صدقة نقية من نفس تقية


الحلقة مفرغة

النصر دائماً حليف المؤمنين، هذه حقيقة جسدتها حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مواجهاتهم المتكررة مع أعداء الله من الكفار وأهل الكتاب ومن سواهم، وقد تجلى هذا الأمر وظهر النصر المبين للمؤمنين على المشركين في غزوة عظيمة من غزوات المسلمين ومعاركهم، إنها غزوة الخندق، التي ظهرت فيها معجزات عظيمة كان من أجلها إنزال النصر على المؤمنين بعد أن أبلوا بلاءً شديداً حتى بلغت القلوب الحناجر، فأنزل الله عليهم نصره وتأييده ومدده، وأنزل على الأحزاب من الكفار والمشركين عذاباً أليماً، رجعوا بعدها يجرون أذيال الهزيمة، مدحورين خائبين.

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أمرنا في كتابه بالصدقة ودعانا إليها وحثنا عليها، فقال: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:262] وصلى الله وسلم على نبينا محمد الذي أمرنا بالصدقة وحثنا عليها، فقال في خطبته: (أما بعد: فإن الله أنزل في كتابه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ.. [النساء:1] إلى آخر الآية، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18] إلى قوله تعالى: هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:20] ثم قال عليه الصلاة والسلام: تصدقوا قبل أن تصدقوا؛ تصدق رجل من ديناره، تصدق رجل من درهمه، تصدق رجل من بره، تصدق من تمره، من شعيره، لا تحقرن شيئاً من الصدقة ولو بشق تمرة) رواه مسلم .

حديثنا أيها الإخوة! عن "صدقة نقية من نفس تقية".

ما هي آداب الصدقة؟

ما هي شروطها؟

ما هي مجالات الصدقة؟

ما هي بعض الأحكام المتعلقة بالصدقة؟

أما آداب الصدقة: فإن الله سبحانه وتعالى يقول في آدابها وشروطها، وما يتقبل منها: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:262]، وقال عز وجل: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]، وقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245]، وقال سبحانه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:11].

هذه الدعوة من الله مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الحديد:11] إذا علم المقرض أن المقترض مليء غني ووفي ومحسن؛ كان ذلك أدفع له للصدقة، وأطيب لقلبه ولسماحة نفسه.. إذا علم المقرض أن الذي اقترض منه مليء، فهذا يدفعه إلى الصدقة.. إذا علم أن الذي يقترض منه يتاجر له فيها، وينميها له، ويثمرها حتى تصير أضعافاً مما كانت قبل سيكون بالقرض أسمح وأسمح، فإذا علم أن المقترض مع ذلك سيزيده من فضله ويعطيه أجراً آخر غير القرض الذي اقترضه، ليس فقط يرده إليه ويضاعفه وينميه وإنما سيعطيه شيئاً إضافياً عليه، لا شك أنه سيكون في ثقة وضمان، وأنه سيندفع إليها أكثر وأكثر، والله سبحانه وتعالى هنا قد أخبر: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [الحديد:11] من المقترض؟ الله. هذه منة منه سبحانه وتعالى على عباده: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [الحديد:11] ينميه ويثمره الغني ثم يعطيه، بالإضافة إلى ذلك أجر آخر غير أجر الصدقة فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:11] غير الصدقة له أجر كريم.

والله عز وجل قد بيَّن لنا في هذه الآيات -التي سبق ذكرها- آداب الصدقة:

أولاً: أن تكون من مالٍ طيب لا رديء ولا خبيث.

ثانياً: أن تخرج طيبةً بها نفس المتصدق يبتغي بها مرضات الله.

ثالثاً: ألا يمن بها ولا يؤذي.

قال سبحانه: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [البقرة:262]، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً [البقرة: 274] ، إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الحديد:18].

فتأمل.. يا أخي المسلم هذه الآداب الثلاثة:

الأول: يتعلق بالمال أن يكون طيباً.

الثاني: يتعلق بالمنفق بينه وبين الله، أن يكون مبتغياً مرضات الله طيبةً بها نفسه.

الثالث: شيء يتعلق بينه وبين الآخذ، وهو ألا يمن ولا يؤذي.

مضاعفة أجر المتصدِّق

قال الله سبحانه وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، فالله عز وجل بين صورة المضاعفة هنا، فقال: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ [البقرة:261] سنابل من جموع الكثرة، ومع أنها سبع، لكنه قال: (سَنَابِلَ) استعمل جموع الكثرة، وفي قصة يوسف قال: وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ [يوسف:43] سنبلات من جموع القلة، فاستعمل في السبع هنا في الرؤيا جمع القلة؛ لأنه لا مبرر للتكثير مع أنه سبع هنا وسبع هناك، لكن في السبع التي في آية الصدقة، قال عز وجل: أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ [البقرة:261] جمع كثرة فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة:261] لأن المقام مقام تكثير وتضعيف، فالسبع في مائة سبعمائة، وغير السبعمائة أضعاف كثيرة فوق السبعمائة.

وقال الله سبحانه وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ [البقرة:261] ما هو المشبه؟ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ [البقرة:261] شبهوا بأي شيء؟ ما هو المشبه به؟ الحبة.

إذاً: شبه المنفق بالحبة، مع أن المثل فيه منفق ونفقة وباذر وبذرة، فاختار المنفق من الشق الأول، والبذرة من الشق الثاني، واختار من كل شقٍ من المثل أهمه، مع أنه هنا يوجد منفق ونفقة، لكن المهم هو المنفق يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله [البقرة:261] واختار هنالك البذرة؛ لأنها هي التي تنمو وتكثر، ولا يهم من الذي بذرها بالنسبة للمثل، فاختصره وجاء به في غاية البلاغة.

عدم اتباع الصدقة بالمنِّ والأذى

قال الله عز وجل: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:262] فهذا يبين القرض الحسن، وهو: أن تنفق أموالك في سبيل الله ثم لا تتبع ما أنفقت مناً ولا أذى، لأن عدم اتباعها بالمن والأذى يصيره قرضاً حسناً، والمن والأذى أنواع:

النوع الأول: ما يكون بالقلب دون اللسان، يشعر الإنسان لما أعطى أنه منَّ على فلان لكنه ما جهر بذلك، صحيح أن هذا لا يبطل الصدقة لكنه لا يصيرها في المكان العالي والدرجة الرفيعة.

النوع الثاني: المن باللسان، فيعتدي على من أحسن إليه ويريه أنه قد صنع إليه معروفاً عظيماً وأنه طوقه منة في عنقه، فيقول له: أما أعطيتك كذا، أما تذكر كذا، أو أن يقول له: أعطيتك ولكن لا يوجد فائدة! ما رأيت منك شيئاً، أو أعطيتك فما شكرت، حتى أن بعض السلف قال: "إذا أعطيت رجلاً شيئاً ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه".

وكان من كلام بعض السلف: "إذا اصطنعتم صنيعة فانسوها". إذا عملت معروفاً فانساه، "وإذا أسديت لكم صنيعة فلا تنسوها".

ولذلك أخبر الله سبحانه وتعالى أن من صفات القرض الحسن عدم المن لا بالقلب ولا باللسان.

وأما الأذى فإنه كثير أيضاً، والمن هو أذى فأكده، وهو نوع خاص من أنواع الأذى، ولا شك أنه إذا منّ عليه فإنه يؤذيه، قال الله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ [البقرة:262] ثم: تقتضي التراخي، لم يقل: ولا يتبعون، أي: ليس عدم المن فقط عند الإعطاء؛ لكن لا تمن ولو بعد الصدقة لمدة طويلة، ولذلك قال: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ [البقرة:262] فالمن يحصل ولو بعد سنين من الصدقة؛ لأن بعض الناس عندما يعطي -مثلاً- لله ونفسه طيبة وقد يكون بعد موعظة، لكن بعد أسابيع أو أشهر أو سنين قد يأتيه الشيطان ويلعب في ذهنه أو قلبه، فيدفعه إلى أن يذكر الفقير أو الشخص الذي منَّ عليه، يقول: أما تذكر أني أعطيتك قبل سنوات كذا وكذا وكذا، أما تذكر أني أسديت لك كذا وكذا ، ولذلك قال تعالى: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ [البقرة:262] أي: على التراخي ليس فقط عند الإعطاء وحتى بعده، وهذا من بلاغة القرآن ومن مجال التدبر فيه الذي أمرنا به.

