نداءات الرحمن لأهل الإيمان 15


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، جعلنا الله تعالى وإياكم منهم، وجمعنا وإياهم في دار الكرامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر. اللهم آمين.

وها نحن مع [ النداء الخامس عشر ] وقد سبقه أربعة عشر نداءً، نادى الجبار عز وجل فيها عباده المؤمنين والمؤمنات، وهذا النداء الخامس عشر هو [ في النهي عن أكل الربا والأمر بتقوى الله عز وجل ] فمضمون هذا النداء ومحتواه هو نهي الله عز وجل عباده المؤمنين عن أكل الربا، وأمرهم تعالى بتقواه جل جلاله وعظم سلطانه.

قال: [ الآية (130) من سورة آل عمران

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130] ] وهيا نتغنى بهذا النداء لنحفظه عن ظهر قلب، وتكون هذه الآية نوراً في قلوبنا، ونصلي بها النوافل حتى لا ننساها.

أهمية العمل بالعلم

[ الشرح ] لهذا النداء الكريم [ اعلم أيها المؤمن! زادك الله علماً، ووفقني وإياك للعمل بما نعلم؛ فإن العلم بلا عمل كشجر بلا ثمر ] فليس هناك فائدة من النخلة إذا لم يكن فيها رطب ولا تمر، ولا فائدة من شجرة التين أو الزيتون إذا لم يكن فيها تين ولا زيتون، والذي يعلم ولا يعمل ما استفاد ولا أفاد، وحاله كحال شجرة ما أثمرت [ ورضي الله عن علي بن أبي طالب ] صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج الزهراء ، وابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ إذ قال ] واحفظوا هذه الكلمة حتى تكونوا قد تلقيتم العلم عن علي بن أبي طالب ، وسبحان الله! فبيننا وبينه ألف وأربعمائة سنة ومع هذا كأننا في مجلسه وتلقينا عنه علماً وحكمة، فهو يقول رضي الله عنه: [ العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل ] واحفظ هذا يا راضي ! فالعلم ينادي العمل: يا عمل! فإن أجابه فذاك، وإلا ارتحل. ومعنى هذا: أن العلم إذا لم يعمل به صاحبه فسوف ينساه ولا يبقى عنده، حتى يصبح كصعاليك الناس، فما من سيئة إلا ويقترفها؛ لأن العلم رحل عنه. فهذه حكمة غالية من علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

عظم ذنب آكل الربا

قال: [ وإن قلت لي ] أيها المستمع الكريم!: [ ماذا أعلم؟ قلت لك: اعلم عظم ذنب آكل الربا واحذره ] فمن أجل هذا ناداك الله. وهذا هو المطلوب منا الليلة، أن نعلم عظم ذنب آكل الربا، فهو ذنب عظيم، ولنحذر أكل الربا. هذا سؤالك أيها المستمع! وهذا جوابك [ فإن الله تعالى ما توعد أهل الإيمان بعذاب النار كما توعد آكل الربا؛ إذ قال تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:275] ] كهذه [ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275] ] فما جاء هذا الكلام مع أهل الإيمان أبداً إلا مع آكل الربا.

