الأسير الذي أسلم


الحلقة مفرغة

كانت غزوة بدر الكبرى فرقاناً بحق، تجلت فيها الكثير من العبر منها: إثبات مبدأ الدفاع عن النفس وأن جزاء السيئة سيئة مثلها، وإشاعة مبدأ الشورى بين الراعي والرعية فيما يتعلق بمصالح الأمة، وترسيخ مبدأ الوفاء بالعهود والمواثيق، وأهمية اتخاذ وسائل التمويه والخدعة ومتابعة تحركات العدو، وتقرير مبدأ موالاة المؤمنين ولو كانوا من غير ذوي القربى، ومعاداة الكافرين ولو كانوا آباء أو أبناء أو إخوانا.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، على آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فالقصة التي سنتحدث عنها في هذه الليلة -إن شاء الله- من قصص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهده عليه الصلاة والسلام، وهي قصة رجل من زعماء المشركين هداه الله تعالى في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، روى قصته الإمام البخاري ومسلم وأحمد في مسنده.

يقول أبو هريرة رضي الله عنه: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة ، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة ؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة ؟ قال: ما قلت لك؛ إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة ؟ فقال: عندي ما قلت لك؛ إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله حتى كان من الغد فأعاد السؤال وأعاد الجواب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة . فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وَجهِك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليَّ، والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين كله إليَّ، والله ما كان من بلدٍ أبغض إليَّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة؛ فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ -في رواية البخاري ومسلم- فقال: لا، ولكن أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذه هي قصة ثمامة بن أثال الحنفي سيد أهل اليمامة رضي الله تعالى عنه.

لقد بعث النبي عليه الصلاة والسلام -كعادة المسلمين دائماً في جهاد واستعداد- معارك أو سرايا أو جولات استطلاعية تقوم بها خيل المسلمين حول المدينة ، لإرهاب أعداء الله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60] وكذلك تغير على المشركين، وتحبط كل محاولة لغزو المدينة ، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم ضربات وقائية، وكان هناك مفاجأة للعدو ومباغتة.

فجهاد النبي عليه الصلاة والسلام إذا استطلعناه في عدد من الفنون والمجالات العسكرية، فأما أن تكون حرب مواجهة مع الكفار، مثل: معركة بدر ، ومعركة أحد ، ومعركة حنين ونحو ذلك، وإما أن تكون غارات مفاجئة على مواقع العدو الذين يستعدون لغزو المدينة فتحبط محاولاتهم واستعدادهم في مهدها، كما حصل في غزوة بني المصطلق، فقد أغار عليهم وأخذهم على حين غرة، وكان قد وصلت إليه أخبار بأنهم يستعدون لقتاله.

أو تكون سرايا استطلاعية، كما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عدداً من السرايا لاستطلاع الأخبار، ليأتونه بالأخبار، كما بعث عشرة من رجاله عيناً في معركة ماء الرجيع .

وإما أن يكون خروجهم لتنفيذ مهمة معينة كاغتيال كافر، كما حصل في اغتيال سلام بن أبي الحقيق اليهودي، ومقتل كعب بن الأشرف.

وقد تكون المهمات الحربية لتحطيم بعض أوثان الجاهلية، كما أرسل خالد بن الوليد وغيره من الصحابة لتحطيم وتحريق أوثان كان أهل الجاهلية يعبدونها.

كيفية التعامل مع المشركين

وقد تكون الغارات التي يرسلها صلى الله عليه وسلم للاستيلاء على قوافل المشركين في حرب اقتصادية، ونهب أموال الكفار التي أباحها الله؛ لأنهم من المحاربين وأموال المحاربين حلال، فإن الكفار عند المسلمين على ثلاثة أنواع: كافر مسالم، وكافر محارب، وكافر ذمي يعيش في بلاد المسلمين تحت حماية المسلمين ويدفع الجزية، والمعاهد مثله، فبينه وبين المسلمين عهد، أو دخل رجل كسفير للكفار يبلغ رسالة، فهذا يعطى أماناً حتى يبلغ الرسالة ويخرج، فمواقف المسلمين من الكفار بحسب أحوال الكفار أنفسهم.

