في الأدب المقارن
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
الطبيعة
في الأدبين العربي والإنجليزي
للأستاذ فخري أبو السعود
الطبيعة إلف الشاعر الحميم، وتوأم روحه، ومرتع فكره ومتاع بصره، ومهبط وحيه، ومعاهد متاعه وذكرياته، إلى ظلالها يسكن، وبين محاسنها يهيم، وعندها ينفض أوشاب العيش ويطرح أعباءه، ويستريح فكره الذي أنضاه التعب، ونفسه التي أضجرتها معاشرة الناس، وتتهادى إليه عذارى الشعر طائعة، وتسلس إليه شوارد الأفكار مقادها، ويظل يلتفت إلى ماضي أوقاته بين مباهجها بحنين عذب، ويأمل معاودتها بقلب شيق؛ فلا غرو يكون للطبيعة في نفس الشاعر المطبوع مكان أثير، وفي أدب الأمة الراقية منزلة رفيعة.
وقد نالت الطبيعة لدى أدباء الإنجليزية في أغلب عصورها هذه المكانة التي هي بها جديرة: فعكفوا جيلاً بعد جيل وأديباً إثر أديب على وصف مظاهرها وعبادة مفاتنها، وملئوا جانباً كبيراً من نظمهم ونثرهم بأوصاف الوديان اليانعة، والربى الحالية والأمواه الجارية، والأطيار الصادحة والأفلاك الدائبة والغيوث الساجمة، ووصفوا الطبيعة في حالي رضاها وغضبها، وابترادها ودفئها، واكتسائها وعريها.
وتوسلوا للتعبير عن فرط هيامهم بمحاسنها المتجددة بشتى الوسائل: فبثوا أوصافها في رواياتهم الشعرية وقصصهم النثرية، كما فعل شكسبير وهاردي، وطاروا على أجنحة الخيال إلى الوديان السحرية، والغابات المجهولة، والشواطئ النائية، يرصعون كل أولئك ببدائع الأوصاف ونقثات العواطف، وعبادة الجمال الطبيعي، متخذين مسرحاً لكل ذلك خرافات الأقدمين كما كان يفعل سبنسر وكولردج وتنيسون وبروننج، أو جنات الفردوس كما فعل ملتون.
ومن أولئك الشعراء من يدينون بخلودهم لأوصافهم الطبيعية الرائعة، وقلما يهتم أحد اليوم لما نظموه في النسيب أو الاجتماع أو السياسة، مثل تنيسون، بل منهم من لم يكد يؤثر عنه قول في غير الطبيعة، أو تخلو قصيدة له من أثرٍ لها، مثل وردزورث. ولا غرو فالطبيعة مادة الشعر وصميمه، ولربما عَرَضَ في القصيدة قد نُظمَتْ في أي غرض كان بيتٌ أو بيتان يحويان وصفاً طبيعياً بديعاً، فإذا هما يرفعان من قدرها ويحببانها إلى النفوس ويكونان سبب اشتهارها وسيرورتها. ولا ندحة عن القول بأن الطبيعة لم تنل هذه الرعاية ولم تحتل هذه المكانة في الأدب العربي، ففي العربية لا ريب أوصاف طبيعية بالغة غاية الجودة، ولكنها قليلة إذا قيست بنظائرها في الإنجليزية، قليلة إذا قيست بما نظم أو نثر في العربية ذاتها في غير الطبيعة من أغراض، فليس ما قيل في وصف جمال الطبيعة ببالغ عشر معشار ما قيل في التشبيب بالجمال الإنساني، ولم يُعرف من شعراء العربية من قَصرَ شعره على التغني بمباهج الطبيعة، وإن منهم لَمنْ قَصرَ قوله على النسيب بهند وليلى وأترابهما. وقلما جاءت أوصاف محاسن الطبيعة مقصودة لذاتها مستقلة بنفسها في قصيدة أو رسالة، بل كان ذكرها غالباً يأتي عرضاً كأنها غير جديرة وحدها بالتفات الشاعر وتكلُّفه عناء النظم، وكانت تستعار مظاهرها وأحوالها لبيان أغراض أخرى عن طريق التشبيه تُرصَّعُ القصيدة بفنونه، وجاء أصحاب المجموعات الشعرية الذين اختاروا صفوة أشعار العرب في أقوى عصور الأدب، كأبي تمام والمفضل الضبي، فما أفردوا للطبيعة باباً من أبواب مختاراتهم، وإنها لأجدر بالصدر. وكان فحول الشعراء ينصرفون عن وصف محاسن الطبيعة التي تكتنفهم، ومفاتن الجنات الزاهية التي كانت مهاد الدولة الإسلامية، بمروجها وأنهارها وجبالها وأجوائها، إلى وصف قصور الأمراء وحدائقها ونافوراتها وبركها الصناعية، فالبحتري يعرض ببصره عن جبال لبنان الفاتنة متجهاً إلى مقاصير ابن خاقان: تلفتُّ من عليا دمشق ودوننا ...
