صفات الله عز وجل


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى اللهم وسلم وبارك على عبده ورسوله خاتم النبيين وآله وصحبه والتابعين.

قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] وقوله: عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ [المطففين:35] وقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] وقوله: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35].في هذه الآيات الكريمات استرسل المصنف رحمه الله تعالى في ذكر الآيات المتعلقة بالرؤية وإثبات الرؤية لله عز وجل والبصر، وأن من أسمائه السميع البصير، ثم عقبها بالآيات المتعلقة بالكيد والمكر والمحال وما أشبه ذلك.

فمن الآيات المتعلقة بالرؤية قوله عز وجل: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14] وهذه الآية في سورة العلق، وهي خطاب لـأبي جهل وأمثاله من المشركين، الذين كانوا يمنعون المؤمنين من الصلاة وينهونهم عنها ويتهددونهم بها.

فقال الله عز وجل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:9-14].

وهذا تهديد ظاهر؛ لأن ذكر الرؤية في هذا السياق يوحي بما بعدها من الأخذ بالعذاب في العاجل والآجل، فإن إخبار الكافر أو المنافق بأن الله تعالى يراه، هو تهديد له، أي: إن ما تعمله هو مرئي لنا وأنك محاسب عليه، كما أن إخبار المؤمن أو المجاهد بأن الله تعالى يراه؛ هو تأييد له بأن الله تعالى معه ويراه ومناصره ومجازيه على عمله، فقوله عز وجل لـأبي جهل هنا: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14].

أي: يرى ما يعمل من الاستهزاء بالمؤمنين ومحاربتهم ونهيهم عن الصلاة واضطهادهم على فعلها، وأنه عز وجل سوف يأخذه بهذا العمل؛ ولهذا ختم السورة بقوله: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَة * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [العلق:15-18].

عظمة بصر الله

وفي الآية إثبات الرؤية لله عز وجل، وأنه يرى كل مرئي سبحانه، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم {: إن الله تعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} فهو عز وجل يرى كل شيء، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في ظلمة الليل، لا يحجب بصره جبل ولا مرتفع ولا منحدر ولا شيء، بل الخلق كلهم بمرأى منه عز وجل: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد:8].

وهذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالتوكل عليه، فيقول: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الشعراء:217-220] فأمر الله عز وجل نبيه بالتوكل عليه وحده دون سواه والانقطاع إليه، ووصف عز وجل نفسه بقوله: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ [الشعراء:218] أي: حين تقوم ليلك للعبادة والتهجد، فالله تعالى يراك.

آثار الإيمان برؤية الله للعبد

وهذا كما سبق في الآية قبلها؛ أن ذكر الرؤية في الخطاب مع المؤمنين هو نوع من التأييد والتطمين لهم، فإنه عز وجل يراك حين تقوم، تراوح بين قدميك بقيامك وركوعك وسجودك ودعائك وتضرعك.

فأنت بمرأى من الله عز وجل؛ ولذلك يكون المؤمن مرتاح النفس عارفاً عالماً أن عمله لا يضيع؛ فإن العبد إذا علم أنه مراقب من قبل الله عز وجل، وأن عمله يَرى من الله تعالى سره ذلك، وهذا من طبيعة البشر؛ أنه إذا رأى من يكبره كشيخه أو والده أو من كلفه بعمل معين، وأمره أن يقوم به على الوجه الأكمل، ثم رأى أنه يطلع على عمله ويتابعه عليه وهو مخلص في ذلك سره هذا، كما هو معروف من طبيعة الإنسان، وجاءت الأديان مؤيدة لهذا الأمر، كون العبد يعمل العمل الصالح فيسره أن يُحمد به، فتلك عاجل بشرى المؤمن.

فكيف إذا علم أن الله عز وجل هو المطلع عليه؟! فلهذا سلى وعزى الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى فقال له: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ [الشعراء:217-218] والله عز وجل يرى نبيه في كل وقت، يراه حين يقوم، وحين ينام أيضاً، وفي الليل، وفي النهار، ويراه في كل حال، ولكنه خص هذا الوقت -وقت القيام- للسبب الذي ذكرت، وهو أن العبد محتاج فيه إلى الصبر والتثبيت؛ فلذلك ذكره الله عز وجل بأنه يراه.