بيان كيفية أكل الربا أضعافاً مضاعفة

قال: [ وها هو ذا ] الله تبارك و[ تعالى في هذا النداء الخامس عشر من نداءات الله تعالى لعباده المؤمنين ينهاهم عن أكل الربا، ويأمرهم بالتقوى، ويطمعهم في الفلاح، الذي هو النجاة من النار ودخول الجنة ] دار الأبرار [ فيقول لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:130] ] لبيك اللهم لبيك، مرنا [ لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] ] وأكلها أضعافاً مضاعفة كأن يكون للمرابي على من استدان منه ألف درهم فيتأخر سنة فيرفعها إلى ألف ومائة، وسنتين إلى مائتين، حتى تصبح أضعافاً مضاعفة بمرور الزمان وعجز المستدين عن السداد [ إذ كان الرجل ] في الجاهلية [ يستقرض من آخر مالاً إلى أجل معين ] كأن يستقرض من الموسم إلى الموسم، أو من الحج إلى الحج [ فإذا حل الأجل ولم يجد سداداً ] يسدد به [ يقول لمن أقرضه: أخر وزد ] إذ ليس عندي السداد، وهذا ربا النسيئة، ربا النسيئة أي: أنسئه إلى أجلٍ ثانٍ وزد قدراً معيناً [ فيؤخر ويزيد فيه، فإذا حل الأجل ولم يجد سداداً فيقول له ] أيضاً: [ أخر وزد أيضاً، وهكذا حتى يصبح القرض الذي كان مائة درهم مئات الدراهم ] والآن البنوك لا تقول لهم: أنت، بل هم الذين يقولون، فإذا حل الأجل وما جئت أخروك وزادوا، ولكن في الجاهلية كان يقول له: أخر وزد إذا حل الأجل وما استطاع السداد، فيقول: أخرني فترة أخرى وزد، وأما لو جاء بالسداد فلا زيادة، فكان يأتي الرجل لـأبي سفيان ويقول: أريد خمسمائة درهم إلى الحج، فيعطيه، فإذا جاء الحج وما وجد يقول: أخر وزد، وأما إذا جاء الحج وأتى بالمال فلا زيادة ولا فلساً واحداً، فلهذا ربا الجاهلية أفضل والله من ربا البنوك اليهودية. والدليل على ذلك: أن الربا في الجاهلية كما قلت لكم كان يأتي الرجل إلى أخيه أو إلى جاره أو إلى أي أحد ويقول له: أقرضني ألف درهم أو ألف دينار إلى الموسم الفلاني، فإذا جاء الوقت وجاء بالثمن لا يأخذ ولا فلساً واحداً زائداً أبداً، ولكن إذا لم يستطع يقول له: أخرني سنة أخرى وزد قدراً معيناً، فلا يزال يزيد حتى يتضاعف، ويصبح الدينار دنانير والدرهم دراهم، هذا معنى أضعافاً مضاعفة [ وهذا هو ربا النسيئة ] أي: الزيادة والتأخير [ الذي يتضاعف ] المعروف عند أهل العلم، أي: ربا التأخير، من أنسأه إذا أخره [ أما ربا الفضل ] أي: الزيادة، فالفضل بمعنى: الزيادة، فكل ما فضل عنك فهو زيادة. والربا ربوان: ربا نسيئة وربا فضل ولا ثالث لهما [ فإنه تحصل فيه الزيادة فور البيع ] أي: وقت البيع، فعند البيع يبيعه بزيادة [ بأن يبيعه قنطار بر بقنطار ونصف براً ] مثلاً أو قنطار وربع في المجلس، فهذا لا يجوز، وهذا هو ربا الفضل؛ إذ ليس له حق أن يأخذ زيادة والقمح هو القمح، والشعير هو الشعير، والذهب هو الذهب، والفضة هي الفضة [ ويبيعه ألف درهم بألف وعشرة مثلاً، وهكذا في كل الربويات، وهي: الذهب والفضة والبر ] أي: القمح [ والشعير والتمر والملح ] فيبيعه في المجلس بزيادة، فيبيع قنطار رطب بقنطارين أو قنطار ونصف بتمر أجود منه [ وما يلحق بها من كل مقتات ] فكل طعام يصلح للقوت وعيشاً للناس [ مدخر ] أي: يدخر السنة والسنتين ولا يفسد، حتى يخرج الفواكه والخضار [ إذ هذه الربويات لا تباع إلا كيلاً بكيل، أو وزناً بوزن بلا زيادة، إلا أن تختلف أجناسها كبيع فضة بذهب، أو بر بشعير، أو تمر بملح مثلاً فلا بأس بالزيادة ] فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم، فهذه القاعدة وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجوز أن تبيع كيلو ذهب بخمسين كيلو فضة، أو قنطار شعير بنصف قنطار بر، وهذا شأنك، فأنت محتاج إلى هذا، فالشعير غير القمح، والذرة غير الرز، والملح غير التمر، فهي أجناس مختلفة، وأما الجنس الواحد تمراً بتمر .. شعيراً بشعير .. قمحاً بقمح .. ذرة بذرة .. زبيباً بزبيب فلا بد من التساوي بلا زيادة [ على شرط أن يتم البيع في مجلس واحد ] أيضاً، حتى لو قلت: اسمح لي أن أتوضأ وآتي أو أصلي وأعود إليك لم يجز هذا، فإذا بعتك تمراً بشعير أو شعيراً برز فيجوز التفاضل، كأن أبيع قنطاراً بقنطارين حسب الحاجة، ولا بد من المجلس الواحد، ويجوز أن أبيعك كيلو ذهب باثنين أو ثلاثة فضة لا بأس، ولكن لا بد من المجلس، ولا تتفارقا حتى تنجزا البيع؛ وذلك [ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيدٍ ها وها ) ] و(ها) بمعنى: هاك، أي: خذ، وهات أي: أعطني. أما إذا الجنس واحداً فلا تفاضل ولا جراماً واحداً زائداً، فالذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والقمح بالقمح، والشعير بالشعير، فلا بد أن يكون الوزن واحداً، والكيل واحداً. وإذا ذهبت الآن إلى الصيرفي وأنت تحمل دراهم كويتية وتريد ريالات سعودية فلا يلزم أن يعطيك درهماً بريال؛ لأنه قد اختلف الجنس، فالممنوع هنا فقط هو أنه لا يمكن أن تقول: أعطني عشرة وآتيك بعشرة بعد ساعة، بل لا بد من مجلس واحد، وأن يكون يداً بيد. وكذلك لا يصح المفاضلة في بيع الذهب القديم بالجديد، بل بع الذهب القديم أولاً بالريالات أو بالدراهم، ولما تمسكها بيدك اشتر منه ذهباً أغلى أو أفضل.