السر والعلن في الصدقة

قال سبحانه: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً [البقرة:274] أيضاً النفقة تكون متتابعة بالليل والنهار، سراً وعلانية، فصدقة السر لها ميزان، وصدقة العلانية لها أحوال تكون أفضل، كما إذا كان يشجع غيره ويدفعه للصدقة، وإلا فإن الأصل أن تكون خفية حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وصدقة السر تطفئ غضب الرب.

ولا شك أن الذي يقول قولاً معروفاً: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً [البقرة:263].

لأن القول المعروف صدقة، والمغفرة أن تغفر للناس ما أخطئوا عليك صدقة؛ هذه صدقتان خير من نفقة وصدقة يتبعها أذى فتكون باطلة.

إذاً: حسنتان أحسن من حسنة باطلة، ولا نريد صدقة بالمنة مهما بلغت، ولو كان الإنسان لا يوجد عنده ما يتصدق به قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ [البقرة:263] تصدق حذيفة بدية أبيه على المسلمين حين قتل أبوه في غزوة أحد بسبب ما حصل من اختلاط الأمور، فتصدق على المسلمين بديته.

وكان بعض السلف يتصدق على من آذاه واغتابه في عرضه.

وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [البقرة:263] أي: إذا كنتم ستمنون؛ فالله غني عنكم، وإذا كنتم ستئوبون وترجعون؛ فالله حليم لا يعاجل بالعقوبة، ويمهل عبده حتى يئوب إليه ويرجع، والله غني لا يحتاج إلى صدقاتكم فنفعها عائدٌ عليكم أنتم.

الرياء في الصدقة

ولقد بين الله عز وجل مثلاً لمن يرائي في الصدقة فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ [البقرة:264] هذا الصخر الصلب.. عَلَيْهِ تُرَابٌ [البقرة:264] عليه طبقة من تراب.. فَأَصَابَهُ وَابِلٌ [البقرة:264] أصابه مطر شديد، ماذا سيحصل للتراب الذي على الصخر الأصم الصلب؟ هل سينبت؟! لا. وإنما سيزول، والمطر يغسل هذا الصخر من التراب، فكأنه لا مكان للبذل أصلاً ولا لخروج شيء فَتَرَكَهُ صَلْداً [البقرة:264] أملس كما كان قبل أن يكون عليه تراب لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264]. فإذاً: هذا معنى أن المن والأذى يحبط الصدقة.

فقلب المرائي مثل الصخر لا ينبت شيئاً ولا ينبت خيراً، كما أن هذه الصخرة التي عليها التراب لم تنبت شيئاً، ما كان عليه إلا قليل من الغبار، شبه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار، والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر هذا هو المن الذي أذهب أثر الصدقة وأزالها، بخلاف الذي ينفق ابتغاء وجه الله، يقول الله في شأنه: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:265] الذي ينفق أمواله إخلاصاً لله وتصديقاً بموعود الله وتثبيتاً من نفسه وهو صدقه في البذل والعطاء لا شك أنه في هذه الحالة يكون حاله كمثل جنة -بستان- بربوة، أي: على مكان مرتفع، فإن البستان إذا صار في مكان مرتفع، في طريق الهواء والرياح تسطع عليه الشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها، ويكون الثمر أنضج وأحسن وأطيب ولا شك في ذلك، بخلاف الثمار التي تنشأ دائماً في الظلال، ولذلك قال في الزيتونة: شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور:35] أي: معتدلة في الوسط، الشمس تأتي عليها في جميع الأوقات يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ [النور:35] فهذا أنفس الزيتون، وأنفس الأشجار ما تكون بهذه الصفة، فهذه الجنة التي بهذا المرتفع المتعرضة للشمس إذا أصابها الوابل والمطر الشديد آتت أكلها ضعفين؛ أعطت البركة.. أخرج ثمرتها ضعفي ما يثمر غيرها فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ [البقرة:265] إذا ما أصباها وابل فَطَلٌّ وهو دون الوابل الرش الخفيف؛ هذا يكفي لإنباتها أيضاً، لكن إنباتاً دون الإنبات الأول، فهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للسابق بالخيرات والمقتصد.. المقتصد صاحب الطل، والسابق بالخيرات صاحب الوابل.

إذاً: هذا مثل المرائي ومثل الذي ينفق إخلاصاً لله سبحانه وتعالى.

