أرشيف المقالات

مع الراغب الأصفهاني في كتاب الذريعة (2)

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
مع الراغب الأصفهاني في كتاب الذريعة (2)


قال الراغب رحمه الله: "فكن أيها الأخ عالماً، وبعلمك عاملاً، تكن من أولياء الله الذين ﴿ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس: 62]، واحذر الشيطان أن يسبيك، ويغريك بأعراض الدنيا وزخارفها، فيجعلك من أوليائه ويخوفك بوساوسه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾ [آل عمران: 175]، واعلم أنه قبيح بذي العقل أن يكون بهيمة وقد أمكنه أن يكون إنساناً، أو إنساناً وقد أمكنه أن يكون ملكاً، وأن يرضى بقنية معارة، وحياة مستردة، وله أن يتخذ قنية مخلدة، وحياة مؤبدة:
فلم ير في عيوب الناس شيء ♦♦♦ كنقص القادرين على التمام".
 
الفوائد:
أولاً: أهمية العلم والعمل بمقتضاه، قال الخطيب البغدادي موصياً طالب العلم: "إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة، والعمل ثمرة وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً.
وقيل: العلم والد، والعمل مولود، والعلم مع العمل، والرواية مع الدراية.
فا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل، ولكن اجمع بينهما، وإن قل نصيبك منهما"[1].
 
ثانياً: تأكيد الراغب في سياقه على أن مفهوم الولاية إنما يتحقق للعبد بعد تهذيبه نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح كما قال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 62، 63]، قال ابن القيم: "أولياء الرحمن هم المخلصون لربهم، المحكمون لرسوله في الحرم والحل، الذين يخالفون غيره لسنته، ولا يخالفون سنته لغيرها، فلا يبتدعون ولا يدعون إلى بدعة، ولا يتحيزون إلى فئة غير الله ورسوله وأصحابه، ولا يتخذون دينهم لهواً ولعباً.
فأولياء الرحمن المتلبسون بما يحبه وليهم، الداعون إليه، المحاربون لمن خرج عنه"[2]، ولا يلزم من ذلك كون الولاية تقوم بها خوارق العادات، ولكن قد تظهر على يد الولي توفيقاً وتفضلاً من الله تعالى، فلذلك لا وجه للاستدلال بها على التحدي والإعجاز كشأن معجزات الأنبياء، وعدم التلبس بها لا يعني نقصان دينه وإيمانه، وفي هذا يقول ابن أبي العز الحنفي: "اعلم أن عدم الخوارق علماً وقدرة لا تضر المسلم في دينه، فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات، ولم يسخر له شيء من الكونيات، لا ينقصه ذلك في مرتبته عند الله، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له"[3].
 
ثالثاً: التحذير من الشيطان وغوايته ووسائله من الجن والإنس واتباع خطواته، ولقد أكثر أهل العلم من السلف والخلف في بيان مناهج وطرق الشيطان وأتباعه والتحذير منها تلقياً من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ خشية من التلبس بها أو الوقوع فيها، ولا شك أن للشيطان طرقه في الغواية والإضلال، يقول ابن الجوزي في تلبيس إبليس: "وينبغي أن تعلم أن إبليس الذي شغله التلبيس هو أول من التبس عليه الأمر، فأعرض عن النص الصريح الآمر بالسجود، وأخذ يفاضل بين الأصول..
فمتى سول للإنسان أمراً؛ فينبغي أن يحذر منه أشد الحذر، وليقل له حين أمره إياه بالسوء: إنما تريد بما تأمر نصحي ببلوغ شهوتي، وكيف يتضح صواب النصح للغير لمن لا ينصح نفسه؟ ثم كيف أثق بنصيحة عدو؟ فانصرف، فما فيَّ لقولك منفذ...
وفتن الشيطان ومكايده كثيرة، ولكثرة فتن الشيطان وتشبثها بالقلوب، عزت السلامة، فإن من يدع إلى ما يحث عليه الطبع كمداد سفينة منحدرة، فيا سرعة انحدارها"[4]، ولا شك أن الشيطان يحرص على إخراج الإنسان من دائرة عبديته لله تعالى وطاعته وإدخاله في دائرة الهوى والضلال وعبدية غير الله تعالى، ويكون هذا من حيث الإجمال بمسلكي الشهوات والشبهات بمختلف مظاهرها وصورها، وما أكثر في زماننا اليوم، حيث ينتشر دعاة الأهواء والضلالات، وبائعو الهوى والشهوات، باستغلالهم كل الوسائل الممكنة في تحقيق أهدافهم ومقاصدهم الخبيثة، سواء منها المنظور أو المسموع أو المقروء، قال عليه الصلاة والسلام مخبراً ومحذراً: "سيخرج من أمتى أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى من عرق ولا مفصل إلا دخله"[5]، والحديث يعد علماً من أعلام النبوة، ومقتضاه إخبار النبي عليه الصلاة والسلام بأن هناك أقواماً من هذه الأمة تداخل هذه الأهواء قلوبهم، حتى لا يمكن أنفصالهم عنها، على حد ما يداخل داء الكلب جسم صاحبه، فلا يبقى من ذلك الجسم جزء من أجزائه لا عرق ولا مفصل ولا غيرهما إلا داخله ذلك الداء، وهو جريان لا يقبل العلاج، ولا ينفع فيه الدواء، فكذلك صاحب الهوى، إذا دخل قلبه، وأشرب حبه، لا تعمل فيه الموعظة، ولا يقبل البرهان[6].
 
رابعاً: من شأن الإنسان أن الله جعله صاحب إرادة وهمة وعزيمة واختيار، يرتقي بها في دائرة وظيفته التي خلق من أجل تحقيقها، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30]، وقد جعل الله له آلات وأدوات يستعين بها في تحقيق مقصود خالقه، ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: 31]، وقد بين الذكر الحكيم مقصود الخالق في خلقه للإنسان في آيتين مركزيتين من كتاب الله تعالى، الأولى قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، والثانية قوله تعالى: ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61]، بمقتضى هذه الرؤية وهذا المنظور القرآني يقيم الإنسان بنائه في إطارين جامعين، هما تحقيق العبودية لله عز وجل، وعمارة الأرض حساً ومعنى بالإيمان والعمل الصالح وبكل ما هو نافع للبشرية في تحقيق مقاصد خالقها، والخروج عن دائرة الوظيفة الاستخلافية في الأرض يجعل الإنسان معطلاً عن مقتضياتها، بحيث تفضي به الغفلة عنها إلى جعله خارجاً عن دائرة الاستقامة والهداية الإلهية، وتنزل به إلى دائرة البهيمية بل أكثر من ذلك، كما قال ربنا سبحانه: ﴿ لَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].



[1] اقتضاء العلم العمل، ص14.


[2] بدائع التفسير، ج2 ص41.


[3] شرح العقيدة الطحاوية، ج2 ص750.


[4] المنتقى النفيس من تلبيس إبليس، علي حسن عبدالحميد، ص52.


[5] أخرجه أحمد في المسند، ج4 ص102، وأبو داود في سننه، رقم 4597.


[6] الاعتصام، الشاطبي، طبعة الشيخ مشهور، ج3 ص316.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير