أرشيف المقالات

في الأولياء والولاية الحقيقية (1)

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
في الأولياء والولاية الحقيقية (1)

قد وقر في ذهن عامة المسلمين معنًى غيرُ إسلامي للولاية والأولياء، وذلك كما هو معروف أنهم يعتقدون أن الولي في الأموات، هو من كان له قبر على هيئة القبور المعروفة، مشيَّدٌ أو ممددٌ ليس على هيئة قبر من قبور الأموات؛ وإنما على هيئة قصر من قصور الأمراء أقيم عليه أو بجانبه مسجد، وكلما كان المسجد فخمًا عاليًا عريضًا، كان قدرُ الولي أرفع، ومقامه أعلى في نظرهم، وكذلك كلما كانت له دعاية واسعة - حقة أو باطلة - في إحراز الكرامات، كانت له شهرة كبيرة ومركز ضخم في عالم الولاية عند هؤلاء الناس، لا يعنيهم بعد ذلك من هو ذلك الشخص، وما عمله، وما شهرته في التاريخ، أو ماذا قدم لأمَّته، ولدينه من أعمال! هذا لا يعنيهم في شيء؛ وإنما الذي يعنيهم ما يُحاك حوله من أكاذيب في شفاء المرضى، وإيلاد العقم، ورد الضائع، وإكثار الإنتاج...
إلخ.
 
فما هو إلا أن يسمعوا ذلك حتى يندفعوا نحوه بتقبيل الأعتاب والتمسح بها، والاستنجاد به على تحقيق الطلب، والتواعد معه على شيء إن حقق لهم ذلك الطلب، ونسوا اللهَ الذي خلقهم، ووعدهم بالرزق والمال والولد، وأبان لهم أنه هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير.
 
وإذا كان في الأحياء: فأول شيء يفعلونه أن يُدخِلوه أو يُدخِلَ نفسه في النسب الشريف، ثم ينتمي إلى إحدى الطرق الصوفية، ويصبح قطبَها، أو خليفةً لقطبها، يعلن عن نفسه في ذلك بتلك العمامة الخضراء، ويلبس من الملابس الخاصة ما يتفق ومبدأَ طريقته، ونسبوا له أو نسب إلى نفسه كل ما نسب إلى ذلك الولي الميت وزيادة، وفاز بتقبيل يدِه أو ملابسه والتمسح به، ونذور ذلك الولي الهالك الذي يتبع طريقتَه، وزيادة عليها مما يفرضه على الناس باسم (العادة)، وما يخرج به من مقادير لا تُقدَّر في إحياء مولد هذا الولي الميت أو ذاك، وهذه كل حياته وما يدور فيها، وما تستفيده البشرية منه أثناء تلك الحياة المحسوبة على الأرض وعلى الوطن وعلى الدولة وعلى الدِّين، فإذا مات انضم إلى قائمة الأولياء الأموات، واتُّخِذ صنمًا كما اتُّخِذ هؤلاء.
 
هذه فكرتنا عن الولاية التي هي أعلى درجة يقرب فيها العبد من ربه، والتي نظر إليها الله سبحانه وتعالى على أنها هي الحالة التي يكون الإنسان فيها مصدرَ نفع للدين والدنيا، ونموذجًا حيًّا للشخص المؤمن، والعبد الصالح، وإذا ذهبنا نبحث ونفهم معنى الولاية كما نطقت بها اللغة، وكما أرادها الشرع، تبين لنا أن عامة المسلمين بعيدٌ كلَّ البعد عن الدين في هذه العقيدة، وأنهم بذلك لا يمثِّلون الإسلام كما يجب، ولا يمثِّلون العقيدة السليمة الدافعة إلى العمل، وإلى الإنتاج وتعمير الكون والحياة.
 
فالولاية في اللغة: المحبة والقرب والنصرة، وإذا كان القرآن الكريم قد قصد بها بعضَ الناس، وأطلقها عليهم حالةَ إضافتهم إلى الله سبحانه وتعالى مثل قوله تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس: 62]، ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [البقرة: 257] - فإنما يريد هذا المعنى اللغوي، وهو محبة الله ونصرة دينه، والتقرب إليه، إلى جانب ما في تفسير هذه المعاني اللغوية من تكاليف شرعية، أو طاعات وقرب على مختلف أنواعها، وإذا جئنا نتبيَّن ما في تفسير هذه المعاني اللغوية من معانٍ شرعية ودينية، تبين لنا من هو الولي حقيقة، وما يجب أن يكون عليه، وكيف تكون نظرتنا إليه.
 