فهؤلاء الكفار المحاربون أموالهم حلال للمسلمين، فلو نهب المسلمون في فلسطين -مثلاً- أموالاً لليهود فهي حلال لهم؛ لأن هؤلاء اليهود محاربون، وكذلك لو نهب المسلمون في كشمير -مثلاً- أموال الهندوس الذين يحاربونهم، وقطعوا القوافل، ونهبوا البضائع، أو نهبوا أموال الجيش الذي يقاتلهم فهي حلال للمسلمين، لكن نهب أموال الكافر المسالم الذي لا يحارب المسلمين، أو الكافر المعاهد لا يجوز، والمعاهد هو الذي أعطاه المسلمون -وليس الكفار ولا المجرمون ولا المنافقون ولا الطواغيت- بل الذي أعطاه المسلمون العهد والأمان فماله محترم، أي له حرمته، ولا يجوز أن ينهب.

وهناك بعض المسلمين الذي يعيشون في بلاد الكفار أو في بلاد الغرب يسرقون أموالاً من شركات اتصالات، وشركات نقل عام بحجة أنهم كفار، وهذا جهل؛ لأن المسلم الذي دخل بلادهم بعهد فلا يجوز له أن ينهب الأموال العامة عندهم، ولا يستطيع أن يثبت أن أصحاب شركة الهاتف هذه، أو أصحاب شركة النقل هذه يحاربون الإسلام، فإن المحارب للإسلام هو الذي رفع السلاح على المسلمين وأعان على حربهم، فقد يتساهل بعض المسلمين بالأخذ من أموال الكفار بحجة أنهم حربيون مع أن المسألة ليست كذلك.

فينبغي أن يُنّزل كل شيء في موضعه، وألاَّ ندخل في ظلم، فهناك أناس حربيون لا شك فيهم كاليهود في فلسطين فهم حربيون (100%) ومحتلون، وغاصبون، وقاهرون، وباغون، ومحاربون، ومقاتلون، وكل ما يمكن أن يقال عن الكافر المحارب فهو فيهم، فهؤلاء كل أموالهم حلال للمسلمين.

وقد يكون بعض الكفار أموالهم حلال، لكن جنس الطائفة أو الديانة التي هو منها أموالهم محترمة، فليس كل نصراني محارب ولا كل يهودي محارب، وكلٌّ بحسب حاله، وفقه هذه المسألة مما يعين في قضية الموقف من أموالهم؛ لأن بعض المسلمين عن جهل وعن هوى يسلبون أموال الكفار بدون حجة شرعية، وهذا حرام لا يجوز.

وقد تكون الغارات التي يرسلها صلى الله عليه وسلم للاستيلاء على قوافل المشركين في حرب اقتصادية، ونهب أموال الكفار التي أباحها الله؛ لأنهم من المحاربين وأموال المحاربين حلال، فإن الكفار عند المسلمين على ثلاثة أنواع: كافر مسالم، وكافر محارب، وكافر ذمي يعيش في بلاد المسلمين تحت حماية المسلمين ويدفع الجزية، والمعاهد مثله، فبينه وبين المسلمين عهد، أو دخل رجل كسفير للكفار يبلغ رسالة، فهذا يعطى أماناً حتى يبلغ الرسالة ويخرج، فمواقف المسلمين من الكفار بحسب أحوال الكفار أنفسهم.

فهؤلاء الكفار المحاربون أموالهم حلال للمسلمين، فلو نهب المسلمون في فلسطين -مثلاً- أموالاً لليهود فهي حلال لهم؛ لأن هؤلاء اليهود محاربون، وكذلك لو نهب المسلمون في كشمير -مثلاً- أموال الهندوس الذين يحاربونهم، وقطعوا القوافل، ونهبوا البضائع، أو نهبوا أموال الجيش الذي يقاتلهم فهي حلال للمسلمين، لكن نهب أموال الكافر المسالم الذي لا يحارب المسلمين، أو الكافر المعاهد لا يجوز، والمعاهد هو الذي أعطاه المسلمون -وليس الكفار ولا المجرمون ولا المنافقون ولا الطواغيت- بل الذي أعطاه المسلمون العهد والأمان فماله محترم، أي له حرمته، ولا يجوز أن ينهب.

وهناك بعض المسلمين الذي يعيشون في بلاد الكفار أو في بلاد الغرب يسرقون أموالاً من شركات اتصالات، وشركات نقل عام بحجة أنهم كفار، وهذا جهل؛ لأن المسلم الذي دخل بلادهم بعهد فلا يجوز له أن ينهب الأموال العامة عندهم، ولا يستطيع أن يثبت أن أصحاب شركة الهاتف هذه، أو أصحاب شركة النقل هذه يحاربون الإسلام، فإن المحارب للإسلام هو الذي رفع السلاح على المسلمين وأعان على حربهم، فقد يتساهل بعض المسلمين بالأخذ من أموال الكفار بحجة أنهم حربيون مع أن المسألة ليست كذلك.

