نصيحة لله (4/4)
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
نصيحة لله (4/4)وأما النصيحة لأئمة المسلمين، فيفصلها المحدث الفقيه العلامة أبو عمرو بن الصلاح بقوله: "معاونتُهم على الحق، وطاعتُهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم في رفق ولطف، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق، وحث الأغيار على ذلك"[1].
وأما العلَّامة ابن العثيمين فيعرفها مبينًا خطَر تركِها، وحكمتَها، ومشروعيتَها من نصوص الشريعة فيقول: "وأما النصيحة لأئمة المسلمين فهي صدق الولاء لهم، وإرشادهم لما فيه خير الأمة في دينها ودنياها، ومساعدتهم في إقامة ذلك، والسمع والطاعة لأوامرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، واعتقاد أنهم أئمة متبوعون فيما أمروا به؛ لأن ضد ذلك هو الغش والعناد لأوامرهم، والتفرق والفوضى التي لا نهاية لها، فإنه لو جاز لكل واحد أن يركب رأسه، وأن يعتز برأيه، ويعتقد أنه هو المسدد الصواب، وهو المحنك الذي لا يدانيه أحد لزم من ذلك الفوضى والتفرق والتشتت؛ ولذلك جاءت النصوص القرآنية والسُّنَّة النبوية بالأمر بطاعة ولاة الأمور؛ لأن ذلك من النصيحة لهم التي بها تمام الدين، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء:59]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبَّ وكَرِهَ ما لم يُؤمر بمعصية))، وقال: ((مَن خَلَع يدًا من الطاعة لَقِيَ اللهَ يومَ القيامة لا حجَّة له))، وقال: ((اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبدٌ حبشي))، وقال عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: ((بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه مِن الله برهان))"[2].
ولقد ضرب لنا الصحابة - رضي الله عنهم - المثل الأعلى في النصح لولاة الأمر، كما ضرب أولياء الأمور في تلك الفترة الفاضلة المباركة المثل الأفضل في الإنصات للناصحين، والعمل بمقتضى نصحهم في تواضع مثير للإعجاب ما دامت النصيحة تخدم الإسلام والمسلمين، حتى وإن كانت على ملأ، وحتى إن كانت من امرأة أو غلام لم يبلغ الحلم بعد، ويكفي في هذا المقام أن نورد المثالين التاليين، ففيهما بيان لما أشرنا إليه:
أما الأول: فما ذكره القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 20]، حيث جاء فيه:
وخطب عمر - رضي الله عنه - فقال: ألا لا تغالوا في صَدُقات النساء؛ فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما أَصْدَقَ قط امرأةً مِن نسائه ولا بناتِه فوق اثنتي عشرة أوقية.
فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا! أليس الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ﴾ [النساء: 20].
فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر.
وفي رواية: فأطرق عمر ثم قال: كل الناس أفقهُ منك يا عمر![3].
وفي هذا النموذج الرائع من الإيحاءات والدلالات والمعاني ما يدل على ما أردنا بيانه وزيادة لمن تأمل وتدبر.
وأما النصيحة لعامَّة المسلمين - وهي المجال الأرحب للنفع وممارسة هذا الواجب والشعيرة باعتبارها لا ركنًا من أركان الدين بل هي الدين نفسه - فقد تعدَّدَت النصوص النبوية التي تحض عليها، ومنها على سبيل المثال: ما ورد في الصحيحين، عن جرير بن عبد الله قال: بايعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - على إقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزكاة، والنصح لكلِّ مسلم.
وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((حقُّ المؤمن على المؤمن ستٌّ))، فذكر منها: ((وإذا استنصحك فانصَحْ له)).
وفي تعدد النصوص ما لا يخفَى من أهمية النصح وجليل أثره في حياة المسلم والأُمة كلها.
ويعرِّفها الفقيه العلَّامة ابن الصلاح بقوله: إرشادُهم إلى مصالحهم، وتعليمُهم أمور دينهم ودنياهم، وسترُ عوراتهم، وسدُّ خلَّاتهم، ونصرتُهم على أعدائهم، والذَّبُّ عنهم، ومجانبةُ الغش والحسد لهم، وأنْ يحبَّ لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه[4].
وأما العلَّامة ابن العثيمين فيعرِّفها بقوله: وأما النصيحة لعامة المسلمين فهي أن تحب لهم ما تحب لنفسك، وأن تفتح لهم أبواب الخير، وتحثهم عليها، وتغلق دونهم أبواب الشر، وتحذرهم منها، وأن تبادل المؤمنين المودة والإخاء، وأن تنشر مَحاسنهم، وتستر مَساوئهم، وتنصر ظالمَهم ومظلومَهم؛ تنصر ظالمهم بمنعه من الظلم، وتنصر مظلومهم بدفع الظلم عنه.
والملاحظ على هذه التعريفات اتفاق المعنى، مع تنوع العبارات الدالة عليه، ما يشير إلى أنها تعود في كلٍّ إلى التعريف الأول الذي ذكرناه من قبل، وهو الأسهل حفظًا وتذكرًا، بأنها: إرادة الخير للمنصوح قولًا وعملًا في دينه، أو دنياه، أو كليهما.
ولقد نضحت حياة السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين بفيض زاخر من هذا النوع من النصح، الذي يمثل نوعًا من الالتزام الشرعي والأخلاقي والتوعوي، ومظهرًا من مظاهر الحب والإخاء والتآزر، بما يؤدي إلى تحسين دائم في حياة الأمة المسلمة ومسيرة الحضارة الإنسانية.
