أرشيف المقالات

الرد على الذين يكفرون الأشاعرة

مدة قراءة المادة : 19 دقائق .
الرد على الذين يُكفِّرون الأشاعرة
 
من الأقوال التي نُقِلت عن بعض أئمة السلف: تكفير من ينفي علو الله سبحانه، أو ينكر رؤية الله سبحانه يوم القيامة، أو يقول بخلق القرآن الكريم، وقد أخذ بعض طلاب العلم هذه الأقوال على إطلاقها، ولم يفرقوا بين التكفير المطلق وتكفير الأعيان، فكفَّروا كل من قال بهذه البدع، وإن كان عالمًا له قَدَم صِدْق في الإسلام، أو كان جاهلًا مقلدًا، ولم يعذروا أحدًا بالجهل أو التأويل!
 
قال ابن تيمية: "التحقيق في هذا: أنَّ القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية كما قال السلف: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إنَّ الله لا يُرى في الآخرة فهو كافر، ولا يُكَفَّر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة"؛ ا هـ مختصرًا من ((مجموع الفتاوى)) (7/ 619).
 
والحقيقة أنَّه لم يُجمِع السلف الصالح على تكفير كل من قال بهذه البدع الشنيعة، فلا بد من التفريق بين ما أجمع عليه السلف وما لم يجمعوا عليه، ومن قال من السلف بتكفير أهل تلك البدع فهو تكفير من غير تعيين، أو هو اجتهاد منهم، فهو قول لبعض أئمة السلف، وليس قولًا لجميعهم، فبعض السلف رأى تكفير أهل تلك البدع؛ لأن العلم في زمنهم كان منتشرًا، والبدعة كانت في أول أمرها، فرأى بعض السلف تكفير من خالف الجماعة؛ لقيام الحجة على المخالف المبتدع.
 
قال ابن تيمية في كتابه " بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية " (1/ 9، 10): "أكثر الطالبين للعلم والدين ليس لهم قصد من غير الحق المبين؛ لكن كثرت في هذا الباب الشُّبَه والمقالات، واستولت على القلوب أنواع الضلالات، حتى صار القول الذي لا يشك من أوتي العلم والإيمان أنه مخالف للقرآن والبرهان؛ بل لا يشك في أنه كفر بما جاء به الرسول من رب العالمين، قد جهله كثير من أعيان الفضلاء، فظنُّوا أنَّه من محض العلم والإيمان؛ بل لا يشكون في أنه مقتضى صريح العقل والعيان، ولا يظنون أنه مخالف لقواطع البرهان؛ ولهذا كنت أقول لأكابرهم: لو وافقتكم على ما تقولونه لكنتُ كافرًا؛ لعلمي بأنَّ هذا كفر مبين، وأنتم لا تَكفُرون؛ لأنكم من أهل الجهل بحقائق الدين؛ ولهذا كان السلف والأئمة يُكفِّرون الجهمية في الإطلاق والتعميم، وأما المعيَّن منهم فقد يدعون له، ويستغفرون له؛ لكونه غير عالم بالصراط المستقيم، وقد يكون العلم والإيمان ظاهرًا لقومٍ دون آخرين، وفي بعض الأمكنة والأزمنة دون بعض، بحسب ظهور دين المرسلين".
 
فيجب إنكار البدع الاعتقادية وغيرها بلا غلو ولا بغي، فمثلًا القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن صفات الله سبحانه أنه يتكلم متى شاء كما أخبر في كتابه، فقد كلَّم الله موسى تكليمًا، وسيكلم الناس يوم القيامة، فمَنْ أنكر صفة الكلام لله سبحانه فقد أخطأ خطأ كبيرًا، وأتى منكرًا عظيمًا، ولو لم يكن متأولًا لكان كافرًا؛ لتكذيبه بنصوص القرآن، فالتأويل مانعٌ من التكفير، قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (12/ 180): "ليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال يكون كافرا، بل ولا فاسقًا، بل ولا عاصيًا، لا سيما في مثل مسألة القرآن، وقد غلط فيها خلق من أئمة الطوائف المعروفين عند الناس بالعلم والدين، وغالبهم يقصد وجهًا من الحق فيتبعه، ويعزب عنه وجه آخر لا يحققه، فيبقى عارفًا ببعض الحق، جاهلًا ببعضه؛ بل منكرًا له".
 