ثم إن الله عز وجل ضرب مثلاً آخر في سورة البقرة التي فيها هذه الأمثال العظيمة حاثاً عباده على أن تكون صدقاتهم خالصة له عز وجل، قال: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:266] هذا الشخص تعلق قلبه بهذه الجنة من نواحي كثيرة:

أولاً: أن فيها أعناب ونخيل، وهي من أنفس الثمار.

ثانياً: أن هذا البستان يجري من تحته الأنهار.

ثالثاً: أنه ليس فقط فيها أعناب ونخيل، وإنما فيها من كل الثمرات.

رابعاً: أن هذه الجنة التي فيها أشرف أنواع الثمار التي يؤخذ منها: القوت، والغذاء، والدواء، والشراب، والفاكهة، والحلو والحامض التي تؤكل رطباً ويابسةً، أي: النخيل والعنب؛ هذه صفاتها، وبالإضافة إلى كل الثمرات؛ فإن هذا الرجل قد كبر سنه، ولا شك أن الإنسان إذا كبر سنه لا يقدر على الكسب والتجارة ويحتاج إلى الأشياء التي لها مدخولات ثابتة كالمزارع والعقار، ولذلك أصابه الكبر، فهو يحتاج إليها حاجة شديدة الآن، وكذلك فإن هذا الرجل إذا كبر سنه اشتد حرصه فتعلق قلبه بها أكثر، فإن الإنسان يهرم ويشب معه حب المال والحرص.

وكذلك فإن هذا الرجل له ذرية؛ والذي له ذرية يحب أن يحفظ أمواله حتى يبقيها للذرية والأولاد، وبالإضافة إلى ذلك فإن هؤلاء الذرية ليسوا كباراً وإنما هم ضعفاء، وإذا كانت الذرية ضعفاء؛ فسيكون حرصه على هذا المال أكثر؛ لأن الذرية ضعفاء صغار لا يستطيعون الكسب، وكذلك فإنه هو الذي ينفق عليهم لضعفهم وعجزهم، كيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصبح يوماً فرأى أن جنته قد احترقت بإعصارٍ فيه نار فاحترقت وصارت رماداً، كيف تكون وقع المصيبة عليه؟!

هذا الرجل مثله مثل رجل عمل أعمالاً في الدنيا لكن برياء ومنّ وأذى، فجاء يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى ثواب الأعمال؛ لأن أمامه النار والهلاك والدمار، فرأى أنه لا شيء له ألبتة؛ لأنها كلها ذهبت بالرياء والمن والأذى، فهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى والله يضرب الأمثال للناس لعلهم يعقلون، وهذا مثل قلّ من يعقله من الناس، فكل واحد تسول له نفسه إحراق أعماله الصالحة بالرياء، فليتأمل هذا المثل، وليعرف أيضاً عظم المصيبة التي تنزل عليه عندما يدخل في موضوع الرياء أو يدخل الرياء في أعماله.

قال الله سبحانه وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، فالله عز وجل بين صورة المضاعفة هنا، فقال: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ [البقرة:261] سنابل من جموع الكثرة، ومع أنها سبع، لكنه قال: (سَنَابِلَ) استعمل جموع الكثرة، وفي قصة يوسف قال: وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ [يوسف:43] سنبلات من جموع القلة، فاستعمل في السبع هنا في الرؤيا جمع القلة؛ لأنه لا مبرر للتكثير مع أنه سبع هنا وسبع هناك، لكن في السبع التي في آية الصدقة، قال عز وجل: أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ [البقرة:261] جمع كثرة فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة:261] لأن المقام مقام تكثير وتضعيف، فالسبع في مائة سبعمائة، وغير السبعمائة أضعاف كثيرة فوق السبعمائة.

وقال الله سبحانه وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ [البقرة:261] ما هو المشبه؟ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ [البقرة:261] شبهوا بأي شيء؟ ما هو المشبه به؟ الحبة.

إذاً: شبه المنفق بالحبة، مع أن المثل فيه منفق ونفقة وباذر وبذرة، فاختار المنفق من الشق الأول، والبذرة من الشق الثاني، واختار من كل شقٍ من المثل أهمه، مع أنه هنا يوجد منفق ونفقة، لكن المهم هو المنفق يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله [البقرة:261] واختار هنالك البذرة؛ لأنها هي التي تنمو وتكثر، ولا يهم من الذي بذرها بالنسبة للمثل، فاختصره وجاء به في غاية البلاغة.

