أرشيف المقالات

الأدب والفن في أسبوع

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
للأستاذ عباس خضر البعث العربي الجديد: قضيت الأسبوع الماضي وبعض هذا الأسبوع، حبيس الدار لرمد في عيني، وما أريد أن أتحدث عن مرضي وما نالني منه، إن أريد إلا أن أطلق بخار الطاقة المحبوس في نفسي، فقد كنت طيلة هذه المدة كالجواد العربي الذي شد لجامه وهو يعلكه.
.
يريد أن ينطلق.
.
أريد أن أعدو وأروح وأذهب وأجيء وأقرأ وأكتب فمالي عيش بغير هذا، ولن يطيب لي القعود. وكان أكبر أسفي لتلك الحبسة أن منعتني من المشاركة في ذلك النشاط العربي الذي دب في نواح من القاهرة، في جمعية الوحدة العربية، وفي الاتحاد العربي، وقد تلقيت دعوتين كريمتين، الأولى من (جمعية الوحدة العربية) لسماع المحاضرة التي ألقاها في نادي الجمعية يوم الخميس الماضي الأستاذ محمد توفيق دياب بك عن (التربية الوطنية في العالم العربي) والثانية من (الاتحاد العربي) لسماع محاضرة الأستاذ أحمد رمزي بك عن (العلاقات الاقتصادية بين البلاد العربية). كنت أود أن أذهب لأسمع، ثم آتي لألخص هنا ما سمعت، وقد أعقب عليه وأضيف إليه ما يعن لي في هذه المشاكل التي تشغل منا القلوب والخواطر.
ولكن، إن كنت قد تألمت من القعود عن ذلك، فقد سرني بعض ما نشر عنه من ذلك الذي كان يقرأ لي.
.
وذلك ما حدث في جمعية الوحدة العربية عقب محاضرة الأستاذ توفيق دياب بك، إذ وقف الأستاذ أسعد داغر السكرتير العام للجمعية، فقال: تلقيت من بضعة أيام الرسالة التالية من أحد الوطنيين العرب أقتطف منها ما يأتي: (كان لحديثكم بشأن المشروع الجديد لإنشاء جريدة كبرى تكون صوتاً للبعث العربي، صدى عظيم في نفسي، لأن هذا الصوت العربي الجديد لا قبل أن ينام على الضيم، العربي الذي يشعر بألم الطعنة التي أصابته في عزته وكرامته يحاول الآن أن ينهض ليستعيد قوته الكاملة ويسترد مجده المسلوب.
تجدون طيه شيكاً بمبلغ عشرة آلاف جنيه، وسأقدم لكم خلال الأسابيع المقبلة مبلغاً آخر مثله أو أكثر إذا لزم، وقد أحببت أن أترك لغيري من المخلصين الفرصة لنيل شرف المساهمة في هذا المشروع الجليل)
. البعث العربي الجديد، وعشرة آلاف جنيه يبذلها عربي كريم لمشروع في تعزيز هذا البعث.
.
أنه شيء عظيم وأرجو أنه يكون أول الغيث. إنني لم أيأس ولن أيأس، من هذه الأمة العربية، بل أقول إن شيء يدعو إلى التفاؤل، وكل ما منيت به إنما هو سحب لا بد أن تنقشع.
لقد تركنا قبل مايو سنة 1948 لا شيء، ثم صرنا بعد ذلك شيئاً.
.
لم نكن قبل موجودين لأننا لم نكن نعمل، ثم تحقق وجودنا لأننا عملنا وأخفقنا.
.
ولا بأس أن نخطئ ونخفق على أن ننهض وننفض الغبار ونستعد، وإنما اليأس كله أن نتفكك ونتوانى وننام. إن هذه الأمة العربية أمة واحدة، وهي جسم واحد لا ينبغي أن يفرق بين أعضائه ما يند من إيذاء بعضها لبعض، فقد تعض الأسنان اللسان.
فلا تخلع الأسنان، وسينتهي ألم اللسان! ولو أننا جعلنا مثل هذه الأمور سبباً إلى التفرق لما أبقينا على البلد الواحد بل الأسرة الواحدة، فلو أخذنا بما يحاجنا به المبطلون في الوحدة العربية مما حدث في الظروف الأخيرة التي لابست الحركة العربية لما أبقينا على مصريتنا لما يلابسها في بعض النواحي من بغى وفساد. والبعث العربي الجديد يجب أن يقوم على الإغضاء وتناسي ما كان، ونقد الواقع الفاسد، والعمل للمستقبل.
وهو من حيث التسامح والإيثار - كما قال العربي الأول: وإن الذي بيني وبين بني أبي ...
وبين بني عمي لمختلف جداً فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ...
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا وإن ضيعوا غبني حفظت غيوبهم ...
وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا وإن زجروا طيراً بنحس تمر بي ...
زجرت لهم طيراً تمر بهم سعدا ولا أحمل الحقد القديم عليهمو ...
وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا لهم جل مالي إن تتابع لي غنى ...
وإن قل مالي لن أكلفهم رفدا بين الحقيقة والمجاز: في إحدى الجلسات الماضية بمؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية ألقى الأستاذ عباس محمود العقاد محاضرة عنوانها (كلمات عربية بين الحقيقة والمجاز) بدأها بقوله: توجد في اللغة العربية كلمات كثيرة بقى لها معناها الحقيقي مع شيوع معناها المجازي على الألسنة، حتى ليقع في اللبس في أيهما السابق وأيهما اللاحق في الاستعمال، ثم قال إن من هذه الكلمات كلمتي (الحقيقة) و (المجاز) فالحقيقة فكرة مجردة ولكن مادة الكلمة تستخدم للدلالة على ما يلمس باليد ويقع تحت النظر فيقال (انحقت) عقدة الحبل، أي أنشدت.