ربا البنوك أعظم من ربا الجاهلية

قال: [ واعلم أيها المؤمن! ] والمؤمن هو الحي الذي يسمع ويبصر ويعي؛ لأنه حيي بإيمانه، وغير المؤمن والله ما يناديه الله ولا يكلمه ولا يأمره بهذا ولا ينهاه؛ لأنه ميت [ أن ربا البنوك اليوم أكثر ظلماً وأعظم ذنباًمن ربا الجاهلية الذي حرمه الله تعالى في هذه الآية وفي غيرها من آيات البقرة التي تقدمت ] فربا الجاهلية أفضل من ربا البنوك اليهودية، فقد عرفنا أن ربا الجاهلية إذا احتجت إلى ألف دينار أو درهم تأتي إلى أخيك الغني وتقول: أقرضنيها ستة أشهر .. سنة، فيقرضك، فإذا حل الأجل ولم تعطه وأنت مضطر تقول له: أخرني وزد علي شيئاً قليلاً، وربا البنوك ليس إذا أعطاك مليوناً ولم تستطع أن تسدد إذا حل الأجل يقول لك: إذاً: نزيد، بل من أول مرة الزيادة حاصلة [ لأن ربا البنوك من وضع اليهود ] عبدة العجل الذهبي [ واليهود لا رحمة عندهم ] فاليهود لا يرحمون غير اليهود أبداً، وبودهم أن كل البشرية تمسخ وتصبح كالحيوانات من أجل إقامة مملكة بني إسرائيل، والبشر كلهم عدو لليهود، فلا يوجد مسيحي ولا مسلم ولا بوذي إلا وهو عدوهم، فكل البشرية ضد اليهود، وحتى يقيم اليهود دولة فلا بد وأن يمسخوا البشرية أولاً، وقد فعلوا ونجحوا، فقد أقاموا دولة صغيرة في قلب الإسلام، ولو أقاموها في إسبانيا أو في إيطاليا فلا بأس، ولكنهم أقاموا دولتهم في قلب الإسلام، وهذا نجاح كبير. وكذلك أموال العالم يتصرفون فيها إلى الآن أيضاً، وقد نجحوا، ومسخوا ما شاء الله، والصليبية والمسيحية تحولت إلى بلاشفة علمانية ملاحدة، لا يؤمنون بالله ولا بلقائه، وضاعت الرحمة المسيحية والحياء والآداب، وأصبحت نساؤهم كاسيات عاريات، فالرجل بنطلونه إلى كعبيه، وامرأته ثوبها إلى فخذيها أو إلى ركبتيها! والذي فعل هذا اليهود، وهم يفعلون هذا لأنهم يريدون أن يعيدوا مملكة بني إسرائيل، وغيرهم حجر في الطريق، واليهود لا يستطيعون أن يقتلونهم، ولا يقدرون أن يحاربوا العالم، ولكن بالحيل اليهودية والمكر [ ولا شفقة في نفوسهم على غير بني جلدتهم ] وأما بنو جلدتهم فهم جسم واحد، وأما مع غيرهم فلا؛ لأن الله لعنهم، وليس بعد لعنة الله شيء، واقرأ قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]. وما دام الله قد لعنهم كإبليس فلن يستفيدوا من حياتهم، ولن يعيشوا إلا في الشر والفساد [ فإن البنك إذا أقرض امرأً ألفاً إلى أجل يكتبها عليه ألفاً ومائة، وإذا تأخر سدادها رفع قيمتها حتى تكون أضعافاً مضاعفة، أما ربا الجاهلية من العرب فإنه لا يزيد عليه شيئاً إذا سلم الدين في وقته الذي حل فيه، وإنما يزيد عليه إذا حل الأجل ولم يسدد فقط ] فربا العرب الجاهليين أفضل من ربا اليهود الشياطين.