قال الله عز وجل: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:262] فهذا يبين القرض الحسن، وهو: أن تنفق أموالك في سبيل الله ثم لا تتبع ما أنفقت مناً ولا أذى، لأن عدم اتباعها بالمن والأذى يصيره قرضاً حسناً، والمن والأذى أنواع:

النوع الأول: ما يكون بالقلب دون اللسان، يشعر الإنسان لما أعطى أنه منَّ على فلان لكنه ما جهر بذلك، صحيح أن هذا لا يبطل الصدقة لكنه لا يصيرها في المكان العالي والدرجة الرفيعة.

النوع الثاني: المن باللسان، فيعتدي على من أحسن إليه ويريه أنه قد صنع إليه معروفاً عظيماً وأنه طوقه منة في عنقه، فيقول له: أما أعطيتك كذا، أما تذكر كذا، أو أن يقول له: أعطيتك ولكن لا يوجد فائدة! ما رأيت منك شيئاً، أو أعطيتك فما شكرت، حتى أن بعض السلف قال: "إذا أعطيت رجلاً شيئاً ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه".

وكان من كلام بعض السلف: "إذا اصطنعتم صنيعة فانسوها". إذا عملت معروفاً فانساه، "وإذا أسديت لكم صنيعة فلا تنسوها".

ولذلك أخبر الله سبحانه وتعالى أن من صفات القرض الحسن عدم المن لا بالقلب ولا باللسان.

وأما الأذى فإنه كثير أيضاً، والمن هو أذى فأكده، وهو نوع خاص من أنواع الأذى، ولا شك أنه إذا منّ عليه فإنه يؤذيه، قال الله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ [البقرة:262] ثم: تقتضي التراخي، لم يقل: ولا يتبعون، أي: ليس عدم المن فقط عند الإعطاء؛ لكن لا تمن ولو بعد الصدقة لمدة طويلة، ولذلك قال: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ [البقرة:262] فالمن يحصل ولو بعد سنين من الصدقة؛ لأن بعض الناس عندما يعطي -مثلاً- لله ونفسه طيبة وقد يكون بعد موعظة، لكن بعد أسابيع أو أشهر أو سنين قد يأتيه الشيطان ويلعب في ذهنه أو قلبه، فيدفعه إلى أن يذكر الفقير أو الشخص الذي منَّ عليه، يقول: أما تذكر أني أعطيتك قبل سنوات كذا وكذا وكذا، أما تذكر أني أسديت لك كذا وكذا ، ولذلك قال تعالى: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ [البقرة:262] أي: على التراخي ليس فقط عند الإعطاء وحتى بعده، وهذا من بلاغة القرآن ومن مجال التدبر فيه الذي أمرنا به.

قال سبحانه: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً [البقرة:274] أيضاً النفقة تكون متتابعة بالليل والنهار، سراً وعلانية، فصدقة السر لها ميزان، وصدقة العلانية لها أحوال تكون أفضل، كما إذا كان يشجع غيره ويدفعه للصدقة، وإلا فإن الأصل أن تكون خفية حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وصدقة السر تطفئ غضب الرب.

ولا شك أن الذي يقول قولاً معروفاً: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً [البقرة:263].

لأن القول المعروف صدقة، والمغفرة أن تغفر للناس ما أخطئوا عليك صدقة؛ هذه صدقتان خير من نفقة وصدقة يتبعها أذى فتكون باطلة.

إذاً: حسنتان أحسن من حسنة باطلة، ولا نريد صدقة بالمنة مهما بلغت، ولو كان الإنسان لا يوجد عنده ما يتصدق به قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ [البقرة:263] تصدق حذيفة بدية أبيه على المسلمين حين قتل أبوه في غزوة أحد بسبب ما حصل من اختلاط الأمور، فتصدق على المسلمين بديته.

وكان بعض السلف يتصدق على من آذاه واغتابه في عرضه.

وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [البقرة:263] أي: إذا كنتم ستمنون؛ فالله غني عنكم، وإذا كنتم ستئوبون وترجعون؛ فالله حليم لا يعاجل بالعقوبة، ويمهل عبده حتى يئوب إليه ويرجع، والله غني لا يحتاج إلى صدقاتكم فنفعها عائدٌ عليكم أنتم.