وهذه الرؤية لها ما بعدها، فهو يحب هذا العمل منك ويشكره لك ويثيبك عليه؛ فلهذا كان من شأنه صلى الله عليه وسلم ما ذكرته عائشة كما في الصحيح: { أنه قام حتى تفطرت قدماه صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال عليه الصلاة والسلام:- أفلا أكون عبداً شكوراً}.

ولهذا لما عَرَّف النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان كما في حديث جبريل المشهور قال: {أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} أي: أنت بين أمرين: أن تعبد الله كأنك تراه وتنظر إليه، فحينئذٍ تصلح من عبادتك وتحسن من حالك ولا تألو ولا تمل، لكن إن لم يصل لك هذا ولم تستطعه؛ فإنه يراك أي: تذكرَّ أن الله عز وجل يراك، وتذكر العبد لرؤية الله عز وجل تحدث نشاط القلب واندفاع الهمة والدأب على العبادة والجلد عليها، فهذا من معاني قوله عز وجل: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الشعراء:218-220].

وفي الآية إثبات الرؤية لله جل وعلا وأنه يرى كل شيء، ولا يحجب رؤيته شيء من ظلام أو سهل أو جبل أو بر أو بحر أو غيره، وفيها أن من أسمائه عز وجل: السميع العليم.

انكشاف الخلق لله

قوله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105] هذه الآية من سورة التوبة وهي خطاب للمنافقين، الذين يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9] فيقول: وقل اعْمَلُوا أي: اعملوا ما شئتم، وعلى أنه خطاب للمنافقين، فهذا الأمر أمر تهديد ووعيد، كما في قوله عز وجل: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40] وكقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت}.

فيقول الله: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105] فأما رؤية الله عز وجل للعمل، فهي متحققة حال وقوعه، فإنه يقع برؤية من الله عز وجل، ويراه سبحانه حال وقوعه، هذا فضلاً عن علمه بهذا العمل قبل وقوعه، وعلمه به علم تحقق وقوعه بعدما يقع، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يكشف له صنيع هؤلاء، ويريه عملهم ويفضحهم.

وكذلك رؤية المؤمنين لهم في الدنيا بأن يعرفهم الله عز وجل على أعمال هؤلاء المنافقين، وقد يكشف لهم ما خفي من أمرهم؛ كما يحدث كثيراً أن الإنسان قد يستخفي بعمله حيناً من الدهر، ثم يفضحه الله في عقر داره.

ومهما تكن عند امرئ من خليقة      وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وقد جاء في حديث مرفوع وفيه ضعف: {ما أسر عبد سريرة إلا أظهرها الله تعالى على فلتات لسانه وعلى قسمات وجهه} وهذا مشاهد، فكم من إنسان يخادع ويتستر، لكن الله عز وجل يكشفه للمؤمنين، ويظهر حقيقة عمله، فهذا تحقق رؤية المؤمنين لهذا العمل في الدنيا.

وأما في البرزخ فقد جاء في آثار أيضاً فيها نظر؛ أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الأموات.

وأما في الآخرة: فالأمر حينئذ لا خفاء فيه ولا شك قال الله: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] فإن العبد يومئذ مكشوف، وكل شيء منه مكشوف، بدءاً ببدنه الذي لا يستره ساتر كما قال صلى الله عليه وسلم: {تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً }وكما قال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104].

فهو مكشوف الجسد مكشوف السريرة: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ [الطارق:9-10] مكشوف الماضي كله وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] وقال: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمران:30] وقال: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:12-13].

فيراه الناس ويسمعون ماذا عمل وماذا أخذ وماذا ترك، وأنه شقي أو سعيد، اللهم إلا المؤمن التائب؛ فإن الله تعالى يستره بذنبه حتى إذا وافى يوم القيامة قال الله عز وجل له: كما في حديث النجوى -حديث ابن عمر- {فعلت كذا فعلت كذا، قال: يا رب سترتها عليَّ في الدنيا فاغفرها لي، فيقول الله عز وجل: أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم} ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه!

وأما الكافر أو المنافق فكما أخبر تعالى: وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18] فيكون في ذلك فضيحة لهم وكشف لما كانوا يكنون في الدنيا وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].

وفي الآية إثبات الرؤية لله عز وجل، وأنه يرى كل مرئي سبحانه، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم {: إن الله تعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} فهو عز وجل يرى كل شيء، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في ظلمة الليل، لا يحجب بصره جبل ولا مرتفع ولا منحدر ولا شيء، بل الخلق كلهم بمرأى منه عز وجل: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد:8].

وهذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالتوكل عليه، فيقول: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الشعراء:217-220] فأمر الله عز وجل نبيه بالتوكل عليه وحده دون سواه والانقطاع إليه، ووصف عز وجل نفسه بقوله: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ [الشعراء:218] أي: حين تقوم ليلك للعبادة والتهجد، فالله تعالى يراك.

وهذا كما سبق في الآية قبلها؛ أن ذكر الرؤية في الخطاب مع المؤمنين هو نوع من التأييد والتطمين لهم، فإنه عز وجل يراك حين تقوم، تراوح بين قدميك بقيامك وركوعك وسجودك ودعائك وتضرعك.

فأنت بمرأى من الله عز وجل؛ ولذلك يكون المؤمن مرتاح النفس عارفاً عالماً أن عمله لا يضيع؛ فإن العبد إذا علم أنه مراقب من قبل الله عز وجل، وأن عمله يَرى من الله تعالى سره ذلك، وهذا من طبيعة البشر؛ أنه إذا رأى من يكبره كشيخه أو والده أو من كلفه بعمل معين، وأمره أن يقوم به على الوجه الأكمل، ثم رأى أنه يطلع على عمله ويتابعه عليه وهو مخلص في ذلك سره هذا، كما هو معروف من طبيعة الإنسان، وجاءت الأديان مؤيدة لهذا الأمر، كون العبد يعمل العمل الصالح فيسره أن يُحمد به، فتلك عاجل بشرى المؤمن.

فكيف إذا علم أن الله عز وجل هو المطلع عليه؟! فلهذا سلى وعزى الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى فقال له: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ [الشعراء:217-218] والله عز وجل يرى نبيه في كل وقت، يراه حين يقوم، وحين ينام أيضاً، وفي الليل، وفي النهار، ويراه في كل حال، ولكنه خص هذا الوقت -وقت القيام- للسبب الذي ذكرت، وهو أن العبد محتاج فيه إلى الصبر والتثبيت؛ فلذلك ذكره الله عز وجل بأنه يراه.

وهذه الرؤية لها ما بعدها، فهو يحب هذا العمل منك ويشكره لك ويثيبك عليه؛ فلهذا كان من شأنه صلى الله عليه وسلم ما ذكرته عائشة كما في الصحيح: { أنه قام حتى تفطرت قدماه صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال عليه الصلاة والسلام:- أفلا أكون عبداً شكوراً}.

ولهذا لما عَرَّف النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان كما في حديث جبريل المشهور قال: {أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} أي: أنت بين أمرين: أن تعبد الله كأنك تراه وتنظر إليه، فحينئذٍ تصلح من عبادتك وتحسن من حالك ولا تألو ولا تمل، لكن إن لم يصل لك هذا ولم تستطعه؛ فإنه يراك أي: تذكرَّ أن الله عز وجل يراك، وتذكر العبد لرؤية الله عز وجل تحدث نشاط القلب واندفاع الهمة والدأب على العبادة والجلد عليها، فهذا من معاني قوله عز وجل: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الشعراء:218-220].

وفي الآية إثبات الرؤية لله جل وعلا وأنه يرى كل شيء، ولا يحجب رؤيته شيء من ظلام أو سهل أو جبل أو بر أو بحر أو غيره، وفيها أن من أسمائه عز وجل: السميع العليم.

قوله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105] هذه الآية من سورة التوبة وهي خطاب للمنافقين، الذين يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9] فيقول: وقل اعْمَلُوا أي: اعملوا ما شئتم، وعلى أنه خطاب للمنافقين، فهذا الأمر أمر تهديد ووعيد، كما في قوله عز وجل: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40] وكقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت}.

فيقول الله: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105] فأما رؤية الله عز وجل للعمل، فهي متحققة حال وقوعه، فإنه يقع برؤية من الله عز وجل، ويراه سبحانه حال وقوعه، هذا فضلاً عن علمه بهذا العمل قبل وقوعه، وعلمه به علم تحقق وقوعه بعدما يقع، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يكشف له صنيع هؤلاء، ويريه عملهم ويفضحهم.