ولا يجوز تكفير كل القائلين بنفي صفة العلو لله سبحانه، فمن موانع التكفير: الجهل والتأويل، فلنفاة العلو شبهات كثيرة، وتأويلات فاسدة، وأوهام يظنونها أدلة عقلية، فأخطأوا في تأويلهم وضلُّوا، وكثير منهم لم تقم عليهم الحجة؛ بل يظنون أنَّ قولهم هو عين الصواب؛ بل إنَّ بعض غلاتهم يُكفِّرون أو يُضَلِّلُون من يُثبت أنَّ الله سبحانه مستوٍ على عرشه كما يليق بجلاله!
 
فالغلو في التكفير موجود في جميع الطوائف، وقد نصح كثير من أهل العلم المنصفين بترك التوسُّع في التكفير، وبيَّنوا خطأ الغلو في تكفير المخالفين من المسلمين الموحِّدين، يُنظر مثلًا: " إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق"، لابن الوزير اليماني (ص: 385 - 406).
 
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتابه (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) (ص: 66): "ولا ينبغي أن يُظن أنَّ التكفير ونفيه ينبغي أن يُدرك قطعًا في كل مقام؛ بل التكفير حكم شرعي، يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدم، والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية، فتارة يُدرك بيقين، وتارة بظن غالب، وتارة يُتردد فيه، ومهما حصل تردد، فالوقف فيه عن التكفير أولى، والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل".
 
وقال الغزالي أيضًا في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) (ص: 135): "والذي ينبغي أن يميل المحصِّل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلًا، فإنَّ استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم".
 
وقال ابن تيمية رحمه الله كما في مجموع الفتاوى (3/ 353): "أهل البدع فيهم المنافق الزنديق، فهذا كافر، ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية، فإنَّ رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة، ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنًا وظاهرًا؛ لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة؛ فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقًا أو عاصيًا، وقد يكون مخطئًا متأولًا مغفورًا له خطؤه، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه".
 
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه (طريق الهجرتين) (ص: 412 - 414): "الله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يُعذِّب إلا مَن قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق، وأما كون زيد بعينه وعمرو بعينه قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه؛ بل الواجب على العبد أن يعتقد أنَّ كل مَن دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية مع ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم، وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة، وهو مبنيٌّ على أربعة أصول:
أحدها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15]، وقال تعالى: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165].
 
الأصل الثاني: أنَّ العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة، وعدم إرادة العلم بها وبموجبها، الثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها؛ فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.
 
الأصل الثالث: أنَّ قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر؛ إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له، فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئًا، ولا يتمكَّن من الفهم.
 
الأصل الرابع: أنَّ أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته، وهو الفعَّال لما يريد، وصدق الله وهو أصدق القائلين: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ﴾ [الأنبياء: 23]؛ لكمال حكمته وعلمه، ووضعه الأشياء مواضعها، وأنَّه ليس في أفعاله خلل ولا عبث ولا فساد، يُسأل عنه كما يُسأل المخلوق، وهو الفعَّال لما يريد؛ ولكن لا يريد أن يفعل إلا ما هو خير ومصلحة ورحمة وحكمة، فلا يفعل الشر ولا الفساد ولا الجور، ولا خلاف مقتضى حكمته؛ لكمال أسمائه وصفاته، وهو الغني الحميد، العليم الحكيم".
 
واعلم أنَّه لا يجوز تهوين أمر البدع، ولا التساهل مع أهل الأهواء والضلال، فقد قال الله سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [الأنعام: 159]، وتكفي هذه الآية الكريمة في الزجر عن جميع البدع، والتحذير الشديد لأهل البدع والأهواء المختلفة، والحث على إقامة الدين الذي رضيه الله لعباده، وعدم التفرق فيه، كما وصَّى الله بذلك عباده في قوله سبحانه: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].
 
