أرشيف المقالات

صناعة الهلاك

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
صناعة الهلاك

في أزمنة الفِتَن، التي هي اختلاط الباطل بالحق، والهَوى بالهُدى، يشتدُّ على المؤمن واعظُه الديني من داخله، ولا يَفْتَأُ يراجِعُه في كلِّ قول أو فعل أو موقف؛ خشيةَ أن يكون أخطأَ منهج الله، الذي هو صراطه المستقيم، فيضِلَّ ويَشقى.
 
وأهل الحقِّ وقَّافون عند حدود الله، التي هي أحكامه، فكما لا تأخذُهم في كلمة الحقِّ والقيام بالحقِّ لومةُ لائم، فكذلك لا يَستهويهم الشيطانُ عن حُكْم الله فيَظلموا الخلْقَ - أيَّ خلْقٍ - مثقالَ ذرَّة، فيعْدِلون عن الحقِّ، ويتلَبَّسون بالبغْيِ والعُدوان، ولو بقلوبهم.
 
وإنما العِصمة في اقتفاء ما كان عليه أصحابُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -، ورَضِي الله عنهم - فإنهم حِصْن الأمة وحُماة الشريعة، ألم يَقُل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((النجومُ أَمَنةٌ للسماء، فإذا ذهبَت النجومُ أتى السماءَ ما تُوعَد، وأنا أمنَة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يُوعَدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعَدون))؛ أخرجه مسلم من حديث أبي بردة؟
 
ومِن هنا وجَب علينا أن نُنقِّب في تراثنا بحثًا عن كلِّ ما مِن شأنه أن نَفهم ونستلهِم بِه مناهجَ القومِ - رضي الله عنهم - فتتجلَّى طرقُنا نحو المنهجيَّة الربانيَّة العاصمة.
 
ومِن هذا ما رواه أبو غالب البصري - رحمه الله - قال: "كنتُ بالشام، فبعَثَ المهلِّبُ سِتِّين رأسًا مِن الخوارج، فنُصبوا على درجِ دِمشق، وكنتُ على ظهر بيت لي، إذْ مرَّ أبو أمامة، فنَزلتُ فاتَّبعتُه، فلما وقف عليهم دمِعتْ عيناه، وقال: "سبحان الله! ما يَصنع الشيطانُ ببني آدمَ" ثلاثًا "كلاب جهنم، كلاب جهنم، شرُّ قتْلَى تحتَ ظلِّ السماء" ثلاث مرات، "خيرُ قتْلى مَن قتلوه، طُوبى لمن قَتَلهم أو قتلوه".
 
ثم التفت إليَّ فقال: "يا أبا غالب، أعاذك الله منهم"، قلت: "رأيتُك بكيتَ حين رأيتَهم؟" قال: "بكيتُ رحمةً؛ رأيتُهم كانوا مِن أهل الإسلام، هل تَقرأ سورة آل عمران؟" قلتُ: "نعم"، فقرأ: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ حتى بلَغ: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 7]، "وإنَّ هؤلاء كان في قلوبهم زَيْغٌ، وزِيغَ بهم"، ثم قرأ: ﴿ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ﴾ [آل عمران: 105] إلى قوله: ﴿ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران: 107].
 
قلت: "هم هؤلاء يا أبا أمامة؟" قال: "نعم"، قلت: "مِن قِبَلك تقول، أو شيء سمعتَه مِن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -؟" قال: "إني إذًا لجريء! بل سمعته، لا مرَّةً ولا مرَّتين"، حتى عدَّ سبعًا.
 
ثم قال: "إن بني إسرائيل تفرَّقوا على إحدى وسبعين فرقةً، وإن هذه الأمة تزيد عليهم فرقةً، كلُّها في النار، إلا السَّواد الأعظم"، قلت: "يا أبا أمامة، ألا ترى ما يفعلون؟"، قال: "عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتم"؛ أخرجه البيهقي في "سننه الكبرى"، والطبراني في معجم الشاميين بلفظه، ورواه الترمذي وابن ماجه مختصرًا، وحسنه الألباني في "صحيح ابن ماجه".
 

رحمة المؤمن بالخلق:
فهذا أبو أمامة - رضي الله عنه - صاحب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَرى رؤوس الخوارج معلَّقةً، فيبكي، ولما سأله أبو غالب عن بكائه، قال له: بكيت رحمةً!
 
وهكذا تسَعُ رحمةُ المؤمن العاصِيَ والمبتدع والكافر، بلا مُداهنةٍ في دينه، أو هَوَادة في الحقِّ.
 
والظاهر أن أبا أمامة - رضي الله عنه - إنما بَكى لِهَلاك القوم مِن الخوارج على غير الحقِّ، لا لقتلهم فحَسْب؛ فإنَّ قتْل الخوارج أجْرٌ وقُربة، والمؤمن يَرحم العبادَ أكثرَ ما يرحم على تضيِيعهم أُخراهم؛ إذ الدنيا كلُّها إلى زَوال، والله - تعالى - يقول: ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15].
 
ورحمةُ العباد مجْلبة لرحمة الله للعبد؛ يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الراحمون يرحمهم الرحمن - تبارك وتعالى - ارحموا مَن في الأرض يرحمْكم مَن في السماء))؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمرو، وصححه الألباني في "صحيح الجامع".
 
وغياب الرحمة عن قلب العبد علامةٌ على الخيبة والخسران؛ ولهذا قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خاب عبدٌ وخسر، لم يَجعل اللهُ - تعالى - في قلبه رحمةً للبشر))؛ أخرجه ابن عساكر وغيره من حديث عمرو بن حبيب، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع".
 
