حول التعليم الالزامي
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
جنود مجهولون. في ميدان الجهاد الثقافي مجهولون لا يشكرهم شاكر، ولا يكاد يذكرهم ذاكر: أولئك هم فرق الأساس الذين يمهدون الأرض للدفاع، ويُعدون الجيش للعمل، ويهيئون الشعب للنهوض.
وهم الذين يعيشون على عشرات القروش وينفقون من ومضات أرواحهم ونبضات قلوبهم وذخائر قواهم، مايضمن للقادة يوم النصر أكاليل الغار وألقاب الفخار وأكياس الذهب.
فإذا فشلت الخطط وطاشت المعارك ربأ الناس بالقادة عن التهم، ورموا هؤلاء المجهودين المجحودين بنقص الكفاية وسوء الدُّرية. هؤلاء الجنود المجهولون هم المعلمون الإلزاميون! كتب الله عليهم جهاد الأمية ونشر المعرفة بين الطبقات الفقيرة بالقدر الذي يساعد الإنسان على استكمال حظه من العلم الضروري، فأبلى هؤلاء الجنود الصابرون أحسن البلاء في معركة الأمية خمسة عشر عاماً؛ ثم أسفر هذا العراك الطويل الثقيل عن بقاء هذه الأمية منيعة الحصون شديدة البأس؛ كأنما كانت رحا هذه الحرب تدور على فراغ!. دهش الكتاب والنواب لهذه النتيجة الموئسة، وراحوا كدأيهم يلتمسون العلل في إداد المعلم الإلزامي وكفايته وخبرته، ولو هداهم النظر الصادق لالتمسوها في فساد الخطط وسوء التوجيه واضطراب النظام وانبهام الغرض. ما ذنب المعلم إذا أخفق نظام لم يضعه، ومنهاج لم يَشْرَعه، وكتاب لم يؤلفه؟ هل هو إلا جندي كسائر الجنود يكون أداة للنصر أو للهزيمة على حسب ما يصدر عن القيادة من حكمة أو أفن؟. لقد فشل التعليم الثانوي فشلاً تضرب به الأمثال للعبرة؛ فهل يجوز في منطق العقل أن تخرج من حسابه الخبراء والمراقبين والمفتشين واللجان والتقارير والتجارب؛ ثم نحصر علته في المعلمين وهم من حيث الخبرة والمران بنجوة عن الشك؟. نحن لا نزعم أن المعلمين منزهون عن صفة النقص، ولا مبرأون من تبعة الفشل، فإنهم ناس كسائر الناس، فيهم الضعيف بفطرته والقاصر في أداته؛ ولكنا نزعم أن نصيبهم من إخفاق التعليم أقل الأنصبة، وأن حظ الإلزاميين من هذا النصيب أضعف الحظوظ. جاز لنا أن نوازن بين طوائف المعلمين في الاستعداد والاجتهاد لجاء الإلزاميون في أصحاب الكفة الراجحة؛ ذلك لأنهم بحكم تنشئتهم وإعدادهم يشعرون بالضعف والتخلف، فهم لا ينفكون يستفيدون ويستزيدون ما أمكنتهم الوسيلة والقدرة.
ومن النادر أن تجد معلماً إلزامياً لا يقتني الكتاب المفيد ولا يشترك في المجلة النافعة.
وأشهد أن ثمانين في المائة منهم مشتركون في ((الرسالة))، وإنهم ليقتطعون بدل اشتراكها من قوتهم النزرْ؛ ولكنك تجد الكثرة الكاثرة من حملة الشهادات والمذبات من المعلمين الثانويين والجامعيين لا يقرأون غير الكتب المقررة وما يتصل بها من قريب، ثم لا يجدون في أنفسهم حاجة إلى مطالعة كتاب أو قراءة مجلة. المعلم الإلزامي والطالب الأزهري هما الشعاع المنبعث من نور الدين والعلم إلى القرية، ولولاهما لتدجى على القرى ظلام من الضلال والجهل لا يمتد فيه بصر ولا بصيرة.
ذلك لأنهما يمايشان سواد الشعب وعامته من الزراع والصناع، فيوقظان فيهم العقل، ويحييان الضمير، ويعقدان الصلة الاجتماعية بين حياة المدينة وحياة القرية.
ولو كان للتوفيق كرسي في الحكومة لاتخذوا من التعليم الإلزامي وحدة ثقافية تبرئ الفلاحين أطفالاً ورجالاً من الجهالة والمرض.
كان من الممكن أن تعتمد وزارة المعارف على المعلمين الإلزاميين في تعليم الأطفال بالنهار، وأن تعتمد وزارة الشؤون الاجتماعية عليهم في تعليم الرجال بالليل؛ وإذن لا تنقضي بضعة أعوام حتى لاتجد في بلد الأميين والحفاة مَنْ ليس في يده كتاب ولا في رجله نعل.
ولكن وزارة المعارف وضعت المعلم الإلزامي تحت الدرجة الأولى من السلم ثم نظرت إلى أعلى وتركته يكابد العمل الكثير بالأجر القليل: فهو يعطي ثمانية وأربعين درساً في الأسبوع، ويأخذ أربعة جنيهات أو خمسة في الشهر؛ وهو مع ذلك موضع البركة في تبكير الزواج وتكثير النسل، وعبدُ الثقافة بنشدان المعرفة وإدمان القراءة.
فبالله ربك كيف يحسن عمله هذا البائس ونهاره مكدودٌ بعمل المدرسة وليله مجهودٌ بهم البيت؟ وكيف يقضي حياته هذا المسكين ومظهره مظهر الأمير وعمله عمل الأسير وأجره أجر الخادم؟ على أن أعجب ما في الأمر أن يؤدي عمله كاملاً على الوجه الذي رسم له، ويقضي حياته كريمة على النحو الذي يليق به، ويكمل نفسه بالاطلاع والدرس حتى نبه من أفراده كثيرون في التعليم والصحافة والآداب!. ذلك ما صنعت به وزارة المعارف أو وزارة الداخلية لا أدري؛ أما وزارة الشؤون الاجتماعية فلا تزال في ظلام الحيرة تتحسس بيديها المعوقتين طريق الإصلاح.
ولقد دللناها في بضع مقالات كتبناها، على طريق الاستفادة من المعلم الإلزامي في محاربة الجهالة، فأبت إلا أن تحارب الأمية بنفسها فأصدرت مجل، وأن تصلح فساد المجتمع برأيها فحشدت الأطفال المتشردين في مزارع (السرو) الأميرية، ثم سلطت عليهم قسوة الجند وشدة النظام فاستفحل في نفوسهم الشر، وعصف في رؤوسهم التمرد، وتسللوا لواذاً في البلاد، حتى لم يبق من الأطفال الأربعمائة إلا أربعون يكلفون الحكومة من الجهد والنفقة مالا رادّة فيه ولا عوض منه. كنا نود أن نجيل رأي في مشكلة التعليم الإلزامي ليستضيء أولو الأمر بخبرة المحنكين من الكتاب، ولكنا نعتقد أن الرأي في هذا الموضوع لا يصيب إلا إذا كان التعليم في مختلف درجاته وغاياته سياسة واضحة تنفذ، ونظام مستقر يتَّبع.
فبحسبنا اليوم أن تعطف وزارة المعارف على هؤلاء الجنود المجهولين الذين عملوا وأحسنوا؛ وإنهم ليستطيعون أن يزيدونا عملاً وإحساناً، إذا أولاهم معالي الوزير جزاء وشكراناً. ((المنصورة)) احمد حسن الزيات