الربا محرم مطلقاً

قال: [ لعلك أيها القارئ الكريم! ] أو المستمع المستفيد! [ترى أن الربا إذا كان غير مضاعف لا بأس به؛ لما قد يفهم من هذه الآية: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]] فقد يقول الجاهل أو الغافل: إذاً: ما دام شيئاً قليلاً لا بأس؛ لأن الله قال: أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]. فانتبه، و[إياك أن يعلق بذهنك هذا المعنى فإنه غير وارد أبداً. وإنما الآية ذكرت حال المرابين في عصر الجاهلية، فعاتبهم على ذلك. أما بعد أن حرم الله الربا فإنه حرمه تحريماً مطلقاً، لا فرق بين كثيره وقليله، واسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرر هذه الحقيقة فيقول: ( درهم ) ] واحد [ (ربا يأكله الرجل)] أو المرأة، ولم يذكر الرسول المرأة احتراماً لكم أيها الفحول! فالفحل لا يرضى أبداً أن تذكر امرأته بين الناس، ولا أن تشاهد أو يسمع صوتها، ولا أن تذكر في مجالس الرجال؛ لأن المرأة لبوة، والفحل أسد يموت دونها، ولا يرضى أن تبتذل وتمتهن وتوضع في كل مكان، هذا من عمل اليهود، فهم الذين هبطوا بالبشرية إلى هذا المستوى [ (وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية ) ]، أي: في الإثم، مع أن الزنية الواحدة يرجم صاحبها بالحجارة.