ولقد بين الله عز وجل مثلاً لمن يرائي في الصدقة فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ [البقرة:264] هذا الصخر الصلب.. عَلَيْهِ تُرَابٌ [البقرة:264] عليه طبقة من تراب.. فَأَصَابَهُ وَابِلٌ [البقرة:264] أصابه مطر شديد، ماذا سيحصل للتراب الذي على الصخر الأصم الصلب؟ هل سينبت؟! لا. وإنما سيزول، والمطر يغسل هذا الصخر من التراب، فكأنه لا مكان للبذل أصلاً ولا لخروج شيء فَتَرَكَهُ صَلْداً [البقرة:264] أملس كما كان قبل أن يكون عليه تراب لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264]. فإذاً: هذا معنى أن المن والأذى يحبط الصدقة.

فقلب المرائي مثل الصخر لا ينبت شيئاً ولا ينبت خيراً، كما أن هذه الصخرة التي عليها التراب لم تنبت شيئاً، ما كان عليه إلا قليل من الغبار، شبه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار، والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر هذا هو المن الذي أذهب أثر الصدقة وأزالها، بخلاف الذي ينفق ابتغاء وجه الله، يقول الله في شأنه: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:265] الذي ينفق أمواله إخلاصاً لله وتصديقاً بموعود الله وتثبيتاً من نفسه وهو صدقه في البذل والعطاء لا شك أنه في هذه الحالة يكون حاله كمثل جنة -بستان- بربوة، أي: على مكان مرتفع، فإن البستان إذا صار في مكان مرتفع، في طريق الهواء والرياح تسطع عليه الشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها، ويكون الثمر أنضج وأحسن وأطيب ولا شك في ذلك، بخلاف الثمار التي تنشأ دائماً في الظلال، ولذلك قال في الزيتونة: شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور:35] أي: معتدلة في الوسط، الشمس تأتي عليها في جميع الأوقات يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ [النور:35] فهذا أنفس الزيتون، وأنفس الأشجار ما تكون بهذه الصفة، فهذه الجنة التي بهذا المرتفع المتعرضة للشمس إذا أصابها الوابل والمطر الشديد آتت أكلها ضعفين؛ أعطت البركة.. أخرج ثمرتها ضعفي ما يثمر غيرها فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ [البقرة:265] إذا ما أصباها وابل فَطَلٌّ وهو دون الوابل الرش الخفيف؛ هذا يكفي لإنباتها أيضاً، لكن إنباتاً دون الإنبات الأول، فهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للسابق بالخيرات والمقتصد.. المقتصد صاحب الطل، والسابق بالخيرات صاحب الوابل.

إذاً: هذا مثل المرائي ومثل الذي ينفق إخلاصاً لله سبحانه وتعالى.

ثم إن الله عز وجل ضرب مثلاً آخر في سورة البقرة التي فيها هذه الأمثال العظيمة حاثاً عباده على أن تكون صدقاتهم خالصة له عز وجل، قال: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:266] هذا الشخص تعلق قلبه بهذه الجنة من نواحي كثيرة:

أولاً: أن فيها أعناب ونخيل، وهي من أنفس الثمار.

ثانياً: أن هذا البستان يجري من تحته الأنهار.

ثالثاً: أنه ليس فقط فيها أعناب ونخيل، وإنما فيها من كل الثمرات.

رابعاً: أن هذه الجنة التي فيها أشرف أنواع الثمار التي يؤخذ منها: القوت، والغذاء، والدواء، والشراب، والفاكهة، والحلو والحامض التي تؤكل رطباً ويابسةً، أي: النخيل والعنب؛ هذه صفاتها، وبالإضافة إلى كل الثمرات؛ فإن هذا الرجل قد كبر سنه، ولا شك أن الإنسان إذا كبر سنه لا يقدر على الكسب والتجارة ويحتاج إلى الأشياء التي لها مدخولات ثابتة كالمزارع والعقار، ولذلك أصابه الكبر، فهو يحتاج إليها حاجة شديدة الآن، وكذلك فإن هذا الرجل إذا كبر سنه اشتد حرصه فتعلق قلبه بها أكثر، فإن الإنسان يهرم ويشب معه حب المال والحرص.