فينبغي أن يُنّزل كل شيء في موضعه، وألاَّ ندخل في ظلم، فهناك أناس حربيون لا شك فيهم كاليهود في فلسطين فهم حربيون (100%) ومحتلون، وغاصبون، وقاهرون، وباغون، ومحاربون، ومقاتلون، وكل ما يمكن أن يقال عن الكافر المحارب فهو فيهم، فهؤلاء كل أموالهم حلال للمسلمين.

وقد يكون بعض الكفار أموالهم حلال، لكن جنس الطائفة أو الديانة التي هو منها أموالهم محترمة، فليس كل نصراني محارب ولا كل يهودي محارب، وكلٌّ بحسب حاله، وفقه هذه المسألة مما يعين في قضية الموقف من أموالهم؛ لأن بعض المسلمين عن جهل وعن هوى يسلبون أموال الكفار بدون حجة شرعية، وهذا حرام لا يجوز.

أغارت خيل النبي عليه الصلاة والسلام قِبل نجد ، وكانت ديار كفر لم يستول عليها المسلمون بعد، ولم تطبق فيها الشريعة، أغاروا عليها وأسروا رجلاً مهماً وهو ثمامة سيد أهل اليمامة ، واليمامة : منطقة معروفة في نجد.

فأتي به إلى النبي عليه الصلاة والسلام .. لقد كان المسلمون يُرهبون الكفار، وكان الكفار في قلق وانزعاج دائم، لأن المسلمين في غارات وحراسات مستمرة، لا يشعر الكفار بالأمان، وهذا من دوافع دخول كثير منهم في الدين؛ حتى يأمنوا على أنفسهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم).

لقد أسرت خيل المسلمين ذلك الرجل المهم عند الكفار، وهو سيدهم، فكانت تلك ضربة معنوية قاصمة لأولئك الكفرة لأن سيدهم قد أخذ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ملئ حكمة وبعد نظر؛ ولذلك أمر بأن يربط ثمامة لكن ليس في خيمة، ولا في بيت مغلق، أو في سجن، وإنما وضع في المسجد، وربط إلى سارية من سواري المسجد.

إن ربط ثمامة إلى سارية من سواري المسجد معناه أنه يرى يومياً ما هي حياة المسلمين في المسجد، كيف يأتون إلى الصلاة مبكرين، وكيف يصلون ويدعون، ويذكرون الله، يُرفع الأذان فيطرق مسامع ثمامة خمس مرات في اليوم، ويسمع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام، وسماع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام وحدها غاية في التأثير، فهذا جبير بن مطعم يقول عندما سمع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام: ما سمعت قط صوتاً أحسن منه، عندما سمع قراءته بالتين والزيتون، وكذلك سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36]... الآيات قال: فكاد قلبي أن يطير.

فسماع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام وحدها مؤثرة.

ثم إن المسجد مكان للصلح، كما في قصة كعب بن مالك وابن أبي حدرد لما توسط النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، فوضع صاحب الحق شيئاً من حقه، وأمر الآخر أن يبادر بالسداد، ومكان للتزويج وعقد النكاح، والتوفيق بين المسلمين، ومكان استضافة الغرباء، وإكرام من لا بيت له كأهل الصفة ، ومكان لجمع التبرعات والصدقات، وذلك عندما جاء قوم مجتابي النمار إلى المسجد، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين بالصدقة، وكان مكاناً لإرسال الجيوش والبعوث، ومكاناً تجلب إليه الغنائم وتقسم على حسب شرع الله، ومكاناً تجمع فيه زكاة الفطر وتقسم على الفقراء، ويؤتى فيه بخراج البحرين ويوضع في المسجد، ومكاناً للفتاوى والأسئلة والإجابات، وحلق الذكر ودروس العلم، والخطب النبوية المؤثرة، وهو المكان الذي يجتمع فيه المسلمون في المدينة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليوقروه، ويعظِّموه، ويطيعوه صلى الله عليه وسلم، وهو المكان الذي يأتي الناس ليصلوا فيه النوافل والتراويح جماعة أحياناً.

وهذه المشاهد الموجودة في المسجد كفيلة بالتأثير في النفوس، ولذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام من حكمته بربط ثمامة في المسجد، وليس في أي مكان آخر، وحول موضوع دخول الكافر إلى المسجد سنتحدث في آخر الدرس إن شاء الله.