وهناك لطيفة أخرى: المرأة تحت الرجل، والرجل يجب أن ينفق عليها، فإذا كان الرجل يرابي فهي تأكل من الربا، وهي ليست آثمة؛ لأنه يجب أن ينفق عليها، فهي زوجته، يطعمها حيث شاء ومما شاء، وهي ليست بمسئولة. فالمرأة لا تأكل الربا. والآن يوجد نساء ربويات، وهن موجودات، لهن قروض في البنوك، والرسول يتكلم مع فحول المؤمنين وقت الرفعة والعزة والكمال [ ويقول صلى الله عليه وسلم: (الربا ثلاثة وسبعون باباً)] فقد يدخل فيه الإنسان من هنا، أو من هنا، فهو ليس محصوراً في ربا البنوك فقط، بل هو ثلاثة وسبعون باباً [ ( أيسرها ) ] أي: أخفها [ ( أن ينكح الرجل أمه)] ولا يوجد ذنب أعظم من هذا [(وإن أربى الربا ) ] وأعظمه [ ( عرض الرجل المسلم ) ] بأن تنهش عرضه وهو غائب، فهذا أعظم من ذاك. وهذا نتلذذ به، فمجالسنا إذا جلسنا ليس فيها إلا الطعن بفلان وفلان، وخاصة العلماء والحكام والدعاة، وأما التجار وغيرهم فلا يلتفتون إليهم، وأما العلماء والدعاة والحكام فيذبحونهم ذبحاً، ولا يخلو مجلس من هذا أبداً إلا ما شاء الله، وسبب هذا أننا ما عرفنا، ولا وجدنا من يعلمنا، والرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أرسل هادياً ومعلماً وبشيراً ونذيراً، وليكون المجتمع الطاهر النقي الذي يعبد الجبار في الأرض، وينزل بجواره في السماء. فالربا يقطع العلاقات، ويمزق الصلات، ويبعد الإخاء، وينهي الرحمة، ويجعلنا كالحيوانات كما هو الواقع، وكذلك من يمزق عرض المؤمن ولي الله، ويقطعه، ويتهمه بالفجور، أو يقول فيه كذا وكذا، فلا يبقى هذا المجتمع الرباني الإسلامي. ونحن أكلنا الربا، وأكلنا لحوم بعضنا بعضاً، فتسمعهم يتحدثون عن هذا الشيخ ويقولون العجب، فبعضهم يقول: هذا وهابي، وآخر يقول: هذا متخلف، وثالث يقول: رجعي، ورابع يقول: هذا عميل للحكومة، وخامس يقول كذا، والله العظيم، ولا لوم ولا عتاب؛ لأننا ما ربينا في حجور الصالحين، ولذلك لن نكمل في آدابنا وعقولنا، ونحن نعيش كما تعيش البهائم، ولا هم لنا إلا الأكل والشرب والنكاح، والسعي وراء ذلك بالليل والنهار، وذكرنا لله قليل، والمعرفة تنعدم عند أكثرنا، فلن نستطيع أن نكمل في آدابنا وأخلاقنا، والحل هو في العودة، ولا تقولوا: المسافة بعيدة، فهي مدة ألف وأربعمائة سنة، ونحن الآن نطير في السماء ونغوص في الماء، وعندنا غير ذلك، فالرجوع إلى ذلك العهد ليس معقولاً، فوالله لرجوعنا إلى ذلك العهد أيسر من أن نغرس فسيلة حتى تثمر، وأسهل من أن نستورد تجارة ونربح منها.