والمجاز من جاز المكان أو جازيه غير معترض، ويقال هذا جائز عقلاً أي غير ممتنع ولا اعتراض عليه. وعرض الأستاذ طائفة من الكلمات وبين معانيها الحقيقية والمجازية واستعمالاتها في المحسوسات وغير المحسوسات ثم قال: ونستطر ومما تقدم إلى المقارنة بين اللغة العربية واللغات الأخرى في استعمال المعنى الحقيقي والمعنى المجازي في وقت واحد فيبدو لنا من هذه المقارنة أن الكلمات التي تستعمل للغرضين كثيرة في اللغة العربية الأوربية، وقد يرجع هذا الفارق إلى غير سبب واحد، فلعله راجع إلى تطاول العهد بين بداوة الأمم الأوربية وحضارتها، ولعله راجع إلى انتقال لغاتها إلى حالتها الحاضرة من لغات قديمة بطل استعمالها وانقطعت فروعها عن أصولها، ولعله راجع إلى خاصة عربية بدوية في التعبير بالتشبيهات المجازية أو الشعرية.
وأياً كان السبب فالخلاصة العلمية التي نتأدى إليها من هذه الملاحظة أننا لا نحتاج كثيراً إلى التسلسل التاريخي في وضع معجماتنا الحديثة، لأن هذا التسلل ضروري في اللغات التي يكثر فيها إهمال الكلمات في معنى وصيرورتها في معنى آخر ولكنه لا يبلغ هذا المبلغ من الضرورة حين توجد الكلمة مستعملة في جميع معانيها على السواء أو على درجات متقاربة.
ومن النتائج العملية لتلك الملاحظة أن نذكر في سياق التجديد والمحافظة على القديم أن العرب كانوا مجددين على الدوام في إطلاقهم للكلمات القديمة على المعاني الجديدة، ونحن لا نعدو سياقنا هذا حين نلتفت إلى الأصل في كلمة القديم والأصل في كلمة الجديد، فنتخذ منهما شاهداً على ما ذهبنا إليه.
فالتقديم هو السير بالقدم، ويقال تقدم أي مشى بقدمه، كما يقال ترجل أي مشى برجله، وتقدمه أي مشى أمامه، ومن هنا التقدم بمعنى السبق والقديم بمعنى الزمن السابق.
ولا ندري على اليقين كيف أطلقت كلمة الجديد على معناها هذا في أقدم أطوارها، ولكننا ندري أن الجد هو القطع وأن الثوب الجديد هو الذي قطع حديثاً، فلعل هذا المعنى من أقدم معاني الجديد، إن لم يكن أقدمها على الإطلاق.
وظاهر من جملة هذه الملاحظات أن أهل العربية جددوا كثيراً في مجازاتهم، وأننا نستطيع أن نحذو حذوهم ونحن نقول (نحذو حذوهم) ولا نظن أننا نبعد في اتخاذ الكلمات لمعانيها المستحدثة مسافة أبعد من المسافة بين الأصل في حذو الجلد وبين المجاز في دلالته على الاقتداء والاهتداء، ولا أبعد من الأصل في كلمة (المسافة) حين أطلقت على الموضع الذي يسوف فيه الدليل تراب الأرض ليعرف موقعه من السير، ثم استعيرت لما نعنيه اليوم بالمسافة وهي كل بعد بين موضعين.
وشرط اللغة علينا أن نصنع كما صنع أهلها، فنجدد في المعاني من طريق المجاز، بحيث لا يكاد السامع يفرق بينها للوهلة الأولى: أهي أصل في اللغة قديم أم مجاز جديد. ثم جرت مناقشة بين الأعضاء في موضوع المحاضرة، قال فيها معالي السيد محمد رضا الشبيبي: هل يفهم من قول الأستاذ (إننا لا نحتاج كثيراً إلى التسلسل التاريخي في وضع معجماتنا الحديثة وأننا في غنى عن وضع المعجمات اللغوية التاريخية)! فقال الأستاذ العقاد: في اللغة العربية استعملنا كثيراً من المعاني المجازية، لكن التعب الذي نحتاج إليه في الرجوع إلى أحوال الكلمات أقل من تعب واضعي المعجمات الأوربية، فمثلاً معجم أكسفورد وهو أكبر معجم للإنجليزية اضطر واضعوه أن يبدءوا من القرن الثاني عشر لأن ما قبله لا يستعمل الآن ولا يفهم، لكننا نحن قد نجسد كلمة من الجاهلية تستعمل الآن في معناها الأصلي. وقال الأستاذ (جب): ما مدى تطبيق هذه القاعدة؟ إن نظام الاختيار في نهاية الأمر للجمهور، أما فيما يختص بالمصطلحات العلمية فالجمهور خاضع لأمر المختصين. وقال الأستاذ (ماسنيون): تذكرت جلسة من الجلسات القديمة تباحثنا فيها عن التضمين، فالتضمين كالمجاز، وقد ألقيت منذ سنتين كلمة في جامعة باريس عن أهمية التضمين في تشكيل عبارات جديدة ومعان جديدة في قوالب قديمة.
فقال الأستاذ العقاد: لم تنتفع بالتضمين حق الانتفاع مع أنه نافع جداً، والتضمين يجب أن يتجه إلى إيداع معان فكرية جديدة، أما المحللات اللفظية فنحن في غنى عنها. حول محاضرة الدكتور ناجي: قرأت تعقيبك على محاضرة (الشاعر الدكتور ناجي).

