خطب ومحاضرات
الوسطية في منهج أهل السنة والجماعة
الحلقة مفرغة
أحمد الله تبارك وتعالى وأثني عليه بما هو أهله، وأستغفره وأستهديه وأتوب إليه وأؤمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدٌ عبدُ الله ورسولُه الداعي إلى سبيل ربه صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فسلام الله عليكم جميعاً ورحمته وبركاته.
الموضوع -كما في ضمن هذه السلسلة التي يعقدها هذا المسجد المبارك في منهج أهل السنة والجماعة - هو ما رغب الإخوة المنظمون أن يكون تحت عنوان الوسطية في منهج أهل السنة والجماعة .
وعناصر الموضوع -حسب الوقت المتاح- كالتالي:
لماذا الحديث عن الوسطية؟
تعريف بـأهل السنة والجماعة .
عرض لأهم خصائصهم ومعالم منهجهم.
حديث عن الوسطية ومظاهرها.
أما لماذا الحديث عن الوسطية؟:
فذلك لأن الأمة الإسلامية -ولا سيما في حالها المعاصر- تعيش ضَعفاً ظاهراً في كثير من ديارها وأحوالها، ومن أظهر مظاهر الضعف: ظهور طرفي الإفراط والتفريط والغلو والجفاء بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج:45] و-مع الأسف- أن هذا كما هو حال كثير من عموم المسلمين، فهو موجود في بعض من ينتسبون إلى الدعوة والعلم والإصلاح، ففيهم من غلا وأفرط، فنشأت فيهم جماعات تكفير وهجرة، وهناك من فرط وجفا، وأضاع معالم الدين والعقيدة، بقصد جمع الناس ووحدة الصف، ففشى الإرجاء، وانطمس عندهم معالم التوحيد وحقيقة العبادة، والمسلك الوسط في ذلك هو اقتفاء الأثر، وتبين الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، سلوك هذا المسلك حتى يتبين غلو الغالين، وانتحال المبطلين، وتفريط الكسالى والمرجئين، ودعاوى المنهزمين والمرجفين على حد قوله سبحانه وتعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
معنى الوسطية في اللغة والشرع
فلا يبدو لي أن هناك حاجة إلى بيان معنى الوسطية بشكل مفصل، ولكن يكفي أن نشير إلى أن الوسط في لغة العرب، وفي مختار القرآن الكريم في الوسط والأوسط والوسطى، وأوسطهم هو: معنىً يجمع بين العدل والفضل والخيرية والجودة والرفعة والمكانة العلية والنَّصَف، كما أنه: توسطٌ بين طرفين، أي: بين رغيدتين، كما قالوا: خير الأمور أوسطها، والفضيلة وسط بين رغيدتين.
ولقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الأمة وسطاً في كل أمور الدين، فلها من الدين أكمله، ومن الأخلاق أجلها، ومن الأعمال أفضلها على ما سوف يأتي لهذا من مزيد تفصيل إن شاء الله.
أما الوسط والوسطية من حيث المعنى:
فلا يبدو لي أن هناك حاجة إلى بيان معنى الوسطية بشكل مفصل، ولكن يكفي أن نشير إلى أن الوسط في لغة العرب، وفي مختار القرآن الكريم في الوسط والأوسط والوسطى، وأوسطهم هو: معنىً يجمع بين العدل والفضل والخيرية والجودة والرفعة والمكانة العلية والنَّصَف، كما أنه: توسطٌ بين طرفين، أي: بين رغيدتين، كما قالوا: خير الأمور أوسطها، والفضيلة وسط بين رغيدتين.
ولقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الأمة وسطاً في كل أمور الدين، فلها من الدين أكمله، ومن الأخلاق أجلها، ومن الأعمال أفضلها على ما سوف يأتي لهذا من مزيد تفصيل إن شاء الله.
أما ما يتعلق بتعريف أهل السنة والجماعة :-
فأهل السنة والجماعة يُطلَق بإطلاقين:
إطلاق عام.
إطلاق خاص.
الإطلاق العام: يطلق على أهل السنة والجماعة مقابل الشيعة والخوارج .
ويطلق بإطلاق خاص: وهو مقابل جميع المخالفين من أهل الأهواء. وهذا هو المراد هنا، فالمراد به السلف ، وأهل السنة والجماعة ، وأهل الحديث ممن برز مذهبهم ومنهجهم وبخاصة في إثبات الصفات لله عزَّ وجلَّ، وقولهم في القرآن بأنه غير مخلوق، وإثبات رؤية الله عزَّ وجلَّ في الآخرة، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل السنة والجماعة .