وكذلك رؤية المؤمنين لهم في الدنيا بأن يعرفهم الله عز وجل على أعمال هؤلاء المنافقين، وقد يكشف لهم ما خفي من أمرهم؛ كما يحدث كثيراً أن الإنسان قد يستخفي بعمله حيناً من الدهر، ثم يفضحه الله في عقر داره.

ومهما تكن عند امرئ من خليقة      وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وقد جاء في حديث مرفوع وفيه ضعف: {ما أسر عبد سريرة إلا أظهرها الله تعالى على فلتات لسانه وعلى قسمات وجهه} وهذا مشاهد، فكم من إنسان يخادع ويتستر، لكن الله عز وجل يكشفه للمؤمنين، ويظهر حقيقة عمله، فهذا تحقق رؤية المؤمنين لهذا العمل في الدنيا.

وأما في البرزخ فقد جاء في آثار أيضاً فيها نظر؛ أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الأموات.

وأما في الآخرة: فالأمر حينئذ لا خفاء فيه ولا شك قال الله: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] فإن العبد يومئذ مكشوف، وكل شيء منه مكشوف، بدءاً ببدنه الذي لا يستره ساتر كما قال صلى الله عليه وسلم: {تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً }وكما قال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104].

فهو مكشوف الجسد مكشوف السريرة: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ [الطارق:9-10] مكشوف الماضي كله وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] وقال: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمران:30] وقال: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:12-13].

فيراه الناس ويسمعون ماذا عمل وماذا أخذ وماذا ترك، وأنه شقي أو سعيد، اللهم إلا المؤمن التائب؛ فإن الله تعالى يستره بذنبه حتى إذا وافى يوم القيامة قال الله عز وجل له: كما في حديث النجوى -حديث ابن عمر- {فعلت كذا فعلت كذا، قال: يا رب سترتها عليَّ في الدنيا فاغفرها لي، فيقول الله عز وجل: أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم} ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه!

وأما الكافر أو المنافق فكما أخبر تعالى: وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18] فيكون في ذلك فضيحة لهم وكشف لما كانوا يكنون في الدنيا وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].

انتقل المصنف رحمه الله إلى نوع آخر من الآيات الكريمات المتعلقة بالمكر والكيد والمحال، والمحال: اختلفت عبارة السلف في تعريفه، فقال بعضهم: البطش، وقال بعضهم: الكيد والمكر، وهذا هو المتبادر، أي: شديد المكر والكيد بأعدائه.

ومكره عز وجل وكيده بأعدائه يأخذ صوراً شتى؛ فإنه عز وجل يوصف بهذا وصفاً مقيداً لا وصفاً مطلقاً، مثل المحال والكيد والمكر، فهذه يوصف الله تعالى بها وصفاً مقيداً، فيقال: يمكر بأعدائه، أو يمكر بمن يمكر به، أو يمكر بمن يمكر بالمؤمنين، وما أشبه هذا، ولا يوصف بذلك وصفاً مطلقاً؛ لأن هذا ليس من الأسماء الحسنى، ولا من الصفات العلى التي يوصف بها بإطلاق، كالكرم والقوة والعزة وما أشبه ذلك، بل هذا يحمد في حال ويذم في حال؛ ولهذا لا يوصف الله عز وجل به على سبيل الإطلاق، وليس من الأسماء الحسنى.

وكذلك لا يشتق له عز وجل منها اسم ولا صفة مطلقاً، فلا يقال من أسمائه الماكر مثلاً ولا الكائد، بل حتى الأشياء التي ليست مدحاً محضاً ولم ترد في الكتاب والسنة، فإنه لا يسمى بها، فلم يرد -مثلاً- في أسمائه عز وجل أنه المتكلم ولم يرد في أسمائه المريد، وإن كان متكلماً يتكلم متى شاء عز وجل بما شاء، وإن كان فعالاً لما يريد، يريد ما شاء ويفعل ما يريد، ولكنه لم يرد وصفه بذلك في الكتاب والسنة.

وأشد من ذلك: الكيد والمحال والمكر، فإن الله عز وجل لا يوصف بها وصفاً مطلقاً، وكذلك لا يشتق له منها اسم، فلا تقول من أسمائه الماكر أو الكائد؛ لأن المكر منه حسن وقبيح، ومنه محمود ومنه مذموم، فأما المكر بالماكرين من الكافرين والمستهزئين والفجار وأشباههم فهو محمود، وهو الذي ذكره الله عز وجل عن نفسه، وأما ما سوى ذلك فهو مذموم.