فلننظر إلى هذا التفسير في الآيتين المتقدمتين نفسيهما، فالآية الأولى قد فسرت أولياء الله بأنهم: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 63]، فجعلت الإيمان شرطًا أوليًّا في الولاية، ثم ثنَّت بالتقوى، وهي كلمة عامة تحتها ما تحتها من أنواع القربات والطاعات، والبعد عن المعاصي والمخالفات، ويفسِّرها ما جاء في الحديث القدسي: ((وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أَحَب إلى مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه)).
 
والآية الثانية قد فسرت الولاية هنا بما طابقته بين ولاية الله وولاية الشيطان في قوله تعالى في تكملتها: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾ [البقرة: 257].
 
فهؤلاء الذين والاهم الله سبحانه وتعالى، قد والاهم لأنهم قربوا منه، وأطاعوه، وأدوا فرائضه عليهم، وتقربوا إليه بالنوافل، وتركوا الكفار فلم يتبعوهم، ولم يركنوا إليهم، ولم يكونوا على شاكلتهم في أي صفة أو مشرب، وهكذا كل الآيات التي وردت في القرآن الكريم في جانب أولياء الله، أو في جانب أولياء الشيطان، إنما تعني: نصرةَ الله، وطاعتَه، والتقربَ إليه؛ في جانب المؤمنين، وتعني: نصرة الشيطان، وطاعته، والتقرب إليه؛ في جانب الكافرين.
 
وإذا كان القرآن الكريم قد عنى بأولياء الشيطان أو الطاغوت حين نزوله كفارَ قريش وكفارَ العرب، كما جاء ذلك في ست وثلاثين آية: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 27]، ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ﴾ [الأنعام: 121]، ﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 30]؛ فإنه قد عنى بأولياء الله أول ما عنى صحابةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل آية حملت هذا اللفظ، وهي أربع وخمسون آية في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، وتشير إلى مواقف مختلفة لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصرتهم له، وإيوائهم إياه، أو إيمانهم به: ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157]، وكما قال فيهم: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [التوبة: 100]؛ يقول الإمام الشوكاني: "وللصحابة رضي الله عنهم النصيب الوافر من طاعة الله سبحانه، ومن التقرب إليه بما يحبه ويرضاه؛ ولهذا صاروا خيرَ القرون كما ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من وجوه كثيرة، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تَسُبُّوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه))؛ فهم أفضل أولياء الله سبحانه وأكرمهم عليه، وأعلاهم منزلة عنده، وهم الذين عملوا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن جاء بعدهم ممن يقال له: إنه من الأولياء، لا يكون وليًّا لله إلا إذا اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واهتدى بهديه، واقتدى به في أقواله وأفعاله"، ويقول في موضع آخر: "اعلم أن الصحابة لا سيما أكابرهم الجامعين بين الجهاد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلم بما جاء به، وصحبته صلى الله عليه وسلم في السراء والضراء، وبذلهم أنفسهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله سبحانه حتى صاروا خير القرون - هم خيرة الخيرة؛ فتقرَّر بهذا أن الصحابة رضي الله عنهم خير العالم بأسره من أوله إلى آخره، لا يفضلهم أحد إلا الأنبياء والملائكة، فإذا لم يكونوا رأسَ الأولياء، وصفوةَ الأتقياء، فليس لله أولياء ولا أتقياء، ولا بررة ولا أصفياء".
 
فهؤلاء هم النماذج الحية للولاية وللأولياء، وهم المؤمنون الذين قال القرآن الكريم فيهم: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الحجرات: 15]، وهم الذين قال فيهم من الأنصار: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9]، وهم الذين تعففوا وأخذوا على أنفسهم ألا يأكلوا إلا من كدِّهم وجهدهم، ولا يجدون غضاضة في ذلك، فنرى أكبرهم مقامًا - وهو أبو بكر رضي الله عنه - يذهب إلى السوق بعد أن تولَّى الخلافة ومعه أثواب ليبيعَها، ويأكل من كسب يده، فيقابله عمر بن الخطاب فيردُّه ويقول له: "نفرض لك من بيت المال"، ونرى منهم من يبحث عن عمل فلا يجد إلا متح الماء من البئر بالدلو ليسقي بعض القطع الصغيرة من الأرض الزراعية لبعض الناس حتى تمجل يده، فيأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأجر الذي أخذه من هذا العمل، وهو فرح مسرور فيبارك له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الاتجاه، إلى آخر ما يسجله لهم التاريخ من مفاخر في ميادين العمل والإنتاج والجهاد في سبيل الله.
 
هؤلاء هم الأولياء الذين يقصدهم القرآن الكريم، ولا يمكن أن ينطبق هذا الاسم في الدين الإسلامي على أحد إلا إذا كان على هذه الشاكلة؛ فهذه هي ولاية الله، وهذا هو طريقها، وطريقها هو طريق النجاح والفلاح، والمجد والسؤدد.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