وأد البنات عند العرب في الجاهلية
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
عوامله الصحيحة وموقف الإسلام منه
للدكتور علي عبد الواحد وافي
لم يكن نظام وأد البنات متبعا عند جميع العرب في الجاهلية، بل كان مقصورا على بعض عشائر من ربيعه، وكنده، وطي، وتميم. وكانت الطريقة السائدة في الوأد أن تحفر بجانب الموضع الذي اختير لولادة الأم حفرة عميقة، فإذا ظهر أن المولود أنثى، قذف بها حية عقب ولادتها مباشرة في هذه الحفرة، وهيل على جسمها التراب، وبعضهم كان يلجأ إلى وأد بناته في أمكنة خاصة بعيدة عن المنازل حتى لا يدنسها بجثثهن ورفاتهن.
وأشهر مكان كان يجرى فيه الوأد على هذه الطريقة هو جبل أبى دلامة وقد ظل هذا النظام متبعا عن العشائر السابق ذكرها حتى قبيل الإسلام، ثم ألقيت في نفوس كثير من العرب كراهته، وانكشفت لهم شروره، وظهر لهم تنافره مع سنن الطبيعة ونواميس العمران، فنهض كثير من سادتهم إلى محاربته إذ كانت النفوس مهيأة لما يدعون إليه، فلم يجيء الإسلام حتى كان هذا النظام على وشك الانقراض، وقد شن الإسلام على البقية الباقية منه حرباً شعواء انتهت بمحوه محواً تاماً، فلم نسمع بعد وفاة الرسول عليه السلام بأي حادث من هذا النوع، حتى بين العشائر التي بقيت على دينها القديم وقد اختلف الباحثون في العوامل التي حملت العشائر السابق ذكرها على اتباع هذا النظام الوحشي؛ وانقسموا بهذا الصدد إلى فريقين: فريق يعلله بالفقر، وآخر يتلمس أسبابه فيما جبل عليه العربي من شدة الحرص على صيانة عرضه، واتقاء ما عسى أن يصيبه بمكروه فأما الفريق الأول فيرى أن أسباب هذا النظام ترجع إلى الإملاق وعدم القدرة على تربية الأولاد؛ وان التبعة في هذا تقع على بيئة بلاد العرب وحالتهم الاقتصادية: فإجداب أرضهم وضالة دخلهم من مهنة الرعي التي كان يزاولها كثير منهم، واحتكار التجارة في يد أفراد من سراتهم، وحيات الشظف التي كانت تعانيها الدهماء، والمجاعات المتوالية التي كانت تنتابهم، وكثرة تنقلهم في طلب الكلأ لإنعامهم.
كل أولئك وما إليه جعل من الصعب على كثير منهم تربية أولادهم، واضطر القبائل السابق ذكرها على طريقة الوأد للتخلص من هذا العبء الثقيل ويرى هذا الفريق في قوله تعالى: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق.
. ما يزيد مذهبه تأييدا وهذا المذهب لا يتفق في شيء مع حقائق التأريخ ولا مع المنطق السليم.
فمن الثابت إن هذا النظام لم يكن معمولا به في الطبقات الفقيرة وحدها، بل كان عاما عند الفقراء والأغنياء في العشائر التي أخذت به.
وقد حدثنا التأريخ عن بعض من وأدوا بناتهم في العصر الجاهلي، وذكر من بينهم عددا كبيرا من سراة القوم وأغنيائهم، ومنهم عمر بن الخطاب نفسه.
هذا إلى أن في قصر الوأد في العشائر السابق ذكرها على البنات دون البنين، لدليلا على أن الدافع إليه شئ آخر غير الفقر؛ إذ لو كان الفقر هو الدافع إليه، للحق جميع الأولاد بدون تمييز بين الذكور والإناث.
ويزيدنا إقناعا بفساد هذا المذهب أنه لم يرد مطلقا ذكر الفقر في أي آية من الآيات التي نزلت في وأد البنات.
أما الآيات التي ورد فيها قتل الأولاد مقرونا بخشية الإملاق، والتي يزعم أصحاب هذا المذهب أنها تؤيد وجهة نظرهم فهي لا تتحدث عن النظام الذي نحن بصدده، بل تتحدث عن نظام آخر كان متبعا عند بعض عشائر العرب، وهو قتل الأولاد على الإطلاق بدون تمييز بين ذكورهم وإناثهم، تحت تأثير الفقر وعدم القدرة على تربيتهم ويذهب الفريق الأخر من الباحثين إلى أن أسباب هذا النظام ترجع إلى مبالغة بعض العشائر العربية في الحرص على صيانة أعراضها واتقاء ما يحتمل أن يصيبها بمكروه.
فكان الواحد منهم يخشى، أن هو أبقى على بنته، أن تجر عليه وعلى عشيرته عاراً في المستقبل، إذا وقعت سبيه في يد الأعداء واستباحوا عرضها أو زلت في حياتها وقدر لها السقوط.