وأنا وإن كنت ممن يقدرون شعر ناجي، بل كنت - يوماً - أضعه في مصاف الملهمين المعاصرين من أمثال علي طه وإيليا أبي ماضي.

وإن كنت أيضاً لا أحب أن أتعرض لشكواه من أن القراء يقدرونه أو لا يقدرونه.

إلا أنه آلمني حقاً أن ناجي يود أن تتخلص الرسالة من شعرائها (التافهين)، أو على الأصح يود أن تقف الرسالة (رسالة الشعر) عليه وعلى أمثلة من الملهمين.
هذه يا سيدي الأستاذ - علة الشرق الحديث، وهذا داؤه.

كلنا يحب أن يطغى على غيره.

لا عمل لنا إلا قتل الناشئين في مهدهم.

أما أن نفسح لهم الطريق - ولا أقول - نقومهم ونرشدهم.

أما أن نتخذهم تلامذة لنا.

نقول لهم هذا صحيح فاتبعوه، وذاك خطأ فاجتبوه.

فليس هذا من دأبنا. وليس الذنب ذنب (ناجي) وحده - فيما أرى - فلقد سمعت منذ أشهر أحد الأدباء الكرام يتهجم هو أيضاً على الشعراء من شباب اليوم ويتهكم قائلاً: إنهم يقولون الشعر وهم بعد لم يحفظوا (كتب المحفوظات في المدرسة).
وهكذا يستعدي ناجي الرسالة على الناشئين من الشعراء وهي المجلة الوحيدة في الشرق التي لا تشتري الأسماء ولا تنشر إلا ما يستحق النشر في وقت دأبت فيه جل مجلات الشرق على أن تشتري قراءها بأسماء ضخمة مقدمة ومؤخرة بالألقاب.

وفات ناجي أن الرسالة أستاذ قبل أن تكون مجلة، وأن قراءها تلامذة قبل أن يكونوا قراء.
وبعد فما أحب أن أطيل الحديث مع ناجي، ولكني أود أن أقول له: لم لم أكتب للرسالة ناقداً وموجهاً؟!.

لم لم يجابه أولئك (التافهين) بشعره على صفحات الرسالة؟!.
وبعد فيا صاحب (الليالي القاهريات).

إني لأذكر أن الرسالة حدثتنا - منذ زمن - أنك أنكرت على الناس جحودهم لشعرك فحرقته - على ما أذكر - ويومها كنت أرثى لك وأترحم على شعرك.

أفلا تخاف - يا شاعري - أن ينكر عليك شعراء الشباب هذا الجحود، فيفعلون بأدبهم مثل ما فعلت بأدبك في شبابك؟!.

ويومها - يا سيدي - أقسم لك أننا سوف نفقد تلك الروح العذبة الرقيقة التي تسيطر على شعر الشباب.
.!!.
.
لقد قالت الرسالة يا سيدي الشاعر في عددها الأخير على لسان الأستاذ المعداوي (إن الرسالة لن تغلق أبوابها يوماً في وجه أصحاب المواهب والملكات). أسامة إنني أشاطر الأديب (أسامة) تقديره لشعر الدكتور إبراهيم ناجي ولا أرى في تعقيبه ما يحتاج إلى تعقيب إلا أنني أحب أن أعبر عن مودتي للدكتور ناجي، تلك المودة التي لا يعجبه أن تمزج بما أكتب عنه أحياناً.
.
ولكن ماذا أصنع وهو يغري هذا القلم دائماً بما يهيئ له من موضوعات طريفة؟ أنه يغضب مني، وقد اصطلحنا غير مرة، ولكن الإغراء يتجدد.
.
ومالي بدفعه حيلة. وأرجو أن يوسع الشاعر الكبير الدكتور إبراهيم ناجي - صدره، ويعد نفسه - كما نعده - ملكاً أدبياً عاماً.
.
وأن يقبل تحيتي ومودتي واحترامي. عباس خضر

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