ظن ثمامة برسول الله صلى الله عليه وسلم

جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى ثمامة وقال: ماذا عندك؟ أي: ما الذي استقر في ظنك أن أفعله بك؟ ما تظن يا ثمامة أنني فاعل بك؟ فأجاب بأنه يظن بالنبي عليه الصلاة والسلام ظن خير، وأنه ليس ممن يظلم، وأن ظنه به أن يعفو ويحسن إليه، وأنه إن قتله فإنما يقتل ذا دم، أي: صاحب دم، لدمه موقع يشتفي قاتله بقتله، كأنه يقول: إذا قتلتني تقتل شيئاً كبيراً يحق لك انتقاماً، وتقتل رئيساً وعظيماً من العظماء.

وفي رواية: ذا ذم. ومعناها: ذا ذمة، لكن لم يكن لهذا الرجل ذمة، ولذلك استبعدها بعض العلماء، وقد حاول النووي أن يوجه هذه الرواية ليكون معنى ذا ذمة: ذا حرمة في قومه، وليس أن ثمامة صاحب عقد ذمة، أو أن المسلمين قد أعطوه عهداً.

قال: وإن تنعم تنعم على شاكر، أي: يشكر لك منتك وفضلك عليه، وفي اليوم الثاني والثالث عرض عليه ما عرض عليه من قبل، وسئل عما سئل عنه من قبل، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى موقف ثمامة كما هو أمر بإطلاقه، قال بعض العلماء: إن ثمامة قد وافق في هذه المخاطبة قول عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118].

إطلاقه رضي الله عنه وإسلامه

قال: أطلقوا ثمامة ، قال: قد عفوت عنك يا ثمامة وأعتقتك. وهذا في رواية ابن إسحاق ، وجاء فيها: أن المسلمين قد جمعوا له من طعام ولبن، فقدموه إليه فلم يصب من ذلك إلا قليلاً.

ولما أُطلق الرجل لم يرجع إلى قومه؛ لأن ما شاهده من المشاهد كفيل بأن يجعل الهداية تدخل إلى قلبه، فذهب واغتسل وأسلم ونطق بالشهادتين، ثم بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ومحو ذنوبه وتبعاته السابقة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما أحس به من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحبة دينه، ومحبة بلده، فانقلب البغض إلى حب وانقلبت الكراهية إلى محبة، واتضح من خلال التأثير كيف تنقلب مشاعر المدعو عكس ما كانت عليه.

لو وُجد المدعو في بيئة سليمة، وتعرض لمؤثرات صحيحة، ووُجد في جو طيب فإنه يتأثر، وهكذا حصل لـثمامة ، حينما ربط في هذا المكان فتأثر وانقلبت مشاعره، فإنه كان يكره النبي عليه الصلاة والسلام، ويكره دينه، ويكره بلده، فصار أحب الوجوه إليه وجهه عليه الصلاة والسلام، وأحب البلاد بلده، وأحب الدين إليه دينه، زد على ذلك أن المنَّة التي مَنَّ بها عليه الصلاة والسلام على هذا الرجل قد أثَّرت فيه، منَّةٌ شكرها هذا الرجل، وكان شكره الإسلام، فقد أسلم وتابع النبي عليه الصلاة والسلام.

لقد كان مفهوم المسلمين في السابق للإسلام أمراً عجيباً، حتى مع أنهم حديثو عهد به، فإن هذا الرجل كان سيد قومه، وهو مشرك كافر، أخذ ووضع في المسجد، وفي هذه الأيام الثلاثة رأى المجتمع الإسلامي من الداخل، وقد كان هناك إشاعات كثيرة عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن المسلمين، يطلقها اليهود والمنافقون ومشركو قريش وغيرهم، ولكن الآن رأى ثمامة بأم عينيه المجتمع الإسلامي من الداخل، ورأى النبي عليه الصلاة والسلام بنفسه وشخصه، لقد زالت كل الهالات الإعلامية السيئة التي نسجها الكفار حول المسلمين، وحول الدعوة، وحول النبي عليه الصلاة والسلام، لقد رأى ثمامة الصورة الحقيقية من الداخل.

ثم صادف ذلك الإنعام من النبي عليه الصلاة والسلام بأن مَنَّ عليه وأطلقه دون قيد ولا شرط، ولا فدية ولا مقابل، إنه كرم نبوي، حيث قال: أطلقوا ثمامة، فهذه الأشياء مجتمعة أثرت في الرجل؛ فقلبت مشاعره، والذي نريد أن نقوله: إن الدخول في الدين ليس فقط كلمة تنطق، بل هو تغيير جذري في المشاعر، لا يؤمن حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولا يؤمن حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، ولا يؤمن حتى يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار.