والطريق إلى ذلك معاشر المستمعين! وبلغوا هو أن أهل القرية - والقرية في لغة المعاصرين الجغرافيين والأوربيين هي البلد الصغير الذي سكانها معدودين كألف أو ألفين، وأما في عرف القرآن: فالقرى جمع قرية، وهي العاصمة .. الحاضرة، واقرأ إن شئت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أمرت بقرية تأكل القرى ). فالرسول يقول: أمرني ربي بقرية أسكنها تأكل القرى، وهذه القرية التي أكلت القرى هي المدينة، فقد أكلت عواصم الفرس والروم على عهد عمر وعثمان وعلي ، ولم تبق قرية لم تخضع للمدينة في أيامها، لا عواصم كسرى ولا عواصم الروم، بل الكل أذعنت ودخلت تحت المدينة. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أكلت القرى- المسلمون يعودون إلى ما كان عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ ليكملوا ويسعدوا، ويصفوا ويطهروا، ويتأهلوا للسماء، وينزلوا في الملكوت الأعلى، فيعلنون ويقولون: اسمعوا إخواننا! .. أبناءنا! .. أمهاتنا! .. نساءنا! .. أبناء بناتنا! من غدٍ إذا غابت الشمس وأذن المغرب فلا يبق رجل ولا امرأة ولا ولد في بيته أو في مكانه، بل الكل في المسجد، وإذا كان المسجد ضيقاً فيوسعونه، ويعلنون: أيها الفحول! غداً ما من أحد إلا ويأتي بلحاف أو بغطاء أو بغير ذلك، ونوسعه حتى بغلاف قبل أن نبنيه، فإذا مالت الشمس للغروب رأيتهم زرافات ووحداناً مقبلون على الله في بيته، فيصلون المغرب، ثم يجلسون جلوسنا هذا، ويجلس لهم مربٍ خليفة لرسول الله في تعليم أمته، فلا يعلمهم بقال الشيخ الفلاني، وقال سيدي فلان، وإنما يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، أي: يطهر أرواحهم وأخلاقهم ونفوسهم، ومصدر ذلك قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]. وكل ليلة وهم مع الله يتعلمون الكتاب والحكمة، فلا تمر سنة واحدة على أهل القرية إلا ولم يبق بينهم جاهل أو جاهلة، لا يعقل أن يبقى أحد، وإذا انتفى الجهل بينهم فلن تسمع أن هناك من فكر في الزنا بنساء إخوانه في قريته، ولن تسمع أن فلاناً ضرب فلاناً أو شتمه، ولن تجد مجلس غيبة أو نميمة، فهذا والله ما يكون؛ فقد علموا وعرفوا وزكت نفوسهم. وإذا انتفى منهم الجهل والظلم والفسق والفجور وكل النقائص فقد كملوا، فلو رفعوا أيديهم إلى الله على أن يزيل دولة كاملة لأزالها؛ لأنهم أولياؤه، لا ترد لهم دعوة. وهذا لا يكلفنا شيئاً لو فعلناه، وبعضهم يقول: أنت تريد أن تتعطل الحياة، وأقول: لا، فأنت من صلاة الصبح والمعول في يدك، أو المطرقة في يمينك، أو المسحاة على كتفك وأنت تعمل إلى العصر، وهذا يكفي، أو أن دكانك مفتوح من صلاة الصبح إلى غروب الشمس، وقد استفدت في هذا الوقت، فالحياة لم تتعطل، وهذه الكلمة يقولها الهابطون، فهم يقولون: هذا يريد أن تتعطل حياتنا، وأقول: تعال نمشي معك إلى أوروبا، وسنجد أهلها إذا مالت الشمس إلى الغروب أغلقت الدكاكين والمصانع، ويذهب العمال للراحة، فيذهبون يروحون على أنفسهم في الملاهي والمقاهي والملاعب والمراقص والمقاصف؛ لأنهم موصولون بعالم الشقاء، فلا نكن نحن مثلهم، نروح عن أنفسنا في المقاهي والملاهي، بل في بيوت الرب مع ذكر الله وتعلم الهدى.

فليفهم السامعون هذا والسامعات، فوالله لن تكملوا ولن تسودوا ولن تعزوا ولن يرفع هذا الضعف والذل والفقر والهوان والدون إلا بالعودة إلى الكتاب والسنة، أحببتم أم كرهتم.

التحذير من السبع الموبقات

قال: [ ألا فليجتنب المؤمن الربا، وليبتعد عنه، وليذكر ما يساعده على ذلك من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اجتنبوا السبع الموبقات. فيسأل عنها فيقول: الشرك بالله ) ] كمن يقول: يا سيدي عبد القادر ! أنا في حماك، أو: يا رسول الله! المدد المدد، أو كمن ينذر هذه الشاة لسيدي عبد القادر ، فهذا هو الشرك، وهو أن تعطي حق الله لمخلوق من مخلوقاته، وأن تشرك عبداً من عبيده فيما هو له، واستحقه بخلقه ورزقه وتدبيره.

