خطب ومحاضرات
أمة القرآن
الحلقة مفرغة
الحمد لله ذي الطول والمن والإحسان، أكمل لنا ديننا، وفضله على سائر الأديان، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أنزل عليه القرآن معجزةً محفوظةً، وحجةً باقيةً على تعاقب الأزمان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوه واعملوا وأخلصوا، وجدوا واجتهدوا، واعلموا أنكم ملاقوه، وتوبوا إلى الله ربكم، وأنيبوا إليه واستغفروه.
أيها المسلمون: لئن كان من المناسب أن يتحدث المتحدث عن الصيام في هذه الأيام، فإن قرين الصيام هو القرآن، في شهر الصيام تنزل القرآن، والقرآن لم يسم شهراً بعينه، سوى شهر رمضان: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان:3] .. إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1].
ولئن تحدث المتحدثون عن غزوة بدر الكبرى في أحداثها وعبرها، فإنهم إنما يتحدثون عما أنزل الله على عبده يوم الفرقان: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [الأنفال:41] والقرآن كله فرقان: هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
أيها الإخوة: تجتمع هذه المناسبات والملائمات وتتعاضد، ولكن القرآن العظيم قبل ذلك وبعده حديث كل مناسبة.
صلاح الأمة باتباع القرآن
إن الكثير منهم يجهلون، أو يغفلون أن للقرآن العظيم تأثيراً حقيقياً في حياتهم المعاشية والمدنية، وإن كثيراً منهم وكثيراً يتشككون أو يترددون في أثره في تحقيق السعادة المنشودة في الدين والدنيا معاً، ولكن أهل العلم والإيمان يقولون في رسوخ وشموخ: ليس في قارات الدنيا الخمس ولا الست وحيٌ من عند الله حقٌ إلا هذا القرآن العظيم، ولن يُعرف الله معرفة صحيحة، ولن يصح إيمان عبد إلا عن طريق هذا القرآن.
كتابٌ استوعب هدي موسى وعيسى والنبيين من قبلهما، عليهم جميعاً وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. اجتمع في هذا القرآن ما تفرق في الرسالات قبله، فحفظ حقائق النبوات الأولى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:18-19] فحفظها جميعاً، وهيمن عليها وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة:48].
حفظ الله لكتابه
كتاب كريم، أودع الله قوته في ذاته، حاول الأعداء قديماً وحديثاً، عربٌ جاهليون، وغربٌ مستشرقون، وزنادقةٌ حاقدون، حاولوا جميعاً العبث به، والتشويش في صدقه، فأجلبوا وتنادوا: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26].
شككوا في تنزله، وطعنوا في جمعه وتدوينه، ونالوا من قراءاته وحروفه، ولكنها محاولات هزيلة، رجعوا على أعقابهم خاسئين، استمعوا إلى القرآن، وهو يسجل هذه الدعاوى المخزية في أسلافهم وأخلافهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:4-5]. وقالوا:إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103] وقالوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر:2] وقالوا: مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [القصص:36] ولما عجزوا واندحروا، رضوا لأنفسهم بالدنية والنقيصة، فقالوا: قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88].. وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت:5].
حاجة الأمة إلى مراجعة موقفها من القرآن
أمة خيرةٌ تربت على مائدة القرآن، أخذت كتاب ربها بقوة، وسارت على نهجه بعزم، خضعت لتعاليمه بإيمان، فهداها للتي هي أقوم، لقد كان هذا القرآن خيراً عاماً تآخت عليه شعوب الإسلام، ونشأت به مدنية كانت زينة الأرض وضياءها، ورحمتها وعدلها، هؤلاء الأسلاف -من الرواد- قرءوا القرآن، فأحيوا به ليلهم رهباناً، وعمروا به نهارهم فرساناً، تفيض أعينهم من الدمع مما عرفوا من الحق، يغشاهم الخشوع، ويكسوهم الوقار، كان القرآن ربيع قلوبهم، ونور صدورهم، وجلاء أحزانهم، تأدبت به أخلاقهم، وعمرت به مسالكهم، قوةً في الحق، وورعاً في المطاعم والمشارب، وبصراً بأهل الزمان: إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] لهم في قرآنهم ما يحث عزائمهم إذا كلت، ويحفز هممهم إذا ضعفت: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23].
يا أهل القرآن: الأمة تحتاج إلى أن تراجع مواقفها من كتاب ربها، فالقرآن عمدة الملة، وكلية الشريعة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، لا طريق إلى الله سواه، ولا سبيل إلى النجاة بغيره.
هل يُدعى إلى الله بغير كتاب الله؟ وهل يُرجى فلاح عباد الله بغير كتاب الله؟
هو التبيان والفرقان، والروح والذكر، هدىً للمتقين، ورحمة للمؤمنين: آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] وذكرى لمن كان له قلب، أحسن الحديث، وأصدق الكلام، وشفاء لما في الصدور، هو نعمة الله السابغة، وحجته الدامغة، نور الأبصار والبصائر، أنزله ربنا وشرفه، وعداً ووعيداً، وأمراً وزجراً، وحكماً وعلماً، ورحمةً وعدلاً.
