ثمن التوبة
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
ثمن التوبة نعم التوبة تَجبُّ (تهدم) ما قبلها،
ونعم التائب من الذنب كمن لا ذنب له،
ونعم قد تكون حالة العبد بعد التوبة النصوح أفضل من حاله قبلها،
لكني سمعت عبارةً استوقفتني وهي "إنَّ للتوبة النصوحِ ثمنًا ينبغي دفعه (غالبًا)"، فقلت وهل للتوبة ثمن؟
بالنظر والتأمل في حال العباد مع الذنوب والمعاصي نلاحظ أنها تمر بأربع مراحل:
1- المكانة: وهي مكانة العبد عند الله وعند عباده قبل التلبس بالمعاصي، أي أنه يكون من السالمين في الغالب من تلك اللوثات.
2- المعصية: وهي وقوع العبد في بعض المعاصي، فإن تاب فقد وُفق وسرعان ما يرجع إلى مكانته، خاصة إن كانت فردية غير علنية.
3- الإصرار: وتعني إصرار العبد على المعصية وتعمقها في نفسه وتشربها وربما انتشار خبرها بين الناس أو المقربين.
4- التوبة: وهي التوبة النصوح وترك العبد تلك المعاصي والسعي في العودة إلى ما كان عليه قبل المعصية أو أفضل.
ثم يبقى السؤال: هل يرجع إلى مكانته عند الله وعند عباده إلى ما كان عليه دون تقديم أي تضحية، وهل الندم وترك المعاصي كافٍ لتحقيق المنزلة الأولى أم لابد من دفع ثمن للتأكد من صدق التوبة؟
سأذكر موقفين حدثا لصاحبيين جليلين، ومن خلالهما يمكن توضيح الصورة:
الأول: للثلاثة الذين خُلِّفوا عن غزوة تبوك(موجزها أنه في السنة التاسعة للهجرة دعا الرسول ﷺ المسلمين للخروج لقتال الروم دون أن يتخلف أحد إلا مَن كان معذورًا، وفعلا خرج الجميع عدا بعض المنافقين وثلاثة من الصحابة الكِرام، ومنهم كعب بن مالك فقد اعترفوا واعتذروا ثم أنزل الله توبته عليهم)، ولنأخذ مما ذكره كعب بن مالك- رضي الله عنه- ما يبين مقصدنا يقول:" وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الْأَرْضُ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً" هذا قبل نزول توبتهم، لقد تابوا وصدقوا في توبتهم وأمام النبي الكريم ﷺ، ومع ذلك لم يكن هذا كافيًا فكان جزء من الثمن النهي عن كلامهم حتى إشعارٍ آخر، ولنستمر مع كعب حيث يقول: "فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّأْمِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ فَإِذَا فِيهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا قلت وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْبَلَاءِ فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ."[1] وأظنك عرفت المغزى فقد اعتبر رسالة ملك غسان بلاء أي اختبار في صدق توبته، فقد أدرك بفطنته وحسن ايمانه أنه سيتعرض للابتلاء لإظهار صدق التوبة.
الثاني: موقف وحشي بن حرب قاتل حمزة -رضي الله عنهما-، حيث تاب وأسلم، والاسلام يجب ما قبله لكن دعونا نستمع لما قاله وحشي: " فَخَرَجْتُ معهُمْ (بعض أصحابه) حتَّى قَدِمْتُ علَى رَسولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: آنْتَ وَحْشِيٌّ؟ قُلتُ: نَعَمْ، قَالَ: أنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ؟ قُلتُ: قدْ كانَ مِنَ الأمْرِ ما بَلَغَكَ، قَالَ: فَهلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُغَيِّبَ وجْهَكَ عَنِّي؟ قَالَ: فَخَرَجْتُ."[2] نعم قَبِل الله توبته لكن كان جزء من ثمن توبته تغييب وجهه عن أفضل البرية، والتي تعني الكثير لكل مسلم فما بالك لصحابي.