والرسول عندما قال هذا لأصحابه لم يكن يخاف عليهم الشرك، وإنما قال هذا لأن الله أعلمه الله الأمة ستفتن في حياتها، ويصبح الشرك عندها عادياً كبقية العاديات، ووالله لقد كنا ندخل قرى قبل خمسين سنة لا نجد فيها موحداً أبداً، وتجد الواحد منهم يهلل: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، والمسبحة في يده، وإذا سقطت المسبحة قال: يا رسول الله! أو يا سيدي فلان! ونسي ذكره لا إله إلا الله. ولكن هذه الفترة والحمد لله وجد فيها توحيد، ووجد موحدون، وجزى الله ألف مرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، فهو الذي نفخ هذه الروح في العالم، وقد كفروه وسبوه وحاربوه وقاتلوه، إلى أن تغمده الله برحمته، ثم جاء عبد العزيز فأعاد ذلك النور من جديد، وهذه والله بركتهم، وإلا ما كان يصل التوحيد إلى بلاد المغرب ولا يعرف، فجزاهم الله خيراً، وقد مضت أربعمائة سنة لم يكن يوجد من يوحد الله في القرية، بل كنت تجد الواحد يعبد ويصلي وقلبه مع فلان وفلان، وقد رأيناهم جماعات يبركون على القبور، ويتمرغون عليها، وينزلون بنسائهم وأطفالهم لزيارة سيدي فلان وفلان، ويجلسون أياماً وليالٍ عاكفون كالعكوف على الكعبة، وفيهم من يقرأ القرآن؛ بل ويقرءون هم القرآن ولا يفهمون له معنى. والحمد لله أن علمنا الله وهدانا، وأصبحنا من أهل لا إله إلا الله بحق.

[ ( والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ) ] وكل واحدة منها توبق صاحبها في جهنم. وهي سبع موبقات، وهي:

أولاً: الشرك بالله. هذه الأولى.

ثانياً: السحر. وقد اتصل بي اليوم بعد الظهر مؤمن بالتلفون، وقال: يا شيخ! سحرني رجل واعترفت له بمبالغ مالية كثيرة، فكيف أصنع؟ فقلت له: إذا كنت في المملكة فالحل أن تذهب إلى الهيئة وتقول: وجد ساحر وسحرني وخذ بيده فسوف يعدم. فالساحر يقتل حيث بان سحره. فقال: مع الأسف أنا في مصر. فقلت له: ليس لك حيلة إلا أن تشتكي إلى المحكمة، والمحكمة عندها وسائط؛ فإن تبين أنه ساحر لم يعطونه لا درهماً ولا جنيهاً. فالسحر شاع، وكأننا تخلينا عن أسلامنا، فقد أصبح السحر عاماً عندنا، والساحر يقتل حيث بان سحره، وهو شر من الكافر، ولا يجوز أن يوجد في قرية مسلمة ساحر، ولا أن تقول: نذهب إلى الساحر أو لا نذهب؟ فلا تذهب إلى الساحر، وإنما اذهب إليه برجال الحكومة؛ حتى يقتلوه؛ لأن الساحر لا يتوب، فبمجرد أن يظهر السحر يقتل؛ لأن السحر خفي، أخفى ما تتصور، فلا يعرف إذا قال: أنا تبت، فلهذا إذا شهد اثنان على أنه ساحر يعدم.

ثالثاً: قتل النفس التي حرم الله، وأما النفس التي أباح الله قتلها فلا بأس، والنفس التي أباح الله قتلها نفس المحارب الكافر، فإذا اشتعلت نار الحرب بيننا وبين اليهود والكفار فاقتل ولو سبعين واحداً في اليوم، فهذا جائز.

وكذلك الزاني يقتل إذا كان محصناً، والقاتل عمداً وعدواناً يقتل، هذا هو الحق، وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق.

والكافر لا يقتل، وحرام أن تقتله، إلا إذا كنا في حرب معهم.

رابعاً: أكل الربا، واسألوا البنوك عن الربا.

خامساً: أكل مال اليتيم، وأكثر من يأكله وليه الذي يتولى عليه.

سادساً: التولي يوم الزحف، فإذا زحفت قوات الإيمان والتوحيد على قوات الشرك والكفر فالذي يتأخر وينهزم فهذا جزاؤه، فقد فعل موبقة لا ينجو معه؛ لأن الله قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [الأنفال:15].

سابعاً: وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، كـعائشة الصديقة رضي الله عنها، وما زال المخدوعون المغرر بهم المتهالكون إلى الآن يقولون: عائشة فجرت وزنت، وقد نزلت الآية وفيها: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور:26]. وهم يقولون: الرسول طيب وعائشة خبيثة. والعياذ بالله. وأي كفر أعظم من هذا! وعلة هذا هو الجهل، فنحن ما تربينا وما علمنا وما عرفنا.