وإنَّ من الصراط المستقيم الاستقامة على السُّنَّة بلا إفراط ولا تفريط، وإنَّ من السُّنَّة النبوية التيسير والتبشير، وترك الغلو والتشديد، والحذر من التوسع في التكفير والتبديع.
 
وهذه نصيحة صادقة لبعض طلاب العلم المعاصرين الذين يُكفِّرون من وقع في بعض البدع الاعتقادية، وإن كانوا من كبار علماء الأمة الذين أفنوا أعمارهم في التفسير أو الحديث أو القراءات أو الفقه، وصنفوا المصنفات العظيمة، ويستدلون على تكفيرهم بنقولٍ عامةٍ قالها بعض أئمة السلف، والعجيب أنهم يستدلون بتلك النقولات، وكأنهم يستدلون بنصوص القرآن أو السنة!
 
فيجب الحذر من الغلو في التكفير، فإنَّ الجهل أو التأويل مانع من التكفير، قال ابن تيمية رحمه الله في كتابه منهاج السنة النبوية (5/ 239 - 241): "المتأوِّل الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر، بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفَّر المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين؛ وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة، ويُكفِّرون من خالفهم؛ كالخوارج والمعتزلة والجهمية، وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارًا لم يكونوا منافقين، فيكونون من المؤمنين، فيُستَغفر لهم، ويُترحَّم عليهم، وإذا قال المؤمن: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]، يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوَّله، فخالف السنة، أو أذنب ذنبًا، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة، فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارًا، بل مؤمنون فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد، كما يستحقه عصاة المؤمنين، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يُخرجهم من الإسلام؛ بل جعلهم من أمته، ولم يقل: إنهم يُخلَّدون في النار، فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته".
 
فمن عقيدة أهل السنة والجماعة أنَّ من دخل النار من أهل البدع الموحِّدين فمآلهم إلى الجنة برحمة الله أرحم الراحمين، كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 116]، وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ))؛ متفق عليه من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
 
قال ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية (ص 138، 139): "أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام؛ ولكنهم مخالفون في بعض الأصول؛ كالرافضة والقدرية والجهمية، وغلاة المرجئة ونحوهم، أقسام:
أحدها: الجاهل المقلِّد الذي لا بصيرة له؛ فهذا لا يُكَفَّر، ولا يُفَسَّق، ولا تُرد شهادته إذا لم يكن قادرًا على تعلُّم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوًّا غفورًا.
 
القسم الثاني: المتمكن من السؤال، وطلب الهداية ومعرفة الحق؛ ولكن يترك ذلك اشتغالًا بدنياه ورئاسته، ولذته ومعاشه، وغير ذلك، فهذا مُفرِّط مستحق للوعيد، وآثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات، فإنَّ غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السُّنَّة والهدى رُدت شهادته، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى قُبِلت شهادته.
 
القسم الثالث: أن يسأل ويطلب، ويتبين له الهدى، ويتركه تقليدًا وتعصبًا أو بغضًا أو معاداةً لأصحابه، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقًا، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل، فإن كان معلنًا داعية رُدت شهادته وفتاويه وأحكامه مع القدرة على ذلك، ولم تُقبل له شهادة ولا فتوى ولا حكم إلا عند الضرورة".
 
والواجب الحذر من التكفير والتبديع بلا برهان، والخوف من الخوض في أعراض الناس بلا بينة، والعدل في الحكم على الناس، قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8].
 
قال ابن تيمية رحمه الله في كتابه درء تعارض العقل والنقل (2/102) في معرض رده على بعض أهل البدع والضلال: "ثم إنَّه ما مِن هؤلاء إلا من له مساعٍ مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين، ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلَّم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف".
 
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح دار السعادة (1/ 176): "من قواعد الشرع والحكمة: أنَّ من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر؛ فإنه يُحتمل له ما لا يُحتمل لغيره، ويُعفى عنه ما لا يُعفى عن غيره، فإنَّ المعصية خبث، والماء إذا بلَغَ قُلَّتَينِ لم يحمل الخبث".
 