ولعل هذا يفسر ما يتساءل عنه البعض بعد توبته: لماذا لم يقبلني البعض وقد تبت ويثقوا كما كنت، فالجواب أنه لا يكفي التوبة فقط لكي ترجع إلى مكانتك قبل التوبة عند الناس فالمسألة تتطلب وقتًا لإعادة الثقة وتغيير صورة ما كنت تمارسه من أخطاء، وقصة الراعي الذي نادى في القرية: جاء الذئب ليأكل غنمكم، صدقوه في المرة الأولى لأنه كان عندهم صادق – أو هكذا الأصل- لكنه حينما حدث الأمر حقيقة لم يصدقوه واعتبروها مُزحة كما في المرة السابقة فقد انطبعت صورته "كذّاب".
ولك أن تَضع ما شئت من صورٍ كثيرةٍ نراها ونعايشها والتي تعطيك بما لا يقبل الشك أن التوبة لها ثمن يُدفع من أجل الحصول على المكانة السابقة أو أفضل منها.
وليس الأمر مقتصرًا على الأفراد، بل حتى على المجتمعات -وربما على المجتمعات أشد-، فلا يكفي أن يعلن المجتمع توبته ليُحقق له المُراد، بل لابد من دفع الثمن، وإليك ذلك المشهد الرهيب:
قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 54].
ثمن قاسٍ جدًّا أن يقتل العبد نفسه أو يقتل أخاه، ولعلك لاحظت أن الآية قدَّمت "فتوبوا" على "فاقتلوا"، فلما كان ذنب بني إسرائيل عظيمًا جدًّا وهو عبادة العجل أثناء غياب موسى -عليه السلام – عنهم كان لا يكفي إعلان التوبة بل لابد من دفعِ ثمن، ومما يجب مراعاته هنا أن الله وصف تعلقهم بالعجل وتغلغل حُبِّه في قلوبهم بقوله: ﴿ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ..
﴾ [البقرة: 93]، فالتعبير جاء بالتشرب أي تمكن حب العجل مثل الشراب في البدن (والشراب لا يستغني عنه العبد وهو أهم من الأكل) وهو تشبيه بليغ لما وصل إليه حالهم، والقاعدة تقول أنه على مقدار المعصية يكون الثمن، وهو ثمنٌ باهض جدًّا، وفعلا حصل أن قتل بنو اسرائيل أنفسهم ثم ناجى موسى-عليه السلام- ربه وخشي عليهم الفناء فرفعها الله بعد قتل الآلاف منهم.
لعل هذه الأمثلة وغيرها تعطي تصورًا عما عناه صاحبنا بـ "ثمن التوبة"، ولو نظرنا إلى واقعنا وواقع العالم في القديم والحديث لأنكشف لنا أحد أسرار ما يحدث في المجتمعات من مصائب ونكبات لعله ثمن توبتهم، فمَن أخطأ عليه بتحمل نتيجة خطأه وعليه بتجرع المر فقد حاد عن الطريق وابتعد عن الرفيق، ولا تكفي التوبة فقط بل عليه دفع فاتورة التوبة النصوح غالبًا.
وربما هذا يجيب على تساؤل يطرحه العديد من الأحبة: لماذا يحدث ما نراه في مجتمعاتنا الاسلامية مع أنها عادت إلى ربها (في المجمل) وحالها أصبح من السابق؟
نعم ربما عادت، نعم ربما تابت، نعم ربما تغيرت إلى الأفضل، لكن لا تنسى فتره المعاصي والإصرار عليها من مختلف أنواع وأصناف المخالفات، لقد سكتت وصمتت وربما شاركت في فترة من الفترات، فكان لا يكفي أن تتوب بل ربما عليها دفع الثمن على مقدار الانحراف والانجراف.
وثمن التوبة هو الابتلاء لبيان صدق التوبة وإظهار حقيقتها للنفس وللمجتمع ليكون الجميع على بينةٍ من أمرهم، ومن لم يصبر على مر الدواء فلن يحصل على الشفاء، فكما كانت فترة الإصرار طويلة فكذلك فترة ثمن التوبة ربما تكون كبيرًا، وكما كان الابتعاد شديدًا كان ثمن التوبة عسيرًا، فالصبر بعد التوبة هو مفتاح الوصول إلى المكانة وليست التوبة وحدها (غالبًا).
قد يكون من السهل أن تترك ما أنت عليه من الأخطاء، لكن الأصعب هو مداومة السير على طريق الصواب والثبات عليه.
هذا رأيٌ في "ثمن التوبة" فما تقول أنت؟
[1] البخاري رقم 4418.
[2] البخاري رقم 4072.
التوبة وبة
المكانة
المعصية
الإصرار