ويروى أنصار هذا المذهب قصة يدعون أن حوادثها كانت السبب الأول في توجته العشائر السابقة هذا الاتجاه.
وخلاصة هذه القصة أن عظيماً من عظماء العرب يدعى قيس بن عاصم قد سبيت بنته في غارة شنتها عشيرة معادية على عشيرته، ثم عقد بين العشيرتين صلح كان من شروطه أن ترد السبايا مقابل فدية مالية.
غير أن ابنة قيس هذا كانت قد شغفت حباً بمن وقعت في يده، فآثرت البقاء عنده، ولم تقبل الرجوع إلى أبيه وعشيرتها.
فآلى أبوها على نفسه ليئدن كل بنت تولد له، وسارت عشيرته على سنته، واقتدى بها بعض العشائر الأخرى وهذا الرأي لا يقل فسادا عن الرأي الأول.
فالقصة التي يستند إليها تبدو عليها علامات الاختلاق وإمارات الأساطير.
هذا، إلى أن ما تقرره يتعارض مع النواميس التي تخضع لها الظواهر الاجتماعية في نشأتها وتطورها.
فعهدنا بهذه الظواهر أنها لا تنشأ من حادث فردي، بل تنبعث من العقل الجمعي، وترتكز إلى اتجاهات المجتمع وعقائده ونظمه العامة.
على أن قيساً هذا شهد الإسلام ومات حوالي السنة العاشرة بعد الهجرة.
فلا يعقل أن يكون هو الذي قد سن نظام الوأد عقب حادث حدث لبنت كبيرة له.
إذ يترتب على ذلك أن نظام الوأد لم يظهر إلا قبيل الإسلام ببضع سنين؛ مع أنه من الثابت أنه سابق لبعثة الرسول بعهد طويل، وأنه كان على وشك الانقراض قبيل الإسلام؛ وفضلا عن هذا وذاك، فإنه لم يرد في أي آية من الآيات الخاصة بالوأد إشارة ما لسبب من هذا القبيل.
ولو كان هذا السبب هو الباعث الحقيقي على الوأد، لعني القرآن بإظهاره وتقبيحه وبيان ما ينطوي عليه من سخف وانحراف عن التفكير السليم.
وقد رأيت، بعد أن تبين لي فساد هذين المذهبين، أن خير طريق للوقوف على أسباب هذا النظام هو الرجوع إلى الآيات القرآنية التي نزلت بصدده، وربطها بما يتصل بها، والتأمل فيما عسى أن تتضمنه من إشارة ظاهرة أو خفية إلى العوامل التي دفعت إليه.
وقد هداني ذلك إلى النظرية التي أعرضها فيما يلي: كانت طائفة من عشائر العرب تلجأ إلى قتل أولادها تحت تأثير الفقر ورغبة في التخلص من تكاليف تربيتهم.
وهذه الطائفة ما كانت تفرق بين ذكور الأولاد وإناثهم.
وهذا هو ما تشير إليه الآية الواحدة والثلاثون من سورة الإسراء: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا)، والآية الواحدة والخمسون بعد المائة من سورة الأنعام: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم.
الآية) وغني عن البيان أن هذا نظام آخر غير النظام الذي نحن بصدد الكلام عنه وكانت طائفة أخرى من العشائر العربية تئد البنات من أولادها على النحو الذي شرحناه في صدد هذا المقال.
ولم تكن تفعل ذلك خشية الفقر أو العار كما يزعم أصحاب المذهبين السابقين، بل كانت تفعله بدافع ديني بحت.
وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن البنات رجس من خلق الشيطان أو من خلق إله غير آلهتهم؛ وأن مخلوقا هذا شأنه ينبغي التخلص منه.
وأصل عقائدهم هذه أنهم كانوا يقسمون ما تخرجه الأرض وما تنتجه الأنعام قسمين: قسم ينسبونه لآلهتهم (اللات، العزى، مناة.
الخ) ويعدونه من خلقها، وهو قسم طاهر زكي؛ وقسم ينسبونه لله تعالى يعدونه من خلقه، وهو قسم كانوا يعتقدون أنه مدنس بالرجس، فكانوا يحرمونه على أنفسهم، أو يرون أن واجبهم الديني يقتضيهم التخلص منه أو تقديمه قرباناً لآلهتهم، وما زين لهم اعتقاده بصدد نتاج الحرث والأنعام زين لهم اعتقاد مثله بصدد نتاج الإنسان، فقسموا ما يولد للإنسان قسمين: قسم طاهر زكي من خلق آلهتهم وهو جنس الذكور، وقسم من الله وهو نوع الإناث، وهو قسم مدنس بالرجس كانوا يحرمون بقاءه ويرون أن واجبهم الديني يقتضيهم التخلص منه ومن أجل ذلك كانوا يتقون ذبحهن ويؤثرون وأدهن عقب ولادتهن مباشرة حتى لا تنتشر دماؤهن فتنتشر معها ما تحمله من نجس ورجس. بل كان بعضهن يبالغ في هذا التحرج فيئدهن بعيداً عن المنازل كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ولم يقف أمر اعتقادهم هذا عند حدود العالم الطبيعي: عالم النبات والحيوان والإنسان، بل جاوزوه إلى عالم السماء.