ولهذا لم يرد المكر والكيد وما أشبههما في الكتاب إلا مقيدة، ولهذا قال الله عز وجل هاهنا: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13] في سياق صنيعه عز وجل بأعدائه وأعداء رسله، أي أنه شديد المكر والكيد بهم.

ومن مكره بهم جل وعلا وكيده لهم: أنه يستدرجهم قال تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:182] ويملي لهم وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183] حتى إذا أخذهم أخذهم أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كما قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] وكما قال: فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:42].

وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} وكما قال سبحانه في غير موضع: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:182-183] وكما قال: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً [آل عمران:178]... إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، التي ذكر الله عز وجل فيها أنواعاً من كيده ومكره بأعدائه ومحاله بهم، أنه يماحلهم ويمكر ويكيد بهم عز وجل؛ لكفرهم وعتوهم وفسادهم ومناوءتهم لأنبيائه ورسله والصالحين من عباده.

قصة عيسى واليهود

قوله عز وجل: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54] هذا جاء في سياق اليهود وكيدهم بعيسى عليه الصلاة والسلام، وذلك -كما هو معروف في الروايات الإسرائيلية- أنهم أرادوا قتل عيسى عليه الصلاة والسلام، فدخل بيتاً فدخل وراءه أحد الخونة من أتباعه ليدل اليهود عليه، فرفع الله عيسى إليه فلم يجده هذا الرجل، ثم ألقى الله شبه عيسى على ذلك الرجل من أتباعه، فخرج فقال: ما وجدت في البيت أحداً، فشبه لهم فظنوه عيسى فقتلوه.

فلاحظ أولاً كيف وقى الله عز وجل نبيه ورسوله من كيدهم بل رفعه الله إليه، كما قال عز وجل عن اليهود وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:157-158] وقال في الآية الأخرى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157] فألقي الشبه على ذلك الرجل فقتلوه.

فانظر كيف وقى الله نبيه منهم، وانظر كيف مكر الله عز وجل بهذا الخائن، فألقى عليه شبه عيسى، فدارت الدائرة عليه ووقع السيف في رقبته، فظن اليهود أنهم قتلوا عيسى.

ولذلك ينـزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان حكماً عدلاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنـزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، وتخرج خيراتها الأرض في زمنه.

وخروج عيسى عليه السلام متواتر في الآيات والأحاديث، وذكره الله تعالى في مواضع من كتابه كما في قوله: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف:61] وفي قراءة وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف:61] بفتح العين واللام في كلمة (لَعَلَمٌ) وكما في قوله عز وجل: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [النساء:159].

وأما الأحاديث فهي كثيرة جداً، منها حديث في الصحيحين، وساق ابن كثير في سورة المائدة طائفة كثيرة منها، وهي أحاديث تبلغ مبلغ التواتر؛ ولذلك كان الإيمان بنـزوله من أصول عقائد أهل السنة والجماعة.

وكأن نـزوله عليه الصلاة والسلام -والله تعالى أعلم- مربوط بخدعة أخرى من خدع اليهود مثل التي حصلت أول مرة حين رفع، فإن رفعه كان مكراً من الله عز وجل بـاليهود والنصارى الذين أرادوا قتله، فكذلك نـزوله هو أيضاً مكر بهم.

ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحصل بين عيسى وبين الدجال، والدجال هو زعيم من زعماء اليهود، يتبعه سبعون ألفاً من يهود أصبهان عليهم الطيالسة، ويسيح في الأرض، ويتبعه الفساق والكفار والمنافقون من كل مكان.

فبعد حيلة من حيل اليهود وارتفاع من شأنهم؛ ينـزل عيسى مرة أخرى ليقطع الله به دابرهم ودابر إخوانهم من النصارى، والأمر أقرب ما يكون، فهذا معنى قوله عز وجل: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54].

عظات وعبر

وفي الآية عبرة وأي عبرة أيها الإخوة! أن أعداء الدين يخططون ولا يألون جهداً؛ لأن المكر بالنسبة لهم دقة التخطيط، فيخططون وينتبهون لكل دقيق وجليل، ويضعون أعينهم ويرتبون، ويحسبون لكل شيء حسابه، هذا مكرهم هم، مكر البشر مكر الإنسان، مكر الليل والنهار، ولكن قارن مكرهم بمكر رب العالمين: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50].