ونكتفي بذكر ثلاثة أمثلة توضح كيف تفاعَل السلف مع هذا النوع من النصح، وأظهروا فيه من العجائب ما يملأ القلوب إحساسًا بفضلهم، والعقول إدراكًا لمواطن عظمتهم، والحضارة فخرًا بحسن صنيعهم، وهذه الأمثلة هي:
1- نصح سهيل بن عمرو – وهو الذي عقد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلح الحديبية حين كان يومئذ من صناديد الكفر والباطل - لأهل مكة حين ارتدَّت قبائل العرب عن الإسلام بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: فقد أراد أهل مكة أن يرتدوا مع مَن ارتد من العرب، فقام سهيل- وكان قد أسلم وحسُن إسلامُه - خطيبًا في أهل مكة مُعرِّضًا نفسه للقتل والإيذاء، وكان مما قاله لهم: "يا أهل مكة، لا تكونوا آخر مَن أسلم وأول مَن ارتد"[5].
فإذا بكلماته المخلصة، ونصيحته المتجردة تثبِّت الناس على الإسلام، فلم يغيروا، ولم يبدلوا، وتبقى مكة أرضًا لا يخالطها الكفر بعد إذ نجاها الله منه، واستطاع سهيل بنصحه أن ينجو بأهل مكة ويقيهم من سوء عاقبة الردة في الدنيا، وحفظ أرض الحرم من أن تسفك فيها دماءٌ كان هو أدرى الناس بحرص النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها سواء في صلح الحديبية، أو في فتح مكة، فإن أبا بكر والمسلمين في المدينة حين علموا بما فعله سهيل، حمدوا الله أن كفاهم قتال أهل مكة، وشكروا لسهيل مقالته وحُسْن صنيعه، وكرسوا جهودهم لإعادة بقية جزيرة العرب إلى حظيرة الإسلام.
2- نصح عثمان بن عفان - رضي الله عنه - للمسلمين في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتي جاء ذكرُ بعضها في الحديث التالي:
عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ حَزْنٍ الْقُشَيْرِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ الدَّارَ حِينَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِصَاحِبَيْكُمْ اللَّذَيْنِ أَلَّبَاكُمْ عَلَيَّ.
قَالَ: فَجِيءَ بِهِمَا فَكَأَنَّهُمَا جَمَلانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا حِمَارَانِ، قَالَ: فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَالإِسْلامِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ غَيْرَ بِئْرِ رُومَةَ، فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَجْعَلَ دَلْوَهُ مَعَ دِلاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ.
فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي، فَأَنْتُمْ الْيَوْمَ تَمْنَعُونِي أَنْ أَشْرَبَ حَتَّى أَشْرَبَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ.
قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَالإِسْلامِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَسْجِدَ ضَاقَ بِأَهْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ يَشْتَرِي بُقْعَةَ آلِ فُلانٍ فَيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ.
فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي فَأَنْتُمْ الْيَوْمَ تَمْنَعُونِي أَنْ أُصَلِّيَ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ.
قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَالإِسْلامِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنِّي جَهَّزْتُ جَيْشَ الْعُسْرَةِ مِنْ مَالِي.
قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ...[رواه الترمذي].
فالله الله ما أعظم نصحك للمسلمين يا عثمان، ولله درُّك مِن ناصح يا ذا النورين.
3- أما المثال الثالث، فما أُثر عن الإمام الشافعي رضي الله عنه - الذي اشتهر بقوة حجَّته، وكانت تُعقد له المناظرات العلمية مع علماء عصره الذين يخالفونه الرأي، فيثبت صحة رأيه - مِن أنه كان يقول: "ما ناظرتُ أحدًا إلا أحببتُ أن يظهر الحقُّ على لسانه".
وفي رواية: "والله ما ناظرتُ أحدًا فأحببتُ أن يُخطئ"[6].
فانظر كيف كان نصحُه لِمُعارضيه ولِمَن يشهدون المناظرة مِن المسلمين، فإنه لم يكن همُّه أن يُقال: أصاب الشافعي، أو فاز الشافعي على مُعارضيه.
وإنما كان أحبَّ شيء إليه أن يصِل الناس إلى الحق والصواب، حرصًا على مصلحة المسلمين وسلامة دينِهم، حتى ولو على لسان خصومه ومعارضيه في الرأي والفكر.
وأحسب أن الإسلام هيَّأ بهذا الحديث - حديث النصيحة - الأذهانَ أن تجتهد في بذل النصح في كل لحظة من الحياة، ما يعني إيجابية الشخصية المسلمة على كل مستوى، وبما يؤدِّي إلى قيام النصيحة بدورها في تهذيب الفرد وارتقائه وإتقانه، وكذا المجتمع والأمَّة كلها، وما يُثمر نهضةً روحيةً ومادِّيَّة نُعيد بها إلى الأمَّة سعادتَها ومجدَها، ويكُون سببًا مِن أسباب نجاتها وفلاحها.
[1] نقلًا عن جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، شرح الحديث السابع.
[2] انظر:http://www.alukah.net/articles/1/735.aspx.
[3] تفسير القرطبي، للإمام القرطبي، موسوعة المكتبة الشاملة.
[4] نقلًا عن جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، شرح الحديث السابع.
[5] أسد الغابة، لابن الأثير، موسوعة المكتبة الشاملة.
[6] تاريخ دمشق، لابن عساكر، موسوعة المكتبة الشاملة.