منح المحن
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
مِنَح المحَنضيف غريب داهم العالم، مقتحمًا أحاديث الناس، غزا بالخوف القلوبَ والأذهان؛ فحصد الأرواح، وبعثر الجموع، وضيَّق الصدور والأرزاق، وعطَّل الأسواق والأسفار والابتسامات الآمنة، وفرَّغ المساجد والنوادي والحدائق.
مؤلم كل ذلك، ولكن الله قد يجعل في الداء الدواء مِنحًا، ويُحدِث بهذا الضيف الكوروني تغييرًا عجزت عنه المنابر والأقلام!
فقد تكشفت على يده حقيقة: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، مهما طغى وبغى، وتطاول في البنيان، وتجلت عظمة الإسلام؛ حيث الطهارة في الروح والبدن والرزق، وتوقفت الغيبة والنميمة بعد أن التهى الجميع بأنفسهم.
لقد أحيا سننًا شرعيةً مهملةً؛ كالأذكار والرقى والأدعية، وجعل الناس يسألون ويسمعون؛ ليفرقوا بين التوكل والتواكل، وبين قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾ [التوبة: 51]، وقوله: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]، لقد أدركوا قيمة الإيمان، وقدر النعم، ولذة تسوية الصفوف، وهمهمة حلقات القرآن.
وعلى الصعيد الاجتماعي أتاح للأسرة فرصة التعارف بعد أن جففت الشاشات القلوب، وغيبت العقول، فقد اضطر الأبوان إلى لمِّ الشتات، وحل المشكلات، وتوعية الأبناء، وتفقد أحوال الأهل والأصحاب، لقد حوَّل كورونا العالم إلى أسرة واحدة، يشعر أحدهم بأن مصيره رهنٌ بسلامة الآخرين، وأنه بدوره مسؤول عن ابتسامتهم ومستقبلهم، فيتابع أخبار البلاد المسلمة وغيرها، ويشعر بغصة كلما ارتفع منسوب الإصابة في أيما بقعة، وتعلوه ابتسامة كلما أُعلن عن حالة شفاء أينما كانت، بعيدًا عن العنصرية البغيضة.
وعلى الصعيد الصحي تنفست الأرض والسماء، وألقتا ما فيهما من تلوث وضجيج أحدثه جشع الإنسان، وبرز الحديث عن المناعة كدرع حصين يقي البشر من الأدواء، وشرع الناس بمراجعة عاداتهم الغذائية، وإدراك أهمية الرياضة، ونجاعة الفحوص الطبية الدورية، لقد أدركوا حقيقةً معنى: "درهم وقاية خير من قنطار علاج"؛ فظهرت ثقافة الترشيد، وحسن استعمال المرافق العامة، والأدوات الخاصة، وقيمة التطهير والتعقيم، والتواصل الآمن، بما يحقق الوصية النبوية الجامعة: ((لا ضرر ولا ضرار))؛ [رواه ابن ماجه].
وعلى الصعيد العلمي أصبحت البيوت على اختلاف مستوياتها أشبه بندوات طبية ومحافل علمية لتحليل الأحداث، وعادات الشعوب، ونقد الإشاعات، ولعل الفرد فيها يجد في براح الوقت مكانًا للتأمل، والقراءة، ومحاسبة النفس، وترتيب الحياة والأولويات، ورسم معالم المستقبل، بعد أن كان الكثيرون مغيبين لاهين عن مسؤولياتهم، حتى عن أنفسهم وأوطانهم.
لقد أيقنت الأذهان بعد تعطيل المدارس أن للمعلم دورًا عظيمًا في الحياة؛ إذ يحتوي في يومه عشرات العقول، يقارع الهموم لإيصال رسالته وأداء مهمته، التي لا يمكن الاستغناء عنها مهما تغيرت الظروف، وتطورت الوسائل، وأدركت أنه في عصر الحداثة يمكن استمرار العمل من دون الملفات الكثيرة والاجتماعات الطويلة، وأن الأجهزة الذكية يمكن استثمارها بشكل حقيقي بعيدًا عن اللعب والخداع، الذي ساد زمنًا وعاث فسادًا.
لقد صحت الإدارات والهيئات في كل الدول على هذه الحقائق، وتنبهت لأهمية الواقعية والصدق والوعي، وضرورة أن يكون لها خطة بديلة للتعليم والغذاء وسائر المجالات، وأن تستثمر وقت الرخاء لتهيئة المجتمع لشتى الظروف؛ كي تؤتي الجهود أكلها حين الشدائد.
وختامًا: لو اختصرت الفوائد كلها في كلمة، لكانت هي (الفطرة): ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 88]، فلنحافظ عليها نقيةً بالوعي والإخلاص، فلعل الله يرفع البلاء، فينفع الأمة بفوائده، ويجنبها ويلاته، فيكون لها درسًا واعظًا وعبرةً حاضرةً؛ مفادها: "رب ضارة نافعة".