وقد سُئِل ابن باز رحمه الله كما في مجموع فتاوى ابن باز (28/ 254) عن حكم تبديع جملة من أئمة أهل السنة بحجة أنهم أخطأوا في العقيدة مثل النووي وابن حجر وغيرهما؟ فقال: "من أخطأ لا يؤخذ بخطئه، الخطأ مردود، وكل عالم يُخطئ ويُصيب، فيُؤخذ صوابه، ويُترك خطؤه".
 
وقال ابن عثيمين رحمه الله كما في لقاء الباب المفتوح (43/ 15): "هناك علماء مشهود لهم بالخير، لا ينتسبون إلى طائفة معينة من أهل البدع؛ لكن في كلامهم شيء من كلام أهل البدع، مثل ابن حجر العسقلاني والنووي رحمهما الله، بعض السفهاء من الناس قدحوا فيهما قدحًا تامًّا مطلقًا من كل وجه، فهذان الرجلان ما أعلم أن أحدًا قدَّم للإسلام في باب أحاديث الرسول مثلما قدماه، فكيف يُقال عنهما: إنهما مبتدعان ضالَّان، لا يجوز الترحُّم عليهما، ولا يجوز القراءة في كتبهما؟! من كان يستطيع أن يقدم للإسلام والمسلمين مثلما قدم هذان الرجلان إلا أن يشاء الله؟! فأنا أقول: غفر الله للنووي، ولابن حجر العسقلاني، ولمن كان على شاكلتهما ممن نفع الله بهم الإسلام والمسلمين".
 
وما أحسن قول الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله! حين سُئِل: هل النووي وابن حجر مبتدعة؛ لكونهم قالوا بتأويل الصفات على طريقة الأشاعرة؟: "الله يغفر لهما، ولابن حزم، ولابن الجوزي، ولعلمائنا الآخرين الذين زلت أقدامهم لا أستطيع أن أطلق عليهم بأنهم مبتدعة".
 
وقال رحمه الله: "نحن لا نُكفِّر مسلمًا إلا بدليل من كتاب الله، أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قرأنا في كتاب السنة لعبدالله بن أحمد أنَّ كثيرًا من السلف يقولون: من قال: إنَّ القرآن مخلوق فهو كافر؛ لكن أين الدليل على هذا؟! فمسألة تكفير المسلمين لا بد فيها من الدليل؛ بل نقول: إنَّه مبتدع"؛ يُنظر: كتاب ((غارة الأشرطة)) لمقبل الوادعي (ص: 295، 296، 306).
 
فلا بد من أخذ العلم بإنصاف وتدقيق وتحقيق، ولا بد من التفريق بين ما أجمع عليه السلف الصالح، وما اختلفوا فيه، ولا بد من التناصح بين المسلمين فيما اختلفوا فيه، مع معرفة فقه الخلاف، وأدب الاختلاف.
 
قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء (14/ 376): "ولو أنَّ كل من أخطأ في اجتهاده- مع صحة إيمانه، وتوخِّيه لاتِّباع الحق- أهدرناه وبدَّعناه، لقَلَّ مَنْ يَسْلَم مِنَ الأئمة معنا!".
 
وقال الشاطبي رحمه الله في كتابه الاعتصام (ص: 114): "الابتداع من المجتهد لا يقع إلا فلتة، وبالعرض لا بالذات؛ وإنما تُسمى غلطة أو زلة؛ لأنَّ صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويل الكتاب؛ أي: لم يتبع هواه، ولا جعله عمدة؛ والدليل عليه أنَّه إذا ظهر له الحق أذعن له، وأقر به".
 
وقد أمر الله نبيَّه محمدًا عليه الصلاة والسلام أن يستغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات، فقال سبحانه: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: 19]، وهذا يعم الذنوب الاعتقادية والعملية والقولية.
 
قال ابن عطية رحمه الله في تفسيره المحرر الوجيز (5/ 116): "واجبٌ على كل مؤمن أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات"، ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١