أرشيف المقالات

كيف تجعل العادات عبادات؟

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
كيف تجعل العادات عبادات؟
 
قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162].
فكلُّ حياة المسلم عبادةٌ لله ربِّ العالمين، وما ذلك إلا بحُسْنِ نيَّتِه؛ ﻷنَّ وقتَه إمَّا عبادةٌ محضَةٌ؛ كصلاةٍ، وقراءةِ قرآن، أو وقت يستعِينُ به على عبادةٍ؛ كأن ينامَ أو يأكلَ ليقوَى بذلك على عبادةِ ربِّه.
كان بعضُ الأئمة يقول: إني أُحِبُّ أن يكونَ لي نيَّةُ في كلِّ شيءٍ، حتى في نومِي وأكلِي وشربِي.
 
هل خطرَ لك يومًا أنَّ ساعاتِ نومِك قد تكونُ عبادةً من أفضلِ العباداتِ؟
هل رأيتَ موظفًا في هذه الدنيا يأخذُ أجرًا على ساعاتِ نومِه؟ والله لم يحدث هذا في تاريخِ البشرية فيما نعلم، لكنَّ الله عز وجل يعطي عبادَه أجرًا حتى وهم نائمون، وهم يأكلون، وهم يلعبون؟
 
هل جاء بخاطرِك يومًا أنك تأخُذُ أجرًا على ساعاتِ الأكلِ؟
إنك نائمٌ ومع ذلك يكتُبُ الله لك أجرًا وثوابًا!
تلعَبُ وتمرَحُ وربُّك يمنحُك أجرًا لعلَّه لا يقل عن أجرِ صلاتِك وصيامِك!
كيف ذلك؟!
 
١- كيف يكونُ نومُك عبادةً؟
عن أبي بردة رحمه الله قال: بعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذَ بن جبل إلى اليمن، قال: وبعثَ كلَّ واحدٍ منهما على مِخْلافٍ، قال: واليمنُ مِخْلافان، ثم قال: "يسِّرا ولا تُعسِّرا، وبشِّرا ولا تُنَفِّرا".
 
فانطلقَ كلُّ واحدٍ منهما إلى عملِه، وكان كلُّ واحدٍ منهما إذا سارَ في أرضِه كان قريبًا من صاحبِه أحدَث به عهدًا، فسلَّم عليه، فسارَ معاذٌ في أرضِه قريبًا من صاحبِه أبي موسى، فجاءَ يسيرُ على بغلتِه حتى انتهَى إليه، وإذا هو جالسٌ، وقد اجتمعَ إليه الناسُ، وإذا رجلٌ عندَه قد جُمعَت يداه إلى عنُقِه.
 
فقال له معاذٌ: يا عبدَ الله بن قَيسٍ! أيُّمَ هذا؟ قال: هذا رجلٌ كفرَ بعد إسلامِه.
قال: لا أنزِلُ حتى يُقتَلَ.
قال: إنما جِيءَ به لذلك فانزلْ.
قال: ما أنزِلُ حتى يُقتَلَ، فأمرَ به فقُتِلَ.
 
ثم نزل فقالَ: يا عبد الله! كيف تقرأُ القرآنَ؟ قال: أتفوَّقُه تفوُّقًا.
وفي رواية: قائمًا وقاعدًا، وعلى راحلتِي، وأتفوَّقُه تفوُّقًا.
قال: فكيف تقرأُ أنت يا معاذُ؟ قال: أنامُ أوَّلَ الليلِ، فأقومُ وقد قضَيْتُ جُزئِي من النومِ، فأقرأُ ما كتبَ الله لي، فأحتسِبُ نومتِي كما أحتسِبُ قومتِي [1].
 
إنَّ معاذًا رضي الله عنه كان يحتَسِبُ السَّاعاتِ التي ينامُها في حسناتِه كما يحتَسِبُ السَّاعاتِ التي يقومُ فيها بين يدي الله في ظُلمَةِ الليلِ.
 
إنَّ ساعاتِ النومِ قد تكونُ حسناتٍ، وقد تكون سيئاتٍ؛ فالذي ينام على طاعةٍ، قد نوى أنْ يقومَ لصلاةِ الفجر، هذا نومه عبادةٌ لله تعالى ولا ريب.
وأما الذي نام على معصيَّة الله تعالى، ولم ينو القيام لصلاة الفجر، بل نوى أن يقوم بعد طلوعِ الشمس ليذهبَ للعمل، فهذا نومُه معصيَةٌ لله عزَّ وجلَّ.
 