المراد بالسنة والجماعة
والمراد بالجماعة: الاجتماع الذي هو ضد الافتراق، فتَسَمَّى أهلُ السنة والجماعة بهذا الاسم؛ لأنهم أهل سنة تمسكوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، واقتفوا طريقته باطناً وظاهراً في الاعتقادات والأقوال والأعمال، وهم الجماعة؛ لأنهم جدُّوا في الاجتماع على الحق والأخذ به، واجتمعوا على أئمتهم، وعلى الجهاد، وعلى السنة والاتباع، وترك الابتداع والأهواء.
مسميات أخرى لأهل السنة والجماعة
وهم السلف إذ المراد بـالسلف : الصحابة رضي الله عنهم وتابعوهم وأتباعهم إلى يوم الدين، وقد يراد بـالسلف : القرون المفضلة الثلاثة الأولى.
ومن هنا فإن منهج أهل السنة والجماعة ومذهبم على جهة الإجمال: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وأعيان التابعين لهم بإحسان وأتباعهم وأئمة الدين ممن شُهِدَ له بالإمامة وعُرِفَ عِظَمُ شأنِه في الدين، وتلقى الناس كلامَهم خلفاً عن سلف دون مَن رُمِي ببدعةٍ، أو شُهِر بتوجهٍ غير مرضٍ، من أمثال: القدرية ، والمرجئة ، والجبرية ، والجهمية ، والمعتزلة ، وغيرهم.
والسنة هي: الطريقة المسلوكة في الدين الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون على حد قوله صلى الله عليه وسلم في الفرقة الناجية : {... مَن كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي }.
والمراد بالجماعة: الاجتماع الذي هو ضد الافتراق، فتَسَمَّى أهلُ السنة والجماعة بهذا الاسم؛ لأنهم أهل سنة تمسكوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، واقتفوا طريقته باطناً وظاهراً في الاعتقادات والأقوال والأعمال، وهم الجماعة؛ لأنهم جدُّوا في الاجتماع على الحق والأخذ به، واجتمعوا على أئمتهم، وعلى الجهاد، وعلى السنة والاتباع، وترك الابتداع والأهواء.
كما أنهم هم أهل الحديث والأثر لشدة عنايتهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم روايةً ودرايةً واتباعاً، فهم يقدمون الأثر على النظر.
وهم السلف إذ المراد بـالسلف : الصحابة رضي الله عنهم وتابعوهم وأتباعهم إلى يوم الدين، وقد يراد بـالسلف : القرون المفضلة الثلاثة الأولى.
ومن هنا فإن منهج أهل السنة والجماعة ومذهبم على جهة الإجمال: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وأعيان التابعين لهم بإحسان وأتباعهم وأئمة الدين ممن شُهِدَ له بالإمامة وعُرِفَ عِظَمُ شأنِه في الدين، وتلقى الناس كلامَهم خلفاً عن سلف دون مَن رُمِي ببدعةٍ، أو شُهِر بتوجهٍ غير مرضٍ، من أمثال: القدرية ، والمرجئة ، والجبرية ، والجهمية ، والمعتزلة ، وغيرهم.
قبل أن ندخل إلى صلب الموضوع، لا مانع أن نذكر أهمية منهج أهل السنة والجماعة :
تنبع أهمية هذا المنهج من أهمية الدين نفسه والعقيدة نفسها، وضرورة العمل الجاد الدءوب لأخذ الناس بالحق وأخذهم بدين الله عزَّ وجلَّ، وذلك لأمور منها:
من معالم أهل السنة تعظيم الكتاب والسنة والاعتصام بهما
هذا المنهج يجعل المسلم يُعَظِّم نصوص الكتاب والسنة، وتعصمه -بإذن الله- مِن رَدِّ معانيها، أو التلاعب في تفسيرها فيما يوافق الهوى.
وهذا المنهج يربط المسلم بـالسلف من الصحابة ومَن تبعهم، فتزيده عزة وإيماناً وافتخاراً، فهؤلاء السلف من الصحابة ومَن سار على نهجهم هم سادة الأولياء وأئمة الأتقياء.
