int(1918) array(0) { }

أرشيف المقالات

الوجود السلفي في عصر التكتلات العالمية الضخمة (1)

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
الوجود السلفي في عصر التكتلات العالمية الضخمة (1)
 
إن التجمّعات والجماعات السلفية كثيرةٌ في كلّ مكان اليوم في العالم تقريبًا، حتى البلاد الغربية غير المسلمة ينتشر في مسلميها، أو لعلّه يغلب على المنتسبين للدعوة الإسلامية فيها المنهج السلفي.
 
بحيث يمكن القول إن السلفيين - بالمفهوم الواسع للسلفية، الذي لا يقتصر على منهج طائفة معينة، بل على اختلاف الطرائق والمناهج - هم التيار الأكثر انتشارًا وسعةً في البلاد والعباد، وهذا من عاجل البشرى للأمة، أن ترجع مرة أخرى لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وصدرِ الأمة الأوّل رحمهم الله.
 
نعم، هناك تيارات كثيرة تنسب إلى الحركة الإسلامية، لكنها ليست بحجم وقدرة التيارات السلفية، ولا شكّ أن هذا الظهور – ظهور المنهج والتنظير له والانتساب إليه - للسلفية في الأمة ثانية، كان نتاجَ عمل طويل لأقوام من العلماء والدعاة والمجاهدين.
 
ويمكن القول: إن أولّ الفضل في بزوغ السلفية في الأمة ثانية كان للإمام المجدّد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، نعم...
لم تخل الأمة في زمان أو مكان من سلفيين على منهج الأجيال الأولى، لكن الحديث هنا عن الصحوة السلفية الكبيرة التي عمّت الأمة وآتت ثمارها الدعوة الآن، تلك الصحوة التي ما زالت تنضج وتكبر.
 
ثم توالت الجهود العلمية لإحياء التراث والمنهج السلفي، كما بدأت الدعوات السلفية تمارس عملها الإصلاحي حتى آلت لما نعرفه جميعًا اليوم، من إيجابيات كانت ثمرة الفهم والعمل الصحيحين، وسلبيات كانت ثمرة سوء الفهم أو العمل.
 
تبع ذلك اختلاف الوجهات الدعوية والمناهج الإصلاحية عند المنتسبين للدعوة السلفية، حتى كثر الخلاف، وحصل أنواع من التفرُّق والتشرذم، كان نتاج عوامل كثيرة، أذكر منها على سبيل الإجمال ما وفقّت إليه:
• عدم التوحُّد على قيادة واحدة، بحيث تختلف الرايات الدعوية وإن انتسبت جميعًا لمنهج السلف، فيختلف العمل على اختلاف وجهات أصحاب الدعوات، ثم تحصل المفارقة بين تلك الدعوات، نظرًا لعدم اتفاقهم التنظيري والعملي.
 
• الاختلاف في فهم الواقع الدعوي، فما تراه طائفة من أنه الواجب الدعوي، يرى غيرُها أن الواجب خلاف رؤية الأولين، وهكذا.
 
• اختلاف المناطات الدعوية من مكان لآخر، فكلّ مكان يمكن أن يكون له دعوته الخاصة التي لا تصلح طريقتها وأسلوبها لغيره من الأماكن، أو تكون إمكانيات الدعوة في المكان المعيّن أكبر أو أصغر منها في مكان آخر، فيحصل ظاهر الاختلاف بين المكانين، ولا يفرق الأتباع بين مرونة الوسائل وآحادية الغايات والمنطلقات، فيقع الاختلاف بسبب هذا التفريق الذي لم يحسب له حسابه.
 
• الميل إلى الدنيا، بحيث يقع التحاسد والتباغض والبغي بين عمّال الله تعالى، وهي أمراض نفوس تحركها الأهواء، فيقع الاختلاف والبغي، يقول ربّنا تبارك وتعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213].
 
• الكيد بالدعوة وأصحابها، بحيث يعمل أناس من خلف الأسوار للنيل من الدعوة ببث الخلاف وإذاعته، والوقيعة بين الدعاة، وتكبير مشكلاتهم، بل والافتراء عليهم والتحديث عنهم بما لم يقولوا لأغراض إفسادية.
 
• سفه الأتباع، تتأجج نار الاختلاف بين الدعاة وأصحاب المناهج كثيرًا نتاج القيل والقال الذي نهى الله تعالى عنه، وهي عادة تناقل الأتباع للأحاديث بلا دراية كافية، وبلا ورع في النقل، فتقع الشحناء بين الدعاة والعلماء، وتقع الفرقة على إثر ذلك، ولو سكت هؤلاء السفهاء من الأتباع لما وقعت فتن كثيرة نشاهدها اليوم.
 
• ضعف التربية، أي على معاني القلوب الواجبة: مثل الصبر على أذى المخالف، وعلى الآداب الشرعية اللازمة: مثل رفض قَبولِ شهادةِ وحديث النمام الفاسق، وعلى المنهج الفكري الشامل: مثل فهم الخلاف وأنواعه وسبل التعامل معه، وغير ذلك من معاني التربية الشاملة لمناحي العلم والعمل.
 