كتاب لا تفنى عجائبه، وبحر لا يُدرك غوره، وكنز لا تنفد درره، وغيث لا تقلع عن المدرار سحائبه، أنزله ربنا لنقرأه تدبراً، ونتأمله تبصراً، ونسعد به تذكراً، ونلتزم بأوامره طمعاً، ونجتنب نواهيه خوفاً. تحيا القلوب بمواعظه، وتطمئن النفوس بترتيله، وتقوم الحياة بأحكامه، وتعم السعادة بآدابه، أسلوبه رفيع، ونظمه بديع، لفظه معجز، ونظمه باهر: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1].
لم يشب بيانه غموض، ولم يعب لفظه ضعف، ولم يدخل معانيه القصور: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82].
الأمة تحتاج إلى أن تراجع نفسها ومواقفها من قرآنها، أصدق ما تثبت به عقائد الإيمان، وأوضح دليل إلى المعارف والعلوم، وأقرب سبيل إلى برد الطمأنينة في القلوب، وأفضل حديث تناجي به مولاك في الأسحار.
ولكن أيها الإخوة: حين عز هذا المنهج، وطال الأمد، واشتغلت الأمة بغيره أو تشاغلت، دب في جسمها دبيب الضعف، وهجرت فئام منها القرآن هجراً غير جميل؛ هجروا براهين القرآن في العقائد والإيمان، وسلكوا طرائق محدثة، واصطلاحات مبتدعة، زاعمين أن أدلة القرآن لا تفيد القطع واليقين؛ فحادوا عن الطريق وتاهوا.
أما في ألوان العبادات والتعبدات: فركن فئام منهم إلى أحزاب مصنوعة، وأوراد متكلفة، وتعاويذ منحرفة، ورقىً غير مشروعة، وأخذوا بأنساك الأعجام من غير أهل الإسلام، وثمة أقوام حظهم في القرآن القراءة في المقابر، وفتح الأيدي والأفواه للاستجداء والمسألة.
أين مكان القرآن في الحكم؟! وأين موقعه من مناهج التربية ومقررات الدراسة؟! هل ضاق كتاب الله وعلوم القرآن عن أن يعطي حكماً في نازلة؟! أو أن يرسم منهجاً في تربية؟! وهل لا تنبت المناهج، ولا تصح الدساتير إلا في غير ديار المسلمين؟!
أهمية تدبر القرآن الكريم
ومصداق ذلك في كتاب الله: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16].
يقول ابن كثير رحمه الله: هؤلاء أهل الكتاب أقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، فعند ذلك قست قلوبهم، لا يقبلون موعظة، ولا يخشون وعيداً، ولا يرجون لله وقاراً.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واعلموا أن ميدان القرآن معهد ومسجد، وبيت ومدرسة، وسوق ومعركة، وروح وعقل، يتلى من المصاحف والصدور، في المساجد والمنازل، في الصلوات والخلوات على ألسنة المتعبدين والمتعلمين، تلهج به الجيوش في زحفها، وتقطع به الجنوب المتجافية ليلها في محاربها، جعلته دستورها كما جعلته ذكرها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً [طه: 125] * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:123-126].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أمة القرآن: إن كل ما يحتاجه المسلمون من صلاح وإصلاح، وحسن معاش ومعاد محصور في هدي القرآن، وهدي من كان خلقه القرآن، نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن أمة الإسلام في كثير من مواقعها وأحوالها تحتاج إلى أن تراجع نفسها في موقفها من قرآن ربها.
إن الكثير منهم يجهلون، أو يغفلون أن للقرآن العظيم تأثيراً حقيقياً في حياتهم المعاشية والمدنية، وإن كثيراً منهم وكثيراً يتشككون أو يترددون في أثره في تحقيق السعادة المنشودة في الدين والدنيا معاً، ولكن أهل العلم والإيمان يقولون في رسوخ وشموخ: ليس في قارات الدنيا الخمس ولا الست وحيٌ من عند الله حقٌ إلا هذا القرآن العظيم، ولن يُعرف الله معرفة صحيحة، ولن يصح إيمان عبد إلا عن طريق هذا القرآن.
كتابٌ استوعب هدي موسى وعيسى والنبيين من قبلهما، عليهم جميعاً وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. اجتمع في هذا القرآن ما تفرق في الرسالات قبله، فحفظ حقائق النبوات الأولى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:18-19] فحفظها جميعاً، وهيمن عليها وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة:48].
استمع المزيد من الشيخ صالح بن حميد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
حق الطريق وآداب المرور | 3701 استماع |
وسائل الإعلام والاتصال بين النقد الهادف والنقد الهادم | 3092 استماع |
اللغة .. عنوان سيادة الأمة | 3073 استماع |
الطلاق وآثاره | 3020 استماع |
لعلكم تتقون | 3005 استماع |
الماء سر الحياة | 2961 استماع |
من أسس العمل الصالح | 2937 استماع |
الزموا سفينة النجاة | 2886 استماع |
قضية البوسنة والهرسك.. المشكلة والحل | 2875 استماع |
بين السلام وإباء الضيم | 2855 استماع |