وهذا المنهج يتميز بوضوح، حيث إنه يتخذ من الكتاب والسنة منطلقاً في التصور والفَهم، بعيداً عن التأويل والتعطيل والتشبيه، وينجي -بإذن الله- المتمسك به من هلكة الخوض في ذات الله، ورَدِّ النصوص من كتاب الله وسنة نبيه محمدٍِ صلى الله عليه وسلم، ومِن ثَمَّ تُكسِب صاحبَها الرضا والاطمئنان لدين الله وأمره وقدره وتقديره، ولا يكلف العقل التفكير فيما لا طاقة له به من الغيبيات، فهذا المنهج سهل ميسر بعيد عن التعقيد والتعجيز، ولهذا جاء الأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: [[من كان مستناً، فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونَقْل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على هدىً مستقيم ورب الكعبة ]] ومن ضمن ذلك مقالة ابن مسعود رضي الله عنه المحفوظة في قوله: [[إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً، فهو عند الله سيئ ]].
عدم التعصب لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذا المنهجٌ يجعل الكتاب والسنة هو الإمام، ويجعل طلب الدين مِن قِبَلِهِما، أي: مِن قِبَل الكتاب والسنة، وما وقع في العقول والخواطر والآراء، فإنه يُعرَض على الكتاب والسنة، فإن كان موافقاً قُبِل، وإن وُجِدَ مخالفاً تُرِك، وليس إقبالٌ إلا على كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ومِن ثَمَّ صاحب هذا المنهج إذا وَجَد في نفسه حرجاً، فإنه يرجع بالتهمة على نفسه، فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق، وإلى التي هي أقوم، ورأي الإنسان قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً.
أهل السنة ليس لهم انتساب خاص
جميعُ كتبهم المصنفة مِن أولها إلى آخرها في باب الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يَجْرُون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، بل لو أنك جمعت ما كتبوه وما نقلوه عن سلفهم، لوجدته وكأنه قد جاء عن قلب رجل واحد، وجرى على لسان رجل واحد، ولهذا قال أبو المظفر السمعاني : وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل، فأورثهم الاجتماع والائتلاف، فإن النقل والرواية من الثقاة المتقنين قَلَّما تختلف، وإن اختلفت في لفظة أو كلمة، فذلك الاختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه، وأما المعقولات والآراء والخواطر فقَلَّما تتفق، فعقل كل واحد ورأيه وخاطره، يُرِي صاحبه غير ما يُرِي الآخر.
من خصائص أهل السنة تبنيهم للتوحيد والدعوة إليه
وقضية التوحيد وضدها الشرك، تحتاج إلى وقفة حقيقية لأنها فعلاً ميزة، وهي -مع الأسف- محل تردد عند بعض الناس.
إن من المعلوم تميز هذه البلاد بخاصة -ولله الحمد- بتبنيها لقضية التوحيد والدعوة إليه، وبروز ذلك بروزاً بيناً مما دعا بعضَ الناس والمفكرين وبعض الذين لم يتبينوا المنهج ولم يميزوا، أو بعض المخالفين، لما رأى إصرارَنا على الحديث عن التوحيد والالتزام به والدعوة إليه وتعليمه وتربية الناس عليه ما كان من أمثال هؤلاء إلا أن قالوا: إن هذا المنهج كأنه يشير بأننا نَتَّهِم الناس في عقائدهم، وحقيقةً هذا يحتاج إلى وقفة كبيرة.
فالدعوة إلى التوحيد هي طريق القرآن، والدعوة إلى التوحيد ليست للمشركين فقط ومن قال: إنه لا يُدْعى إلى التوحيد، ولا يُذَكَّر بالتوحيد إلا المشركون فهذا غير صحيح، والقرآن كله حديث عن التوحيد وعن ضده، كما وصف ذلك ابن القيم رحمه الله.
فالله عزَّ وجلَّ حينما ذكر عباد الرحمن وذكر صفاتهم، ومعلوم أن عباد الرحمن مؤمنون، بل إنهم هم الصفوة الذين يُقتَدى بهم، قال سبحانه: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:63-67] هذه كلها صفات لا تلفت النظر من حيث أنها فعلاً صفات سلوكية، وصفات عبادات وتعبد، لكن قال بعدها: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الفرقان:68] مع أن الله سبحانه وتعالى سماهم عباد الرحمن، ولا شك أن كلمة عباد الرحمن تعني: أنهم مستقيمون على الطريقة، لكن من صفاتهم: أنهم لا يدعون مع الله إلهاً آخر، مما يدل على أن قضية التوحيد قضية دقيقة.
وفي قوله سبحانه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء:36] العلماء رحمهم الله وقفوا عند هذه الآية وقفة عجيبة ودقيقة، فكلمة (شيئاً) نكرة وفي سياق النهي تفيد العموم، وقد ذكر العلماء التقدير المحذوف، فقالوا: إن التقدير: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً من الأشياء، فإذا حاولت أن تفهم هذا الفهم الدقيق من المعنى، لا تشركوا به شيئاً من الأشياء، مهما قل، أي: أدنى تعلق بغير الله عزَّ وجلَّ، فهو صورة من صور الشرك المحذوف.