٢- كيف يكونُ طعامُك وشرابُك عبادةٌ؟
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عجبْتُ للمسلم إذا أصابَه خيرٌ حمِدَ الله وشكرَ، وإذا أصابتْه مصيبةٌ احتسبَ وصبَرَ، المسلمُ يُؤجَرُ في كل شيءٍ حتى في اللقمةَ يرفعُها إلى فِيه" [2].
 
إنَّ المؤمنَ يُؤجَرُ على طعامِه الذي يأكله، ﻷنه:
أولًا: لا يأكلُ من حرامٍ، بل يحرِصُ على الحلالِ، ويموتُ جوعًا ولا يأكلُ حرامًا.
وثانيًا: يذكرُ اسمَ الله قبل الأكلِ.
وثالثًا: بحمدِ الله على ما رزقَه، وشُكْرِه عن نعمةِ المَطْعمِ والمَشربِ.
ورابعًا: ينوي بأكلِه التَّقَوِّي على طاعةِ الله عزَّ وجلَّ فلأجلِ هذا كان طعامُه وشَرابُه في حسناته.
 
فأمَّا الذي يأكلُ من حرامٍ، ولا يذكرُ اسمَ الله عند طعامِه، ولا يَحمَدُ الله عند فراغِه، وهو يتقلَّب في معصيةِ الله تعالى ليلًا ونهارًا؛ فهذا لا شكَّ أن طعامَه وشرابَه يكونُ في ميزانِ سيئاتِه.
 
٣- كيف تكونُ نفقتُك على أولادِك عبادة؟
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لسعدٍ: "إنَّك لن تنفِقَ نفقةً تبتغِي بها وجه الله عزَّ وجلَّ إلا أُجِرْتَ بها، حتى ما تجعَلُ في فَمِ امرأتِك" [3].
 
وفي لفظ [4]: "ومهما أنفقتَ فهو لك صدقةٌ".
وفي لفظ لمسلمٍ: "وإنَّ نفقتَك على عِيالِك صدقةٌ، وإنَّ ما تأكلُ امرأتُك من مالِك صدقةٌ".
 
وعن أبي مسعود البدريِّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ المسلمَ إذا أنفقَ على أهلِه نفقةً وهو يحتَسبُها كانت له صدقةً" [5].
 
عن أبي قلابة رحمه الله، عن أبي أسماء رحمه الله، عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ دينارٍ يُنفِقُه الرجلُ دينارٌ يُنفِقُه على عِيالِه، ودينارٌ يُنفِقُه الرجلُ على دابَّتِه في سبيلِ الله، ودينارٌ يُنفِقُه على أصحابِه في سبيلِ الله".
قال أبو قلابة: "وبدَأَ بالعيالِ، وأيُّ رجلٍ أعظَمُ أجرًا، من رجلٍ يُنفِقُ على عِيَالٍ صِغارٍ، يُعِفُّهُمُ أو ينفَعُهم الله به، ويُغنِيهم " [6].
 
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دينارٌ أنفقتَه في سبيلِ الله، ودينارٌ أنفقتَه في رقَبَةٍ، ودينارٌ تصدَّقْتَ به على مسكينٍ، ودينارٌ أنفقتَه على أهلِك، أعظَمُها أجرًا الذي أنفقتَه على أهلِك" [7].
 
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسولَ الله، هل لي أجرٌ في بني أبي سلمة، أُنفِقُ عليهم، ولست بتارِكتِهم هكذا وهكذا، إنما هم بَنِيِّ؟ فقال: "نعم، لكِ فيهم أجرٌ ما أنفقْتِ عليهم" [8].
 
وعن العِرباض بن ساريةَ رضي الله عنه قال: سمعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ المسلمَ يُؤجَرُ في كلِّ شيءٍ حتى في الشَّربةِ يَسقِيها امرأتَه"، قال: فرجَعْتُ إلى امرأتِي فسَقَيتُها وأخبرتُها بما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم" [9].
 
فالمالُ الذي تُنفقه على أولادك تؤجر عليه، إنه أحد أبواب الصدقات التي يغفل عنها كثير من الناس، لكن هذا إنما يكون لمن:
أولًا: حسُنَتْ نيَّتُه.
ثانيًا: أنفقَ على أولادِه من مالٍ حلالٍ، فلم يسرقْ.
ثالثًا: علم أنَّ أولادَه يستخدمونَ هذا المالَ في أمرٍ مُبَاحٍ.
فأما من جمعَ مالَه من حلالٍ وحرامٍ، وأعطَى أولادَه وزوجتَه المالَ فعصَوا الله به وهو يعلمُ فنفقتُه وبالٌ عليه، وهي في سيئاتِه ولا ريب.
 