والآية التي قبلها في المكر: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54] فهؤلاء مكروا، والله عز وجل مكر بهم، كما قال الله عز وجل: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:46] مكرهم ليس بالسهل بل هو عظيم!

ونحن نرى اليوم مكر الكافرين وكيدهم، شيء تشيب منه الرءوس، يشتغلون وَيَصِلُون الليل بالنهار؛ في التخطيط للمسلمين والإيقاع بهم وحصرهم وأخذهم في الضحى من النهار، وهكذا خيل إليهم وظنوا أن الأمور قد استحكمت بأيديهم، وأنه لا أحد ينافسهم ولا يهيجهم ولا يغير من سلطانهم، لكنهم نسوا الأمر الثاني.

أما نحن المؤمنين فلا يمكن أن ننسى هذا، وإلا فسوف نفضي إلى اليأس، لا ننسى وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54] ولا ننسى وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50] فالقرب من الكفار واليهود والنصارى لا يعتقدون قضية مكر رب العالمين.

بل هم يعتقدون أن كل الأمور بأيديهم، وأن القوة بأيديهم والتخطيط لهم، وأجهزة أمنهم ومخابراتهم وقواهم ومباحثهم وجهودهم ودراساتهم ومراكز أبحاثهم مهيمنة، وأن الأمر قد استوثق في أيديهم واستتب لهم، لماذا؟

لأنهم كما أخبر الله عز وجل لا يشعرون.

ولذلك موسى عليه الصلاة والسلام تربى في بيت فرعون، فهذا من عدم شعورهم؛ لأن فرعون يمكر بالمؤمنين، ويقتل بني إسرائيل ويستحيي نساءهم، كما هو معروف، فهذا هو مكره، وهو مكر البشر الضعيف الهزيل، لكن مكر رب العالمين عظيم فقد كتب الله هلاك فرعون على يد موسى الذي تربى في حجره، وعلى يد زوجته، وفي قصره، ويأكل من نعمه: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50].

فالمؤمن دائماً يضع هذا في حسابه؛ لأن حسابات البشر تخطئ، وتنتبه لأمر وتنسى مائة، والله عز وجل هو الرقيب والمحيط المطلع على كل شيء ولهذا يضيع مكرهم أدراج الرياح، ويحبط الله عز وجل صنيعهم وما يسعون ويخططون له.

قصة صالح وقومه

قوله عز وجل: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50] أيضاً لها سياق، وهو في قصة قوم صالح: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النمل:49] أي: نقتله ونقتل أهله في الليل بياتاً ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:49] أي: ليس عندنا خبر عن الموضوع.

هذه خطة وهذا مكر البشر الضعيف الهزيل، يستسهل بالأمر فيفضحه الله عز وجل، يخطط لشيء فيحبط الله خطته وما سعى إليه.

فهذا مكرهم؛ أنهم يقتلونه ثم ينكرون ذلك، فقال الله عز وجل: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50] مكرهم كبير، لكن مكر رب العالمين أكبر فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [النمل:51-52].

هذا هو الفرق بين مكر الله ومكر العباد هم قد خططوا واجتمعوا بالليل سراً وتقاولوا واتفقوا على قتل النبي وقتل من معه وإنكار ذلك وجحوده، لكنه ما تم ولم يستمر، انظر كيف كان عاقبة مكرهم! لكن مكر رب العالمين ظهرت آثاره: أنا دمرناهم وقومهم أجمعين.

ولذلك قد يخطط العبد الخطط، وقد كتب الله عز وجل أن يقبض روحه قبل أن توضع هذه الخطة موضع التنفيذ، وقد تخطط أمة من الأمم وقد كتب الله عليها الانهيار قبل أن تحقق ما تريد، وقد يشتغل قوم وقد كتب الله لهم الخسف أو الزلزال أو المسخ أو الريح العاصف أو الطوفان أو الفيضان أو الغرق وهم لا يشعرون قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31].

فالخلاصة: أن معنى هذه الآيات كما في قوله: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً [النمل:50] وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ)[آل عمران:54] وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال:30] أن الله عز وجل يوصف بالمكر وصفاً مقيداً، أنه يمكر بأعدائه، يمكر بالماكرين، يمكر بالكافرين، ولا يوصف بذلك وصفاً مطلقاً.