فالتقدير الأول: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً من الأشياء.
والتقدير الثاني: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً من الشرك.
فشيئاً من الأشياء، أي: شيئاً من المعبودات سواء أكان ذباباً أو أقل من ذباب.
وشيئاً من الشرك، أي: شيئاً من أدنى تعلُّق بقلبك، فأنت على خطر؛ لأن الله عزَّ وجلَّ يقول: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106].
إذاً حينما نقول: إن من منهجهم الدعوة إلى توحيد الله عزَّ وجلَّ، فلأنها هي طريقة القرآن.
وإن شئتم مزيد إيضاح، فالله عزَّ وجلَّ حذر من الشرك حتى في خطابه الأنبياء، وحاشاهم أن يشركوا، وذكر من سيرهم أنهم يحذرون أبناءهم، وأبناؤهم على الحق، فالله عزَّ وجلَّ يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] وحاشاه أن يشرك، فهل هذا كان اتهاماً للنبي صلى الله عليه وسلم في عقيدته أو في توحيده؟!
إنما هي طريقة القرآن، فالله عزَّ وجلَّ قال لإبراهيم، وإبراهيم هو صاحب الملة الحنيفية، والذي أُمِر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم باتباعه، قال له: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً [الحج:26] حاشا إبراهيم عليه االسلام أن يشرك، وهو صاحب الملة الحنيفية، وهو الذي قال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم:35] ولهذا قال إبراهيم النخعي : "ومَن يأمن الفتنة بعد إبراهيم؟" وهو الذي قال: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] وكذلك في آيات كثيرة منها قول الله عزَّ وجلَّ لنبيه: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً [الإسراء:22] وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً [الإسراء:39] وحاشاه عليه السلام أن يُشرك.
إذاً مِن أصول أهل السنة والجماعة، ومن منهجهم: الدعوة إلى التوحيد.
يأتي ولهذا لو فكرت -فعلاً- كيف لو أن الناس تُرِكُوا من التعاهد بتوحيد الله عزَّ وجلَّ! لا شك أنهم سينحرفون، ولهذا كثرت صور الشرك الموجودة في كثير من بلاد المسلمين من التعلق بالقبور، ودعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، وأشياء كثيرة مما هو شرك أكبر يخرج من الملة، فالناس تضعُف، ولعلك تـلاحظ -مع الأسف- حتى في بلادنا لما ضعُف تركيز علمائنا رحمهم الله في التربية والتعليم، بدأ يظهر قبول الشعوذات والسحر، والكهانة، وشيء ما كنا نعهده، مما يدل على أن النفوس ضعيفة.
إن النفوس ولو كانت مؤمنة، ولو كانت تشهد أن لا إله إلا الله وتشهد أن محمداً رسول الله، وتؤمن بالله عزَّ وجلَّ، وتؤمن بتوحيد الربوبية، وتؤمن بحق الله عزَّ وجلَّ وقوته وقدرته وتدبيره، لكن فيها ضعفاً، فتحتاج دائماً أن تعاهَد بالتوحيد، وتعاهَد بالإخلاص إلى الله عزَّ وجلَّ، والتعلق به، وتجريد العبادة له سبحانه وتعالى، وإفراده بالعبادة بأنواعها.
إذاً فمن المنهج: الدعوة إلى توحيد الله عزَّ وجلَّ، والتحذير من ضده الذي هو الشرك بشتى ضروبه وصنوفه مهما دَقَّ، كيف والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {الشرك أخفى من دبيب النملة السوداء في ليلةٍ ظلماء على صخرةٍ سوداء } أخفى؛ لأنه لا يُرَى مما يدل على عِظَم الأمر، وشدة خطره وضرورة التذكير به والدعوة إليه، وتحذير الناس من الشرك، وبيان التوحيد.
من منهج أهل السنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الآية الأولى: في حق المنافقين، قول الله عزَّ وجلَّ: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67].
والآية الأخرى: في حق المؤمنين، قوله سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
وبالمقارنة بين هاتين الآيتين يتبين الفرق الكبير، والمقصود فعلاً بحياة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منهجاً.