٤- كيف يكونُ عملُك عبَادةٌ؟
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما نحن جلوسٌ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إذ طلعَ علينا شابٌّ من الثَّنيَّةِ، فلما رأيناه بأبصارِنا، قلنا: لو أنَّ هذا الشابَ جعَلَ شبابَه ونشاطَه وقوَّتَه في سبيلِ الله، قال: فسمِع مقالتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وما سبيلُ الله إلا مَن قتَلَ؟ من سعَى على والديه ففي سبيلِ الله، ومن سعى على عيالِه ففي سبيلِ الله، ومن سعَى على نفسِه ليُعِفَّها ففي سبيلِ الله، ومن سعى على التَّكاثُرِ فهو في سبيل الشيطانِ" [10].
 
لقد اشتهرَ بين الناسِ أنَّ العملَ عبادهٌ، وهذا على إطلاقِه باطلٌ؛ فإنَّ العملَ يكونُ عبادةً بثلاثةِ شروطٍ:
الأول: أن يكونَ هذا العملُ مباحًا، فكيف يُسَمَّى الذي يعمَلُ عملًا حرامًا عابدً لله؟
 
الثاني: ألَّا يشْغَلَه عملُه عن أداءِ الفرائضِ والواجباتِ؛ فرجلٌ يتركُ الصلاةَ حتى يخرُجَ وقتُها بحجَّةِ العملِ ويزعمُ أنَّ العملَ عبادةٌ، لا شك أنه يُخَادِعُ نفسَه.
 
الثالث: أن ينوِىَ بهذا العمل أن يكسِبَ مالًا حلالًا يُعِفُّ به نفسَه وأهلَه عن سؤالِ الناسِ، وأن يُساعِدَ من يحتاجُ إلى عونًا من المسلمين.
 
٥- كيف تكون شهوتك عبادة؟
عن أبي ذر رضي الله عنه، أنَّ ناسًا من أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ الله، ذهبَ أهلُ الدُّثُورِ بالأجورِ، يُصلُّون كما نُصلِّي، ويصومون كما نصومُ، ويتصدَّقون بفُضولِ أموالِهم، قال: "أوليس قد جَعلَ الله لكم ما تصدَّقون؟ إنَّ بكلِّ تسبيحةٍ صدقةٌ، وكلُّ تكبيرةٍ صدقةٌ، وكلُّ تحميدةٍ صدقةٌ، وكلُّ تهليلةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروفِ صدقةٌ، ونهيٌ عن منكرٍ صدقةٌ، وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةُ".
 
قالوا: يا رسولَ الله! أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟ قال: "أرأيتُم لو وضعَها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ؟ فكذلك إذا وضعَها في الحلالِ كان له أجرٌ" [11].
 
هل خطرَ على بال أحدنا أن يكونَ له في شهوته أجرٌ وحسنات؟
إنَّ هذا رهنُ نية المسلم، فإن نوى بذلك إعفافَ نفسِه وزوجتِه فهنيئًا له الأجرَ والثوابَ.




[1] أخرجه البخاري (4341، 4344)، ومسلم (1733) مختصرا.
"مِخْلافٍ": إقليم.
"أحدَث به عهدًا": جدَّد العهد بزيارته.
"أيُّمَ هذا": أي شيء هذا.
"أتفوَّقُه تفوُّقًا": ألازم قراءته ليلا ونهارا شيئًا بعد شيء ولا أقرأ وردي دفعة واحدة، مأخوذ من فُوَاقِ الناقة وهو أن تُحلَب ثم تُترَك ساعة حتى يجتمع لبنها ثم تُحلَب وهكذا.


[2] سنده حسن: أخرجه أحمد (1/ 177)، والنسائي في "السنن الكبرى" (10839).


[3] أخرجه البخاري (56)، ومسلم (1628).


[4] البخاري (5354).


[5] أخرجه البخاري (55)، ومسلم (1002).


[6] أخرجه مسلم (994).


[7] أخرجه مسلم (995).


[8] أخرجه البخاري (1467)، ومسلم (1001).


[9] أخرجه البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (3697)، بسند ضعيف.


[10] سنده حسن: أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (18280)، والطبراني في "الأوسط" (4214).


[11] أخرجه مسلم (1006).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