ونحن في غمرة الخلاف والشقاق ربَّما لا تقوم في قلوبنا الرحمةُ الواجبة لإخواننا الذين نُخالِفهم ويخالفوننا، وهذا نوع من البغي الذي وقع في الأمم قبلنا؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [آل عمران: 19]، فتزداد الخلافات، وتستفحل الأهواء؛ من جراء أمراض قلوب لم تُلحَظْ ولم تُدَاوَ.
 
ومِن فِقْه أبي أمامة - رضي الله عنه - أنَّ قلْبَه اتَّسع ليجمع بين حُكمين شرعيِّينِ، ظاهرهما التعارض، وليس كذلك، فجَمع أبو أمامة بين كراهية المبتدع لبدعته، وبين رحمته لهلاكه على البدعة.
 
وكثيرٌ من الناس لا يطيق الجمْع بين تلك المعاني القلبية العظيمة؛ بل ولا يَتصوَّر وجودها أصلاً!
 

صناعة الهلاك:
يقول أبو أمامة: "مَا يَصنع الشيطان ببني آدم؟ ما يصنع الشيطان ببني آدم؟ ما يصنع الشيطان ببني آدم؟!"، هو استفهامُ مستنكِر أو متعجِّب أو متحسِّر، يُشْبه قول الله - تعالى -: ﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ﴾ [يس: 30].
 
فهؤلاء الخوارج كانوا مِن أهل الإسلام - كما يقول أبو أمامة - رضي الله عنه - ثم خرجوا منه، أو حادُوا وزاغوا عن جادَّته بمتشابِهات زيَّنَها لهم الشيطان، فاستحقُّوا القتل، وخسروا دنياهم وآخرتهم.
 
واليومَ نرى طوائفَ مِن الناس كانوا مسْلِمين، زيَّن لهم الشيطانُ أخبثَ الأفكار الإلحادية واللادينية والعلمانية، فراحوا يُحِلُّونها مكان الإسلام الربانيِّ الخالد! فنقول: سبحان الله! ما يصنع الشيطان ببني آدم؟
 
كما نرى جماهير أهل الإسلام قد ألِفُوا مخالفة دينهم، بعد أن كان أغلبُهم على الفطرة الموافِقة لشرع ربهم، فانغمسوا في ظلمات الشهوات والملذَّات، فخسروا دنياهم قبل دينهم، فنقول: سبحان الله! ما يفعل الشيطان ببني آدم؟
 
ونرى الشُّبهات التافِهَات، التي لم يكُنْ لِيَأبهَ لها أطفالُ المسلمين قديمًا، وكأنها صاعقاتٌ من البراهين الدَّاحضات تتزلزل بها القلوبُ، وتَحار لها العقول، وتزِلُّ فيها النفوس، فنقول: سبحان الله! ما يصنع الشيطان ببني آدم؟
 
وكذلك نرى صفوة الخلق من أهل الإسلام؛ الدُّعاةَ والعاملين لنصرة دينهم، وقد انشغل بعضهم ببعض عن الكفر والجهل والبِدَع والمعاصي، بمسوِّغات "متشابهات" غير بيِّنات! فنقول: سبحان الله! ما يصنع الشيطان ببني آدم؟
 
منْزلة الصحابة عند التابعين:
وفي الأثر كذلك ما كان عليه التابعون مِن تعظيم قدْر الصحابة - رضي الله عنهم - ومعرفة منْزلتهم في الدِّيانة، وذلك في تحرِّي معرفة أبي غالب - رحمه الله - لموقف أبي أمامة - رضي الله عنه - ونزوله واتِّباعه له؛ ليقف على حقيقة ما عند أبي أمامة من نص أو توجيه في هؤلاء الخوارج.
 
تعظيم القول في الدين عند الصحابة:
ويؤخذ هذا من قول أبي أمامة - رضي الله عنه - لمَّا سأله أبو غالب عن كلامه في الخوارج: مِن قِبَلك تقول أو شيء سمعتَه من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -؟ فقال له أبو أمامة: إنِّي إذًا لجريء! أيْ: لو قلتُه بلا دليل سمعي، فإني حينئذٍ جريء؛ أتكلَّم في عظائم الأمور، وأحْكُم على الناس بلا دليل بيِّن.
 
حال أهل البدع الباطني:
وفي الأثَر أنَّ في قلوب كثير من أهل البدع زَيغًا مالَ بهم عن سنة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وسُنَّة أصحابه - رضي الله عنهم - ومنهج جمهور القرون الأُولى المزَكَّاة من صاحب الشرع - صلَّى الله عليه وسلَّم.
 
كما قال الله - تعالى -: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7].
 
ولهذا قال أبو أمامة - رضي الله عنه - لأبي غالب: وإن هؤلاء كان في قلوبهم زيغ، وزيغ بهم.
 
فقلَّ أن يتنَكَّرَ أحد للنصوص المحكَمة البيِّنة جُملةً، إلا وفي قلبه زيغ منَعَه من قبول الحقِّ، لا سيما الذين أسَّسوا للبدع الكبيرة؛ مثل الخوارج، والجهمية، وغُلاة الاعتزال.
 
نعم، قد يَتلبس الرجلُ مِن أهل العلم ببدعة من بِدَع القوم؛ لجهله بالسنة فيها، أو لنصٍّ متشابهٍ عن اجتهاد أو تأويل، وهؤلاء يُعْذَرون يوم القيامة؛ لدخولهم في عموم قوله - تعالى -: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]، فكلُّ مريدٍ للحقِّ مِن هذه الأمة المرحومةِ، معذورٌ إذا أخطأه، أو أخطأ بعضه.
 
ونحن غير مأمورين بالتنقيب عما في قلوب الناس؛ وإنما فقط نستكشفُ أحوال الذين ضلَّ سعْيُهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا!
 
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