الآية الأولى: [التوبة:67] (مِنْ) هنا جنسية، يعني كما تقول: هذا مِن هذا، أو هذا البيض مِن هذا البيض، بمعنى: هم متجانسون في الطباع، كأنك تقول: هذا من هذا [التوبة:67] جنس واحد، كما تقول العامة أحياناً في بعض الأقاليم: البيض الفاسد يتدحرج مع بعضه، هذه معنى مِنْ بَعْضٍِ [التوبة:67] أجناس مِن بعض.
أما أهل الإيمان، فـ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] بمعنى أن بينهم نصرة، بينما المنافقين لا نصرة بينهم، لأن أصلَ النفاق تَلَوُّنٌ، والنفاق سَيْر على حسب المصالح لا على حسب المصلحة الحقيقية ولا على حسب الحق، وإنما على حسب الهوى، ولهذا فإن المنافق يسير على هواه، أو على هوى مَن يخافه، فمن هنا كان بعضهم من بعض.
أما أهل الإيمان المؤمنون بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] متناصرون، فما هي مظاهر النصرة؟
ليست المجاملة، ولا النفاق، وإنما: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71] مع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لو أقيم على وجهه فإنه ثقيل، لكن نظراً لأن الذين بينهم ولاء، ونصرة وتعاقد على الحق كان مظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فاشياً، بل مسلكاً مِن مسالكهم، لأنك لو تأملتَ في طبائع النفوس، فإن الأمر بالمعروف شاق، والنهي عن المنكر كذلك شاق، فإذا رأيت أخاك على منكر، ثم نهيته عنه، فإن هذا ثقيل على النفس؛ لكن لِمَا وقر في النفس من إيمان، وفي القلب من يقين والتزام أصبح هذا منهجاً ومقبولاً، بل أصبح هذا هو مظهر من مظاهر المؤمنين: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71].
من منهج أهل السنة ضبط العلاقة بين التوكل والأسباب
تنبع هذه القضية من صفاء المنهج وصفاء العقيدة، وهي أنه لا تختلط عليه ما يتعلق بالإيمان بالله عزَّ وجلَّ، والإيمان بقضائه وقدره، والتوكل عليه، وتسليم الأمر له، وأنه سبحانه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا خافض لما رفع، ولا رافع لما خفض، هذه كلها قضايا راسخة في قلب المؤمن، وهذا لا يعني إنكار الأسباب، فالمؤمن الحق يعلم أن الله سبحانه وتعالى وضع في هذه الدنيا سنناً، وأن هذه السنن إذا أخذ بها العبد بإذن الله، فإنها تنتج آثارها، فيأخذ بالسبب، ويقوم بمهمة الاستخلاف؛ لأن الله سبحانه وتعالى استخلفه في هذه الأرض ليعمرها هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود:61] فهو يربط بين الأسباب، فيأخذ بها، ويحتاط لنفسه، وبين الإيمان بالله عزَّ وجلَّ، بمعنى أن السبب إذا لم ينتج، فإنه لا ينتكس،؛ لأنه يعلم أن من وراء الأسباب رب الأرباب، ولهذا يكون على عقيدة مطمئنة، يأخذ بالسبب، فإنه إذا تزوج، والزواج سبب للإنجاب بإذن الله، فإذا لم يأته ولدٌ، رضي وسلَّم، فهو قد أخذ بالسبب، لكنه لم يضطرب، ولم ينتكس حينما لم ينتج السبب؛ لأنه يعلم أن الله سبحانه وتعالى من وراء الأسباب، وأن الكون كونه، والتدبير تدبيره سبحانه وتعالى.
إذاً هناك ربطٌ وثيقٌ وضبطٌ بين التوكل على الله سبحانه وتعالى والأخذ بالأسباب، وهذا لا يحتاج إلى توقف كثير.
نأتي إلى قضية الوسطية، مع أن ما سبق كله إشارة للوسطية، فكل ما سبق من مبادئ ومعالم هي لا شك أنها وسط خاصة في مقابل الفرق المخالفة سواء أكانت من غير المسلمين، أو من الفرق المنتسبة إلى الإسلام.
استمع المزيد من الشيخ صالح بن حميد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
حق الطريق وآداب المرور | 3701 استماع |
وسائل الإعلام والاتصال بين النقد الهادف والنقد الهادم | 3092 استماع |
اللغة .. عنوان سيادة الأمة | 3073 استماع |
الطلاق وآثاره | 3020 استماع |
لعلكم تتقون | 3005 استماع |
الماء سر الحياة | 2961 استماع |
من أسس العمل الصالح | 2937 استماع |
الزموا سفينة النجاة | 2886 استماع |
قضية البوسنة والهرسك.. المشكلة والحل | 2875 استماع |
بين السلام وإباء الضيم | 2855 استماع |