وكذلك قوله عز وجل: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13] ومثله قوله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق:15-17] فهو يثبت الكيد لله عز وجل بمن يكيد لرسله وأنبيائه وأوليائه والصالحين من عباده.

ويكيد أيضاً للصالحين، بمعنى: أنه يصنع لهم صنعاً خفياً مما تكون فيه نجاتهم.

ولعل من الآيات التي ذكرتْ ذلك قوله تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76] فإن الكيد هو التدبير اللطيف الخفي، الذي قد لا يدركه الإنسان، فكذلك الله تعالى كاد ليوسف، بمعنى: أنه كاد كيداً له لمصلحته ولخيره، فكان يقع ليوسف عليه السلام كثير من الأمور التي يظنها الناس شراً، مثل ترك إخوته وإلقائهم له في الجب، ومضايقته وبيعه، وكونه في قصر العزيز، ومراودة امرأة العزيز له عن نفسه، وسجنه... إلى غير ذلك، ثم تبين أن هذا كله كان من تدبير الله عز وجل التدبير اللطيف الخفي ليوسف عليه الصلاة والسلام.

قوله عز وجل: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54] هذا جاء في سياق اليهود وكيدهم بعيسى عليه الصلاة والسلام، وذلك -كما هو معروف في الروايات الإسرائيلية- أنهم أرادوا قتل عيسى عليه الصلاة والسلام، فدخل بيتاً فدخل وراءه أحد الخونة من أتباعه ليدل اليهود عليه، فرفع الله عيسى إليه فلم يجده هذا الرجل، ثم ألقى الله شبه عيسى على ذلك الرجل من أتباعه، فخرج فقال: ما وجدت في البيت أحداً، فشبه لهم فظنوه عيسى فقتلوه.

فلاحظ أولاً كيف وقى الله عز وجل نبيه ورسوله من كيدهم بل رفعه الله إليه، كما قال عز وجل عن اليهود وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:157-158] وقال في الآية الأخرى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157] فألقي الشبه على ذلك الرجل فقتلوه.

فانظر كيف وقى الله نبيه منهم، وانظر كيف مكر الله عز وجل بهذا الخائن، فألقى عليه شبه عيسى، فدارت الدائرة عليه ووقع السيف في رقبته، فظن اليهود أنهم قتلوا عيسى.

ولذلك ينـزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان حكماً عدلاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنـزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، وتخرج خيراتها الأرض في زمنه.

وخروج عيسى عليه السلام متواتر في الآيات والأحاديث، وذكره الله تعالى في مواضع من كتابه كما في قوله: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف:61] وفي قراءة وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف:61] بفتح العين واللام في كلمة (لَعَلَمٌ) وكما في قوله عز وجل: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [النساء:159].

وأما الأحاديث فهي كثيرة جداً، منها حديث في الصحيحين، وساق ابن كثير في سورة المائدة طائفة كثيرة منها، وهي أحاديث تبلغ مبلغ التواتر؛ ولذلك كان الإيمان بنـزوله من أصول عقائد أهل السنة والجماعة.

وكأن نـزوله عليه الصلاة والسلام -والله تعالى أعلم- مربوط بخدعة أخرى من خدع اليهود مثل التي حصلت أول مرة حين رفع، فإن رفعه كان مكراً من الله عز وجل بـاليهود والنصارى الذين أرادوا قتله، فكذلك نـزوله هو أيضاً مكر بهم.

ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحصل بين عيسى وبين الدجال، والدجال هو زعيم من زعماء اليهود، يتبعه سبعون ألفاً من يهود أصبهان عليهم الطيالسة، ويسيح في الأرض، ويتبعه الفساق والكفار والمنافقون من كل مكان.

فبعد حيلة من حيل اليهود وارتفاع من شأنهم؛ ينـزل عيسى مرة أخرى ليقطع الله به دابرهم ودابر إخوانهم من النصارى، والأمر أقرب ما يكون، فهذا معنى قوله عز وجل: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54].




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5007 استماع
حديث الهجرة 4966 استماع
تلك الرسل 4144 استماع
الصومال الجريح 4140 استماع
مصير المترفين 4078 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4043 استماع
وقفات مع سورة ق 3969 استماع
مقياس الربح والخسارة 3922 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3862 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3821 استماع