علة تحريم الربا

قال: [ وهل تدري ] أخيراً أيها السامع [ ما علة تحريم الربا؟ ] وهذا بيت القصيد [ إنها ما يلي:

أولاً: المحافظة على مال المسلم-ولي الله - حتى لا يؤكل بالباطل.

ثانياً: توجيه المسلم إلى استثمار ماله في أوجه المكاسب الشريفة الخالية من الاحتيال والخديعة والغش ] وذلك [ كالفلاحة والصناعة والتجارة ] ولن نحيا حتى نعود إلى القرية كما قدمنا، فأهل القرية يجمعون نقودهم الفاضلة في صندوق في المسجد ووالله لينمونه في قريتهم، ويأخذون فوائد، وتحفظ أموالهم بكل سهولة، ولكن ما دمنا بعيدين عن الله فهيهات أن نتقي هذه الفتنة، ولقد نجا منا من تباعد عنها، وإلا فأغلبنا هالك مع الهالكين. [ ثالثاً: سد الطرق المفضية بالمسلم إلى عداوة أخيه المسلم وبغضه وكرهه ] فالذي يأخذ من البنك مليون ريال ثم يسدده مليون ومائة ألف ويصبح صاحب البنك رابحاً، فوالله ما يحبه وإنما يبغضه. فللمحافظة على الإخوة بين المسلمين حرم الله الربا؛ لما ينتج هذا الربا من بغض المسلم للمسلم، وعدائه له.[ رابعاً: فتح أبواب البر في وجه المسلم ليتزود لآخرته، فيقرض أخاه المسلم بلا فائدة، وينتظر ميسرته بلا فائدة، وييسر عليه أمره، ويرحمه ابتغاء مرضات الله ] ولو لم توجد بنوك ربا وكان عندي مليون ريال لا أصنع به شيئاً وإنما دائماً مخزون فإذا أتى مؤمن فسأقرضه، والمؤمن إذا أقرضته يرضى أن يموت ولا يخونني ولا يجحدني [ وفي هذا ما يشيع المودة بين المسلمين، ويقوي روح الإخاء والحب والتصافي بينهم.

فاذكر هذا أيها المؤمن وعلمه غيرك من إخوانك المؤمنين ].

سبب الأمر بالتقوى بعد النهي عن أكل الربا

قال: [ وأخيراً: هل عرفت ] أيها القارئ والمستمع! [ لم جاء الأمر بتقوى الله تعالى بعد النهي عن أكل الربا في هذا النداء؛ إذ قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]؟ إنه من أجل إرهاب النفوس وإخافتها من عاقبة الإصرار على أكل الربا؛ لأن الله تعالى لرحمته بعباده لم يأذن لأحد منهم أن يأكل مال أخيه بغير حق، وتقوى الله تكون بامتثال أمره واجتناب نهيه ] وهنا نهينا عن أكل الربا، وأمرنا بالتقوى، فهو أمر ونهي [ ومن امتثل أمر الله فاتقاه وأطاعه فلم يأكل الربا، فقد تهيأ للفلاح، وهو كما عرفت الفوز بدخول الجنة بعد النجاة من النار.

ألا ] لا ألو، فهذه جديدة، تسمعونها في البيوت مع التلفون، وأما ألا فقد جاءت من القرآن، ولكن أخذوها وقالوا: لا تقولوا: إن هذه من العرب، وقد سألناهم: من أين جاءت ألو هذه؟ قالوا: هكذا وجدت مع التلفون، ولا ندري من أين. فقلنا: لقد عرفنا هذا من قبل ألف وأربعمائة سنة، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] [ فلنطع الله فلا نأكل الربا، ونتق الله فلا نعصيه في أمر، أو في نهي؛ لنظفر بأعظم ربح، ونغنم أفضل غنم، ألا وهو الفلاح ] والفلاح هو أن تبعد عن النار وتدخل الجنة. هذا هو الفوز العظيم، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] [ جعلنا الله من أهله الفائزين به، الناجين من النار، الساكنين الجنة دار الأبرار.

وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].