للبنان هضب كالغمام المعلق إلى الحيرة البيضاء فالكرخ بعدما ...
ذممت مقامي بين بصرى وجلق رباع من الفتح بن خاقان لم تزل ...
غنى لعديم أو فكاكا لمرهق ولابن المعتز وابن حمديس وابن خفاجة شهرة بوصف الطبيعة، ولكن كثيراً من أشعارهم يتسم بالفتور ويصطبغ بالصنعة وترين عليه مسحة التكلف والتظرف، وتنقصه حرارة الهيام بالطبيعة والامتزاج بروحها والنفاذ إلى خفي معانيها وأسرارها، وتجري في أشعارهم تشبيهات تكررت حتى مُلَّت: فالأصيل ذهب والحصباء در والنسيم ينسج من الماء درعاً، ويُفسد الكثير من تلك الأشعار الحرصُ على حسن التعليل كقول ابن حمديس في نهر: جريح بأطراف الحصى كلما جرى ...
عليها شكا أوجاعه بخريره فشتان بين خرير النهر الحي المتدفع وبين الجراح والشكوى والأوجاع، وأمثال هذا القول تدل على شعور زائف وملاحظة سطحية. وبعض أولئك الشعراء إذا استهزتهم فتنة الطبيعة وصفاء الأوان، نظموا في ذاك أبياتاً شفعوها للتو بدعوة لصديق أو عشيق أو نديم يناشدونه أن يتحفهم برفقته ويعجل لهم بالراح والأوتار، فالبحتري بعد أن تأنق في وصف الربيع قال: فما يحبس الراح التي أنت خلها؟ ...
وما يمنع الأوتار أن تترنما؟ وغيره يقول: ولما حللنا منزلاً طله الندى ...
أنيقاً وبستاناً من النور حاليا أجد لنا طيب المقام وحسنه ...
مني فتمنينا فكنت الأمانيا ولا يدل هذا على كبير شغف بالطبيعة أو حسن فهم لجمالها، وليس بمشغوف بالطبيعة ولا فاهم لأسرارها من لا تكفيه مفاتنها السافرة حتى يستعين لإكمال سروره بالسَّمَر والغزل والغناء والسكر، وإن أحب ما تكون الطبيعة إلى عاشقها الصادق لحينَ يصحبها وحيداً، فهو يرى مفاتنها خير رفقة له وخير مؤانس لمهجته. وقد حظي الربيع دون غيره من الفصول بالتفات شعراء العربية، كأن الربيع وحده هو فصل الجمال والصفاء والحبور، وبقية الفصول أوانٌ لكسب الرزق واحتمال قبح الحياة، كما قال الطائي: دنيا معاش للورى حتى إذا ...