إذاً.. عملية الدخول في الإسلام والهداية تُحدِث تحولات في المشاعر، فليست القضية قضية نطق بالكلام أو عبارات، وليست شعائر تؤدى بالجسد، وإنما تغيير داخلي -أيها الإخوة- في القلب، وفي الأحاسيس، وفي المشاعر؛ فينقلب الكره حباً، والبغضاء وداً، وهكذا حصل لـثمامة رضي الله عنه.

هل انتهت القضية على هذا؟ هل هذا هو الذي ولدّه الإيمان فقط؟

لا. فالرجل عندما أسلم كان يريد أن يؤدي عمرة، وما حكم العمرة التي كان يريد أن يؤديها؟

عليه أن يستمر في عمل الخير،فإن العمرة عمل خير، والمشركون كانوا يعتمرون ويحجون لكن على مذهبهم الباطل وعلى عقيدتهم الباطلة، فيطوفون حول أصنام الكعبة، وقريش كانت تذهب إلى مزدلفة ولا تتجاوزها؛ لأنهم يقولون: نحن من الحمس، أي: أهل الحرم فلا نتعدى الحرم مثل بقية الناس إلى عرفات ، وكان بعضهم يطوف بالبيت عرياناً، فالحج والعمرة كان على مذهبهم الفاسد.

فهذا الرجل أسلم وكان يريد أن يؤدي عمرة، فقال: يا رسول الله! إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ تصور أن زعيماً من زعماء الكفار يسلم ثم يأتي مباشرة ليستفتي! وليس من السهل على زعيم قبيلة أو عشيرة، أو سيد مطاع في قومه أن يأتي ليسأل ويستفتي، لكن كان دخول الصحابة في الدين انقلاباً شاملاً في النفس، يقلب كيان الرجل، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يعتمر.

إذاً.. إذا كان الكافر يريد أن يعمل عمل خير قبل الإسلام وأسلم؛ فإنه يستمر في عمل الخير الذي كان يريد أن يعمله.

الإسلام يغير ثمامة تغييراً كاملاً

لم تنته المسألة عند هذا، ونحن نريد أن نفحص عن عملية التغيير التي حدثت لهذا الرجل؛ لأن هذه عملية فيها عبرة؛ بها نكتشف الفرق بين إسلام العامة وكيف كان يسلم الصحابة، كان الواحد منهم إذا أسلم على عهد النبي عليه الصلاة كان إسلامه يعني أشياءً كثيرة .. يعني انقلاباً كاملاً وتحولاً جذرياً.

الرجل ذهب إلى مكة لأداء العمرة، حتى إذا كان ببطن مكة لبى، فقيل: إنه أول من دخل مكة بالتلبية، وقيل: إن قريشاً قالوا: أجترأت علينا؟ وأخذوه يريدون قتله، فقال قائل منهم: دعوه فإنكم تحتاجون إلى الطعام من اليمامة، واليمامة منطقة كانت تمون مكة بالقمح (الحنطة) فتركوه.

كما كانوا يريدون قتل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه فقام العباس يدافع عنه ويقول: إن معبر قوافلكم على طريق قوم الرجل، وإن قتلتموه سيمنعون قوافلكم وينهبونها، فتحت ضغط العامل الاقتصادي يتراجع القوم عما كانوا يريدون، وإلى الآن والعامل الاقتصادي عامل له ضغط وتأثير.

لكنهم ما تركوه من جهة الاستهزاء، بل قالوا له: أصبوت؟ والصابئ هو الذي غير دينه، فأي شخص يغير دينه عن دين قومه تسميه العرب: الصابئ.

ولا حظوا كيف ينشئ الإسلام عزة في نفس المسلم إذا كان إسلامه صحيحاً!

فلم يسكت لهم على هذه الكلمة وهم جماعة وهو واحد، بل قال: لا. ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يكتفِ بالرد عليهم فقط، بل دفعته العزة إلى أن يهدد بالتهديد التالي؛ يقول: ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم.

واليمامة منطقة زراعية كانت تصدر الحنطة إلى مكة ، والآن فهم ثمامة بإسلامه أن الدين يتطلب منه أن يتخذ مواقف من الكفرة، مواقف فيها مفاصلة، وفيها إرغام لأعداء الله، ومقاطعة اقتصادية.

