أرشيف المقالات

قول الزهري: وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
سلسلة الرد المفصل على الطاعنين في أحاديث صحيح البخاري (19)
قول الزهري: (وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ)
 
من الشبه التي يحاول الطاعنون أن يصطادوا بها في الماء العكر: كلامهم حول ما ورد في صحيح البخاري من أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حاول الانتحار، ويعنون بذلك ما ذكره البخاري عن الزهري في بَاب أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، قال الزهري: ((..
وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم - فِيمَا بَلَغَنَا - حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ وَتَقِرُّ نَفْسُهُ فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ)
)
.
 
والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
أولاً: هذا من كلام الإمام الزهري فيما بلغه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فلو افترضنا أنَّ هذا الكلام باطل ولا يمكن أن يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فحسب البخاري أنه نقل ما صح عنده عن الزهري وهو إمام من أئمة التابعين رحمه الله.
 
ومعلوم عند المتخصصين في الحديث أنَّ الإمام البخاري عندما يروي الحديث الطويل قد يكون في ذلك الحديث لفظة أو جملة قالها بعض الرواة كتفسير أو رواية مرسلة يذكرها الراوي حين يروي ذلك الحديث الطويل، فالبخاري يذكر الحديث بطوله بكل ما ورد فيه، ولا يحذف منه تلك اللفظة أو الجملة التي قالها بعض الرواة، وأهل الحديث يميزون الحديث المتصل من غيره.
 
ومثال ذلك هذا الحديث الذي رواه البخاري في بدء الوحي، فقد قال الزهري أثناء روايته للحديث الطويل الذي رواه عن عروة بن الزبير بن العوام عن أم المؤمنين عائشة: (وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا، حزناً غدَا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال).
 
فقول الزهري: فيما بلغنا يبين أنَّ هذه الجملة ليست مما رواه عن عروة عن عائشة، بل رواها عن أناس لم يسمهم، فهي رواية غير متصلة، وليست على شرط البخاري في الصحة، وإنما ذكرها البخاري لكونها متصلة في نفس الحديث الطويل.
 
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري (12/ 359): "القائل: فيما بلغنا هو الزهري، ومعنى الكلام: أن في جملة ما وصل إلينا من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة، وهو من بلاغات الزهري، وليس موصولا".
 
وقد روى هذا الحديث أحمد في مسنده (25959) كما رواه البخاري، وقال محققو مسند أحمد: "قوله: حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنا، غدا منه مرارا، كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال ...
إلخ، إنما هو من بلاغات الزهري، ومعلوم عند أهل العلم أن بلاغات الزهري واهية ليست بشيء".
مسند أحمد تحقيق شعيب الأرناؤوط وعادل مرشد وآخرون (43/ 114).
 
ثانياً: لو صح هذا الحديث فلا غبار عليه، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يتردى من شواهق الجبال بسبب ما جاءه من النبأ العظيم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، وقد ذكر الله سبحانه في كتابه الكريم خوف بعض الأنبياء فيما هو أقل من هذا الأمر، فقال عن موسى عليه السلام: ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ﴾ [طه:67]، وقال عنه لما رأى العصا تتحول إلى حية: ﴿ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [النمل:10]، وقال عن إبراهيم عليه السلام: ﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ ﴾ [هود:70]، وقال عن يعقوب أنه قال: ﴿ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ ﴾ [يوسف:13].
 
فلو صح الحديث فلا يُنكر وقوع هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أول نبوته، وقد ثبت أنه نزل من غار حراء مسرعاً إلى أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ليقص عليها قصته، وقال: ((زملوني زملوني..
دثروني دثروني)
)
، وذهب معها إلى ورقة بن نوفل ليخبره بحديثه ويسأله عن حاله.
 
ثالثاً: قال الإسماعيلي فيما نقله عنه ابن حجر في شرح هذا الحديث: "وَأَمَّا إِرَادَته إِلْقَاء نَفْسه مِنْ رُءُوس الْجِبَال بَعْدَمَا نُبِّئَ فَلِضَعْفِ قُوَّته عَنْ تَحَمُّل مَا حَمَلَهُ مِنْ أَعْبَاء النُّبُوَّة، وَخَوْفًا مِمَّا يَحْصُل لَهُ مِنْ الْقِيَام بِهَا مِنْ مُبَايَنَة الْخَلْق جَمِيعًا، كَمَا يَطْلُب الرَّجُل الرَّاحَة مِنْ غَمٍّ يَنَالهُ فِي الْعَاجِل بِمَا يَكُون فِيهِ زَوَاله عَنْهُ وَلَوْ أَفْضَى إِلَى إِهْلَاك نَفْسه عَاجِلًا، حَتَّى إِذَا تَفَكَّرَ فِيمَا فِيهِ صَبْرُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْعُقْبَى الْمَحْمُودَةِ صَبَرَ وَاسْتَقَرَّتْ نَفْسه.
قُلْت: أَمَّا الْإِرَادَة الْمَذْكُورَة فِي الزِّيَادَة الْأُولَى فَفِي صَرِيح الْخَبَر أَنَّهَا كَانَتْ حُزْنًا عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ الْأَمْر الَّذِي بَشَّرَهُ بِهِ وَرَقَة، وَأَمَّا الْإِرَادَة الثَّانِيَة بَعْد أَنْ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيل وَقَالَ لَهُ: إِنَّك رَسُول اللَّه حَقًّا فَيَحْتَمِل مَا قَالَهُ، وَاَلَّذِي يَظْهَر لِي أَنَّهُ بِمَعْنَى الَّذِي قَبْله، وَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ فَوَقَعَ قَبْل ذَلِكَ فِي اِبْتِدَاء مَجِيء جِبْرِيل، وَيُمْكِن أَنْ يُؤْخَذ مِمَّا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيق النُّعْمَان بْن رَاشِد عَنْ اِبْن شِهَاب فَذَكَرَ نَحْو حَدِيث الْبَاب وَفِيهِ " فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّد أَنْتَ رَسُول اللَّه حَقًّا، قَالَ: فَلَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَطْرَحَ نَفْسِي مِنْ حَالِق جَبَل" أَيْ مِنْ عُلُوِّهِ".
فتح الباري لابن حجر (12/ 360، 361).
 
هذا كلام أهل العلم في شرح هذا الحديث وتوجيهه، ولو أن الطاعنين في السنة النبوية سألوا أهل العلم المتخصصين كما أمر الله في كتابه الكريم لكان خيرا لهم وأهدى سبيلا ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 76].

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