• ترك التعاون الدعوي، فالتعاون الدعوي يفضي للوفاق وجمع الكلمة، وضياعه مؤذِن بالتشتت والتشرذم، فعن أبي ثعلبة الخشني قال: كان الناس إذا نزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منزلاً فعسكر تفرقوا عنه في الشعاب والأودية، فقام فيهم فقال: (إنما تفرقكم في الشعاب والأودية من الشيطان)، قال: فكانوا بعد ذلك إذا نزلوا انضم بعضُهم إلى بعض حتى إنك لتقول: لو بسطت عليهم كساء لعمّهم.
[أخرجه أحمد والنسائي وغيرهما، وصححه الألباني في صحيح الجامع]، فكل تفرق يقع إنما يقع من الشيطان، ولهذا لا يطيق كثيرٌ من الناس الصبر على هذه الجماعة.
 
تلك العوامل - ولعلّه يوجد غيرها- كانت وراء التفرُّق الكبير لأصحاب الدعوات السلفية، حتى اشتهر بيننا أن السلفية أصبحت اليوم سلفياتٍ متعددة، ربما لم تخرج واحدةٌ منها –من جهة الجانب التنظيري العلمي- عن أصول منهج السلف، لكن حتمًا أخطأ عدد منها في جانب التطبيق العملي، ومحاكاة المنهج الأول، فخالفوا منهج السلف من حيث العمل، ويرجع هذا لسببين رئيسين:
الأول: سوء فهم الواقع الدعوي، الذي ينتج عنه التوصيف الخاطئ في كلّ مجالات المحيط الدعوي أولا، ثم تنزيل الأحكام في غير منزلتها الصحيحة ثانية.
الثاني: الخلط بين الوسائل الدعوية، وبين الغايات الشرعية، مما أسفر عن انشغال طوائف من السلفيين بمسائل من الوسائل المرنة، أي التي لم يتعرض لها الشارع بتفصيل، بل حفّها بقواعد عامة كي تصلح لكلّ زمان ومكان، ثم أُنزلت تلك المسائل منزلة الغايات والأصول، وعقد عليها الولاء والبراء.
 
وأصلُ هذه الأخطاء المُفرِّقة بين أبناء الدعوة..
ضعفُ الشعور بالحاجة إلى التجمّع الواحد، ولو كان مجرد التجمع الرُّوحي، الذي يحسّ فيه المؤمنُ أنه ينتمي لألوف من الأمة يشاطرونه الإيمان الجازم بحتمية ظهور المنهج الإسلامي في الحياة مرة أخرى، في صورته وشكله الأول الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم وتبعه صحابته رضي الله عنهم كجماعة قائمة غيّر الله تعالى بها وجهَ الأرض أجمع.
 
فإذا تحققت في قلوب الدعاة وأصحاب الدعوات تلك الحاجةُ للتجمّع تغلّبت الدعوةُ على كثير من أسباب تفرُّق أصحابها.
 
وكان التجمّع من أجل الثبات ومنابذة القوى المختلفة..
أصلاً اعتمده المشركون قديمًا، عندما تحالفت اليهود مع مشركي مكة، ومع منافقي المدينة، وعالجوا كلّ الصعاب في نفوسهم ومجتمعهم من أجل التجمّع في وجه الحقّ المتمثل في الإسلام وأهله.
 
وكذلك كانت تقع عبر التاريخ في كلّ حقباته تحالفات بين عناصر وقوى وجنسيات وقوميات وألوان مختلفة من أجل ما يسمّى اليوم بـ"الأهداف المشتركة"، كما كان كثيرًا يراد بتلك التجمّعات التصدّي للإسلام أو النيْل من أهله.
 






أتباع بطرس والزمان عجائب
وبنو يهوذا اليوم يتفقانِ


أرأيتَ كيف تعانقَ اللصّانِ في
فرحٍ، وكيف تجمّعَ الضدانِ


الحقدَ قد نسي الجميعُ، وأفرغوا
حقدَ الدهور على بني عدنان


فكأننا خنّاهمُ، وكأنما
صُلب المسيح على يدَي قحطان






 
[من شعر البسيوني قنعان رحمه الله في "رسالة من الميدان إلى أبي" قالها لما هجمت جيوش الاعتداء الثلاثي على مصر سنة 1956، ونشرت وقتها بصحيفة الندوة السعودية، كما قيلت في إذاعة صوت العرب، من ديوانه رحمه الله (الصحوة في زمن الاستيلاب ص: 5) طبعته دار الوفاء المنصورة – مصر].
 
تمامًا كما يحدث اليوم من قوى مختلفة متغايرة، تجتمع كلّها لاستئصال شأفة الإسلام وفرض علمانيتها الرافضة للأديان وأهلها.
 
وفي ظلّ هذا التجمّع الآثم على الإسلام والمسلمين تنال الدعواتُ السلفية في كلّ مكان النصيبَ الأوفر من الكيد والبطش، من العدوّ في الخارج، ومن المنافقين في الداخل، وإن اختلفت صور الحرب الحديثة وتنوعت طرقها لاختلاف الوسائل في كلّ زمان عن الآخر، لكن تبقى الحرب هي الحرب، والتآمر على الإسلام هو التآمر ذاته.
 
تنال الدعوات السلفية ما تناله من البطش ومن الكيد في كثير من البلاد المسلمة، ومع ذلك تثبت في وجه أعدائها، بل ولا يتوقف مدّها وتعاقب الأجيال عليها، مع ما تعانيه من اختلافات داخلية تنحر في جهودها وتهدد مستقبلها.
 
وللحديث تتمة إن شاء الله تعالى...
 
والحمد لله ربّ العالمين، وصلّ اللهمّ وسلم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

شارك المقال

ساهم - قرآن ١