جاء الربيع فإنما هي منظر ولو درى لعلم أن هذه الدنيا منظر لمن شاء أن يرى ويشعر في كل الفصول وفي جميع حالاتها ومظاهرها، وإن للشتاء لروائعه وجاذبيته كما للربيع، وإن جميع مجالي الطبيعة وأشكالها لمسارح للب الشاعر ومجالات لفنه وتصويره، وقد تغنى شعراء الإنجليزية بفتنة الخريف كما ترنموا بسحر الربيع، واستجاشهم غضب اليم وتجهُّم الأفق كما استهواهم صفاؤهما ووداعتهما. ومن شعراء العربية من يضيق باعهم في وصف الطبيعة قبل أن يقولوا في المنظر المجلو أمامهم أبياتاً، ويدركهم العجز والإحالة فيسبحون بقدرة البارئ ووحدانيته، كما قال النواسي: على قضب الزبرجد شاهدات ...
بأن الله ليس له شريك وقول أبي تمام: صبغُ الذي لولا بدائع لطفه ...
ما عاد أخضر بعد إذ هو أصفر فقدرة الخالق أمر لا شك فيه، والإشارة إليها في هذه المواقف سذاجة في القول والتواء في استرسال الفكر، وهرب من مواصلة التأمل والوصف، والموقف موقف استمتاع بالجمال وتصوير له، لا موقف وعظ وخشوع.
وأزن هذين البيتين بقول تنيسون في زهرة ضئيلة: (أيتها الزهرة النامية بين شقوق الجدار، ها قد انتزعتْك أناملي، وهاأنت كلك محمولة في كفي، بيد أني لو استطعت استكناه سرك لعرفتُ سر الله والإنسان جميعاً) فهذا شاعر يفكر ويتأمل ويتوق إلى المعرفة، وذانك شاعران يسلمان تسليم العجز، فلا أجادا التصوير ولا استرسلا في التفكير. فأغلب شعر الطبيعة في العربية - على قلته - تنقصه حرارة الشغف بها وطول مصاحبتها وممازجتها روحاً بروح، وإدمان التأمل في محاسنها ومحاولة النفاذ إلى معانيها، وصدق التعبير عن وحيها ودقة الوصف لمجاليها المتعددة، وظلَّ الالتفاتُ إليها دائماً ثانويا، والانتباه إليها عرضياً، والأُنس بها وقتيا وشيك الزوال. بل كان من فحول العربية من كأن بينهم وبين الطبيعة حجاباً كثيفاً، فندر أن أعاروها بالاً، ولم يقع ذكرها في شعرهم ونثرهم، إلا وقوع الغلط، كالمتنبي والشريف الرضي، برغم كثرة أسفار الأول بين العواصم والفلوات، وقد صرف الكُتَّاب صناعتهم إلى كثير من وجوه البيان، فلم يختصوا الطبيعة بكبير عناية، وتوخى بديع الزمان في مقاماته أن يضرب في كل ناحية من نواحي القول بسهم، ليبدي براعته للقارئين، إلا الطبيعة فأنها لم تفز منه بالتفات. فالعربية تكاد تقفز من الوصف الطبيعي السامي لذاته، لولا شاعر فرد هو ابن الرومي الذي تنطق أشعاره بحبٍّ للطبيعة عميق، وانجذاب لسحرها لا يدافع، ونظر في محاسنها وأغوارها نافذ، وقد أنشأ لوصف مختلف مظاهرها قصائد كثيرة، أودعها خير ما في العربية من وصف الجنان والفلوات، والأصائل والأسحار، والغيم والمطر، والطير والوحش، وشعره في كل هذا يضارع أسمى ما في الشعر الإنجليزي. وضآلة حظ الطبيعة في الأدب العربي راجعة إلى عوامل متتابعة توالت على الأدب في مختلف عصوره، فحالت دون أن يكون ترجمانا صادقاً مبيناً لشعور أصحابه في هذا