَله، ثم قال لهم: أيُّكم محمد؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - متكئٌ بين ظَهْرانَيْهم، فقُلنا: هذا الرجلُ الأبيض المتَّكئُ"؛ الحديث[13].
يا لها من أخلاقٍ حري أن يُحَبَّ حاملُها، تواضعٌ مع مَقام رفيع، وتنازلٌ مع مُلك منيع، تواضع لم يقتصِـْر على البعض، بل كان مع الجميع.
وأما حياؤه - صلى الله عليه وسلم - فأمثلته كثيرة جدًّا، ومنها أنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يثبت نظره بوجه أحد حياءً، كان نظره إلى الأرض أطولَ من نظره إلى السماء.
فمن حيائه - صلى الله عليه وسلم - الذي كسا الحكمة في الدعوة، أنه كان لا يُسمِّي رجلًا بلغ عنه أنه فعل شيئًا منكَرًا، بل يلمِّحُ لهم تلميحًا، فإذا بلَغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: ((ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا؟))[14].
أما حياؤه - صلى الله عليه وسلم - من الله - سبحانه وتعالى - ففاق كل حياء، فحين عُرج به - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء، فرض الله - سبحانه وتعالى - عليه الصلوات الخمس التي نصليها نحن اليوم، وفي بدايتها فُرضَت خمسين صلاةً، فصار نبي الله موسى - عليه السلام - يقول لنبي الله محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يراجع ربه - سبحانه وتعالى - في عدد الصلوات من أجل أن يقللها؛ لأن أمته لا تطيق ذلك، فخفَّف ربنا - تبارك وتعالى - الصلوات تدريجيًّا حتى صارت خمس صلوات بأجر خمسين صلاة.
يقول رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((فرجعت إلى موسى، فقال: بمَ أُمِرْتَ؟ قلت: أمرتُ بخمسِ صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جرَّبْتُ الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال - صلى الله عليه وسلم -: سألت ربي حتى استحيَيْتُ، ولكني أرضى وأسلم))[15]، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ حياءً من العذراءِ في خِدْرِها"[16].
[1] حديث حسنٌ لغيره: أخرجه ابن ماجه في سننه (4177)، وعلقه البخاري في صحيحه (6072) والزيادة منه.
[2] انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري (10/602).
[3] أخرجه الترمذي في سننه (2754).
[4] الإطراء: المبالغة في المدح والثناء.
[5] أخرجه البخاري في صحيحه (3445، 6830).
[6] أخرجه أحمد في مسنده (20/23/12551، 21/166/13529).
[7] أخرجه أحمد في مسنده (26/237/16311).
[8] أخرجه أبو داود في سننه (5229)، والترمذي (2755) من حديث معاوية - رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في صحيحه (1356، 5657) من حديث أنس - رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في صحيحه (380، 860)، ومسلم في صحيحه عند كتاب الصلاة (266).
[11] حديث حسن لغيره: أخرجه أبو داود في سننه (4847).
[12] أخرجه أبو داود في سننه (3773)، وأخرج ابن ماجه في سننه (3263) جزأَه الأول.
[13] أخرجه البخاري في صحيحه (63).
[14] أخرجه أبو داود في سننه (4788) من حديث عائشة - رضي الله عنها.
[15] أخرجه البخاري في صحيحه (3887) من حديث مالك بن صعصعة - رضي الله عنه.
[16] أخرجه البخاري في صحيحه (3562، 6102، 6119)، ومسلم في صحيحه عند كتاب الفضائل (67).