إنها كلمة خطيرة! ولكنه قالها، فلم يكن إسلامه إسلاماً بارداً، ولا إسلاماً من يحبون الأعداء، ويتآلفون مع الأعداء، ويتأقلمون معهم، ويعيشون معهم في سلام وأمان.. لا. بل كانت مواقف مواجهة؛ لأن طبيعة الدين طبيعة تغييرية، والإسلام يريد أن ينقض الكفر والجاهلية، ولا يمكن أن يتعايش مع الكفر، والذي يريد أن يحدث تعايشاً بين الإسلام والكفر مجنون، لأن طبيعة الدين تقتضي نسف الجاهلية، وتحطيم الأوثان، وإزالة المعبودات من دون الله، ونشر الإسلام: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39] هذه هي طبيعة الدين، والآن يراد أن يكون الدين رقيقاً، دين سلام وعاطفة، ومحبة للجميع، ودائماً يقولون: الإسلام دين مسالم.. كيف هذا؟ هل هناك جهاد في الدين أم أنكم قد ألغيتم الجهاد؟

ويقولون: الإسلام ليس فيه إرهاب.. كيف ذلك؟ وفيه إرهاب لأعداء الله، والله يقول: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60] فإذا كنا لا نريد إرهاب أعداء الله، فمعناها أن الدين رخو، وناقص، وقد عطلنا هذه الشعيرة.

إذاً فالذي يقول: هذا دين سلمي، ولا يوجد فيه قتال ولا اعتداء على أحد .. فمعنى ذلك إلغاء الجهاد، وهذا ما يقصدونه إذا فسروا الجهاد على أنه اعتداء، فنعم فيه اعتداء، لكنه اعتداء بالحق، وهناك اعتداء بالباطل، كأن تذهب إلى كافر مسالم أو لا يحارب الدين، ولا يقف في طريق نشر الدين وتقتله وتستولي على ماله؛ فهذا خطأ، أما إذا وقفوا في طريق الدين ونشره فيقاتلون.

ماذا فعل الصحابة في الفتوحات؟ لقد عرضوا الإسلام على رستم ، وعرضوا الإسلام على رسل قيصر وعلى قادة الفرس والروم، أي إذا دخلتم في الإسلام انتهت العداوة والبغضاء بيننا، على أن تخلّوا بيننا وبين شعوبكم ندعوهم إلى الإسلام ولا نقاتلكم، أما إذا منعتمونا فسنقاتلكم ونرهبكم ونعتدي عليكم.

جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى ثمامة وقال: ماذا عندك؟ أي: ما الذي استقر في ظنك أن أفعله بك؟ ما تظن يا ثمامة أنني فاعل بك؟ فأجاب بأنه يظن بالنبي عليه الصلاة والسلام ظن خير، وأنه ليس ممن يظلم، وأن ظنه به أن يعفو ويحسن إليه، وأنه إن قتله فإنما يقتل ذا دم، أي: صاحب دم، لدمه موقع يشتفي قاتله بقتله، كأنه يقول: إذا قتلتني تقتل شيئاً كبيراً يحق لك انتقاماً، وتقتل رئيساً وعظيماً من العظماء.

وفي رواية: ذا ذم. ومعناها: ذا ذمة، لكن لم يكن لهذا الرجل ذمة، ولذلك استبعدها بعض العلماء، وقد حاول النووي أن يوجه هذه الرواية ليكون معنى ذا ذمة: ذا حرمة في قومه، وليس أن ثمامة صاحب عقد ذمة، أو أن المسلمين قد أعطوه عهداً.

قال: وإن تنعم تنعم على شاكر، أي: يشكر لك منتك وفضلك عليه، وفي اليوم الثاني والثالث عرض عليه ما عرض عليه من قبل، وسئل عما سئل عنه من قبل، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى موقف ثمامة كما هو أمر بإطلاقه، قال بعض العلماء: إن ثمامة قد وافق في هذه المخاطبة قول عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118].




استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
اقتضاء العلم العمل 3611 استماع
التوسم والفراسة 3608 استماع
مجزرة بيت حانون 3529 استماع
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] 3496 استماع
اليهودية والإرهابي 3424 استماع
إن أكرمكم عند الله أتقاكم 3424 استماع
حتى يستجاب لك 3393 استماع
المحفزات إلى عمل الخيرات 3370 استماع
ازدد فقهاً بفروض الشريعة 3347 استماع
الزينة والجمال 3335 استماع