فكانوا ينسبون لله تعالى من هذا العالم كل ما يعتقدون أنه من نوع الإناث، ومن أجل ذلك نسبوا إليه الملائكة لاعتقادهم أنهم من هذا النوع وإليك جميع الآيات التي عرضت لوأد البنات، وسيتبين لك من التأمل فيها وربطها بعضها ببعض صحة ما ذهبنا إليه 1 - (ويجعلون لما لا يعلمون (أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد.
اهـ بيضاوي) نصيباً مما رزقناهم (من الزروع والأنعام اهـ البيضاوي) تالله لتسألن عما كنتم تفترون.
ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم (أي لآلهتهم) ما يشتهون (يعني البنين) وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم.
يتوارى من القوم من سوء ما بشر به.
أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يحكمون) (النحل 56 - 59) فالآية الأولى تقرر عقائدهم في نتاج الحرث والأنعام ونسبة بعضه لآلهتهم.
والآية الثانية تقرر عقائدهم في نتاج الإنسان ونسبة الذكور لآلهتهم وجنس الإناث لله.
والآية الثالثة تصف ما كان يفعله أحدهم إذ بشر بالأنثى.
وغني عن البيان أن في مجيء الآية الثالثة عقب الثانية مباشرة لدليلا على أن ما كانوا يسلكونه حيال البنات من وأدهن وإمساكهن على هون كان مترتبا على نسبتهم الإناث إلى الله تعالى، فبدون هذا التفسير يكون المعنى الذي تقرره الآية الثالثة مجرد استطراد لا تربطه بالحقائق التي تقررها الآيات السابقة أية رابطة منطقية وهذا ينبغي أن ننزه كلام الله عنه 2 - (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا (أي لآلهتهم) فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو لا يصل إلى شركائهم (عن طريق تقديمه قرباناً مثلاً)، ساء ما يحكمون.
وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم، ولو شاء الله ما فعلوه، فذرهم وما يفترون.
قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله، قد ضلوا وما كانوا مهتدين) (سورة الأنعام 136 - 140) فالآية الأولى تقرر ما كانوا يعتقدونه بصدد ما ينتج من الحرث والأنعام وقسمتهم هذا النتاج بين آلهتهم وبين الله تعالى على النحو الذي شرحناه.
والآية الثانية تقرر أن قتلهم أولادهم كان مبنيا على نفس الأساس الديني الذي بني عليه تقسيمهم السابق، كما يستفاد ذلك من عطف هذه الآية على ما قبلها، ومن تصديرها بقوله (وكذلك) ومن نسبة تزيين هذا الفعل إلى الشركاء (وكذل زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم)، ومن قوله (ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم). ويستفاد من الآية الثالثة أن الذين كانوا يقتلون أولادهم على هذه الطريقة هم الذين كانوا يحرمون بعض منتجات الحرث والأنعام، وأن الباعث لهم على الأمرين عقيدة واحدة، والمقصود من الأولاد في هذه الآيات البنات وحدهن، كما أشار إلى ذلك كثير من المفسرين وكما يدل عليه السياق 3 - (وجعلوا له من عباده جزءا (وهو الإناث) إن الإنسان لكفور مبين.
أم أتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين.
وإذا بشر أحدهم بما ضرب الرحمن مثلاً (أي بالجنس الذي نسبه لله) ظل وجهه مسودا وهو كظيم.
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، أشهدوا خلقهم؟! ستكتب شهادتهم ويسألون) (الزخرف 15 - 19) ولست في حاجة إلى أي تعليق على هذه الآيات، فهي صريحة في المعنى الذي قررناه، وخاصة إذا ربطت بالآيات السابقة 4 - (أفرأيتم اللات والعزى ومنآة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى.
تلك إذن قسمة ضيزى.
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى، ومالهم به من علم إن يتبعون إلا الظن.
الآية) (النجم 19 - 27) 5 - ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً محصوراً.
أفأصفاكم ربكم البنين واتخذ من الملائكة إناثاً إنكم لتقولون قولاً عظيماً) (الإسراء 39 - 40) 6 - (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون؟! أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون؟! ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله، وإنهم لكاذبون.
أصطفى البنات على البنين؟! مالكم كيف تحكمون؟!.
) (الصافات 149 - 154) علي عبد الواحد وافي ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السوربون