عندما تكون الصلاة مظهرا لا روح فيها!
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب عندما تكون الصلاة مظهرًا لا روح فيها!
حقيقة الإيمان:
كانت الفكرةُ السائدة عندما تسأل عن أخلاقِ شخص أن يكونَ المحكُّ "الصلاةَ"، فيأتيك الجواب: "والله ما يقطع وقت صلاة"، وإذا كان مَن تسأل على درجة من العلم قال لك: "إذا رأيتم الرجلَ يعتاد المساجد، فاشهدوا له بالإيمان"، الزلمة ما فينا نقول عليه شي.
منذ فترة حكى لي أحدهم:
أنه سُئل عن شخص نعرفه، سلوكياته لا علاقة لها بالإيمان، سواء معاملة أو إنفاقًا أو تحايلاً والتفافًا على الآيات، أو تعاملاً مع المشايخ وتسخيرها للكسب المادي، فأجاب ذلك الأخُ السائلَ أنه لا يمكن أن يقدحَ فيه؛ لأنه كثيرًا ما "يصلِّي في الجامع"؛ مستشهدًا بالحديث: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد، فاشهدوا له بالإيمان".
بصراحة أذهلني الموقف، وقلت له: يا فلان، قد غششت صاحبك!
لا أدري كيف خرجتْ مني تلك العبارةُ، ولكنها خرجت من أعماقي ورغمًا عني، خشيتُ أن أكونَ قد تعدَّيت بكلامي؛ فأنا لم أكن أشكُّ في صحة الحديثِ المتَّكَأ عليه؛ لكثرة تداوله، ولكن واقع الحال كان يناقض المقال تمامًا!
راجعت نفسي، هو فعلاً شخص يرتاد المساجد، ولكن لا علاقة لسلوكياتِه بأصحابِ المساجد.
قررت البحثَ في الأمر؛ لإزالةِ اللَّبسِ، وحتى لا نقف عند ظاهر القول دون تمحيص؛ فالشهادة أمانة، وما أقلَّ حِرْصَنا على تأديتها على الوجه الصحيح! فوجدت:
1- الحديث المستشهد به، موجود في الترمذي وابن ماجه، ولا ذكر له في الصحيحين وضعَّفه الألبانيُّ، ولم تثبت صحتُه لا متنًا ولا سندًا.
2- قوله - تعالى - في سورة البقرة: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
هذه الآية تُنهي الأمرَ من حيث ابتدأ، تحكي حقيقةَ الإيمان.
سبحان الله! كيف يقرِّرُ لنا المولى - عز وعلا - أنَّ توليةَ الوجه تجاه القبلة وأداءَ الصلاة بحركاتها يوميًّا ليس دليلاً على البر، حتى لو كان إمامَ المصلين، وليس مصليًا في جماعة فحسب!
مع الآية نمضي بومضات خفيفة.
• ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ ﴾: والبر هو ما يُتقرَّبُ به إلى الله - تعالى - من الإيمانِ.
• ﴿ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾ مجرد تولية الوجه قبلة مخصوصة ليس هو البرَّ المقصود من الدين؛ ذلك أن استقبالَ الجهة المعينة إنما شُرِع لأجل تذكير المصلي بالإعراض عن كلِّ ما سوى الله - تعالى - في صلاته، والإقبال على مناجاته ودعائه وحده، وليكون شعارًا لاجتماع الأمة، فتوليةُ الوجه وسيلةٌ للتذكير بتولية القلب، وليس ركنًا من العبادة بنفسه؛ "تفسير المنار".
• ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ ﴾، ما هو البِرُّ؟
﴿ مَنْ ﴾:
1- ﴿ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾؛ وهذه أركان الإيمان.
2- الصدقة: ﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ﴾.
3- ﴿ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ﴾: "وإقامة الصلاة التي يكرر القرآنُ المطالبةَ بها لا تتحقق بأداء أفعال الصلاة وأقوالها فقط، وإن جاء بها المصلي تامةً على الوجه الذي يذكرُه الفقهاءُ؛ لأن ما يذكرونه هو صورةُ الصلاة وهيئتها، وإنما البرُّ والتقوى في سر الصلاة ورُوحِها الذي تصدر عنه آثارُها من النهي عن الفحشاء والمنكر، وقلب الطباع السقيمة، والاستعاضة عنها بالغرائز المستقيمة؛ فقد قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج: 19 - 22]؛ فمن حافَظَ على الصلاة الحقيقية، تطهَّرت نفسُه من الهلع والجزع إذا مسه الشر، ومن البخل والمنع إذا مسه الخير، وكان شجاعًا كريمًا، قويَّ العزيمة، شديدَ الشكيمة، لا يرضى بالضيم، ولا يخشى في الحقِّ العذل واللوم؛ لأنه بمراقبته لله - تعالى - في صلاته، واستشعاره عظمتَه وسلطانه الأعلى في ركوعه وسجوده يكونُ الله - تعالى - غالبًا على أمره، فلا يبالي ما لقِي من الشدائد في سبيله، وما أنفق من فضله ابتغاء مرضاته، وصورة الصلاة لا تعطي صاحبَها شيئًا من هذه المعاني، فليست بمجردِها من البرِّ في شيء..."؛ تفسير المنار.
4- ﴿ وَآتَى الزَّكَاةَ ﴾: ولم يحتَلْ على الله - عز وعلا - فينتهج فنون الخداع التي يسبق بها أصحابَ السبت بمراحل، فتصبح أموالُه الطائلة بقدرة قادرٍ كلها في حكم "ما لا تجب فيه الزكاة"! أو يعطي عمَّالَه حقوقًا لهم من مال الزكاة، فلا العامل يعرف أنَّ ما صُرِفَ له من الزكاة، ولا ربُّ العباد يقبلُ منه زكاته الزائفة.
ثم تنتقل الآية الكريمة من بِرِّ الأعمال إلى بِرِّ الأخلاق:
5- ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ﴾: والعهد عبارة عما يلتزم به المرءُ لآخَرَ، والوفاءُ بالعهد من صفاتِ المؤمن، وعكسه النفاق؛ فمِن صفات المنافق: ((وإذا عاهَدَ غَدَر، وإذا اؤتُمن خان)).
6- ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾: الصابرون على الفقر، وعلى الضرِّ من مرض وسقم، وفَقْد للأهل والولد، وحين البأس: في المعركة واشتداد القتال.
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
هؤلاء هم الصادقون في إيمانهم، الذين تشهد لهم أعمالهم وأحوالهم بالتقوى:
• الراسخون في أصول الإيمان الخمسة.
• والمُنْفقون للمال في مواضعه الستة.
• والمُقِيمون للصلاة على وجهها؛ أركانًا ورُوحًا واتصالاً بالمعبود.
• والموفون بعهودهم على أنواعها المختلفة؛ شرعية، اقتصادية، اجتماعية، سياسية، عسكرية.
• والصابرون في مواقف الشِّدة.
هؤلاء هم الذين صَدَقوا اللهَ في دعوى الإيمان دون الذين قالوا آمنا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم.
والله من وراء القصد.