الباب، وهي أولاً بداوة العرب في أول تاريخهم، وثانياً تكسب الشعراء بشعرهم في عهد الحضارة والدولة، وثالثاً شدة محافظتهم وتقليدهم للمتقدمين، وأخيراً تغلب الصنعة اللفظية في عهد تدهور الأدب. فوصف محاسن الطبيعة وآثارها في النفس وصفاً مسهباً محكماً مقصوداً لذاته عمل فني لا يتأتى إلا بأعمال الفكر ورياضة النظم، وهو مالا يتيسر في عهد البداوة، فضلاً عن أن المناظر الصحراوية واحدة متكررة صارمة لا تحفز إلى التصوير الشعري المسهب كما تحفز إلى التأمل في الخالق ورهبته وحكمه صنعه، وقد ظلت هذه النزعة الدينية التي بثتها البادية في نفوس العرب، وكانت التنشئة الدينية في العصور التالية تنميها فيهم منذ الصغر، مصاحبة لهم فيما بعد، تغْلبُهم على الاستمتاع بروائع الجمال الطبيعي وآيات الفن الإنساني، فنرى شاعرهم إذا وقف بمنظر فتان أو أثر خلَّفه القدماء فسرعان ما ينصرف عما ثمت من معاني الجمال أو القوة إلى التسليم بعظمة الخالق وضعف المخلوق وفناء الأفلاك وسقوط الجبابرة، وقد سبق التمثيل لشيء من ذلك، والبحتري يقول: أناة أيها الفلك المدار ...
أنهب ما تصرف أم جُبار؟ ستَفنى مثل ما تُفنى وتَبلى ...
كما تُبلى فيدرَك منك ثار ولما تحضر العرب وشاهدوا الأقطار الواسعة ونعموا في الجنات اليانعة، ودخل أدبهم في طور الثقافة والصناعة الفنية، ظهرت آثار الوصف الطبيعي في بعض أشعارهم، ولكنها كانت قليلة كما تقدم، وعمهت عيون أكثر الشعراء عن محاسن الطبيعة وأسرارها في غمار المدينة، حيث تكأكأوا متزاحمين على عطايا الأمراء، وزهدهم في وصف المناظر الطبيعية قلّة ما ورد منها في شعر المتقدمين الذين كانوا يترسمون خطاهم، حتى إذا كان عهد الاضمحلال الأدبي غلب التظرُّف واصطناع الرقة والنكتة اللفظية على الشعر ففقد كل روح وحرارة. أما الأدب الإنجليزي فلم يخنقه جو المدينة أو يرهقه تقليد القدماء إلا في عصر محدود ما لبث أن بددته النهضة الرومانسية التي كانت في جوهرها عودةً إلى الطبيعة أي إلى الشعر الصحيح وبين النقاد المحدثين من يأبى قبول ما نظمه أقطاب العهد الكلاسي في عداد الشعر الصحيح، وفيما عدا ذلك العهد كانت الطبيعة دائماً قبلة الشعراء شَغَفَهم بها حبّاً أمران: تعدُّدُ مجاليها وتتابع تقلباتها واختلاف صورها في بلادهم، ودراستهم للشعر الإغريقي الحافل بالصور الطبيعية، ويتجلى أثر هذا العامل الأخير في المقطوعة التي نظمها كيتس معبراً عن شديد حبوره وبالغ متعته عقب قراءة ترجمة الإلياذة. بيد أن اللغة العربية ذاتها حافلة بالأسماء والأوصاف لشتى مظاهر الطبيعة وآثارها، وحالاتها وأوقاتها، غنية بكل ما يحتاج إليه الأديب القدير لينقل على القرطاس أيّ المناظر الطبيعية شاء، نقل المصور الصناع، وهنا أيضاً يبدو لنا التفاوت بين مقدرة اللغة واستعدادها، وتقصير أدباء العربية في عهد ازدهار الحضارة دون كثير من غايات الأدب. فخري أبو السعود