وكذلك فإن هذا الرجل له ذرية؛ والذي له ذرية يحب أن يحفظ أمواله حتى يبقيها للذرية والأولاد، وبالإضافة إلى ذلك فإن هؤلاء الذرية ليسوا كباراً وإنما هم ضعفاء، وإذا كانت الذرية ضعفاء؛ فسيكون حرصه على هذا المال أكثر؛ لأن الذرية ضعفاء صغار لا يستطيعون الكسب، وكذلك فإنه هو الذي ينفق عليهم لضعفهم وعجزهم، كيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصبح يوماً فرأى أن جنته قد احترقت بإعصارٍ فيه نار فاحترقت وصارت رماداً، كيف تكون وقع المصيبة عليه؟!

هذا الرجل مثله مثل رجل عمل أعمالاً في الدنيا لكن برياء ومنّ وأذى، فجاء يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى ثواب الأعمال؛ لأن أمامه النار والهلاك والدمار، فرأى أنه لا شيء له ألبتة؛ لأنها كلها ذهبت بالرياء والمن والأذى، فهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى والله يضرب الأمثال للناس لعلهم يعقلون، وهذا مثل قلّ من يعقله من الناس، فكل واحد تسول له نفسه إحراق أعماله الصالحة بالرياء، فليتأمل هذا المثل، وليعرف أيضاً عظم المصيبة التي تنزل عليه عندما يدخل في موضوع الرياء أو يدخل الرياء في أعماله.

أما بالنسبة للصدقة: فإن الصدقة لا شك أنها من الأشياء التي حثَّت عليها الشريعة، والتي كان النبي عليه الصلاة والسلام يدخلها في دعوته، حتى إن هرقل لما سأل أبا سفيان عن دعوة النبي عليه الصلاة والسلام أخبره أنه يأمر بالصلاة، والصدقة، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، حتى إن هرقل قال: هذه صفة نبي.

والصدقة منة من الله، ولذلك قال الصحابة:

والله لولا الله ما اهتدينا     ولا تصدقنا ولا صلينا

فمن وفقه الله للدين الذي يوعز له بالصدقة؛ فإنه من الله حتى لو تصدقنا نحن، فالمنة لله؛ فالذي وفقنا إليها ومكننا منها، ورزقنا ما نتصدق به هو الله سبحانه وتعالى.

ثم إن الصدقة لها باب خاص في الجنة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله -من أي شيء- نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله، هذا خير؛ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) المكثر من الصدقة يدعى من باب الصدقة.

نقول: الزكاة واجبة، والصلاة واجبة، والصيام واجب، لكن المكثر من صيام النافلة يُدعى من باب الريان، والمكثر من صلاة النافلة يدعى من باب الصلاة، والمكثر من صدقة النافلة بالإضافة إلى الزكاة يدعى من باب الصدقة.

والله سبحانه وتعالى أمرنا أن ننفق من الطيبات، فقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [البقرة:267]، وقد عنون البخاري رحمه الله على هذه الآية، باب: صدقة الكسب والتجارة.

إذاً: إذا كان الكسب طيباً؛ تكون الصدقة عظيمة، وأطيب الكسب ما عمله الإنسان بيده، قال صلى الله عليه وسلم: (كل بيع مبرور) والزراعة، والتجارة الحلال كل هذه مغانم فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً [الأنفال:69] لا تتنازل به المرأة للرجل فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء:4].

الأبواب التي يحصل بها الناس على الأموال كثيرة؛ كلما كانت أطيب وأبعد عن الشبهة؛ كان الإنفاق منها أحسن وأجود وأكثر أجراً.

حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على الصدقة

كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على الصدقة، مسارعاً إليها، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: عن عقبة بن حارث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم العصر فأسرع، ثم دخل البيت، فلم يلبث أن خرج، فقلت، أو قيل له -أي: عن سبب هذا الإسراع- فقال: كنت خلّفت في بيتي تبراً من الصدقة، فكرهت أن أبيته فقسمته) أراد أن يتخلص من هذا الذهب الباقي.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم حاثاً على الإسراع فيها: (تصدقوا؛ فإنه يأتي عليكم زمانٌ يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يقبلها، يقول الرجل المعطى: لو جئت بها بالأمس لقبلتها، فأما اليوم فلا حاجة لي بها) هذا في بعض الأزمنة يسود الرخاء، فلا يأخذ الناس الصدقات.

وكذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة قبل أن يأتي الموت، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: أن تصدق وأنت صحيحٌ شحيحٌ تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل -لا تؤجل- حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان: كذا وكذا، ولفلان: كذا وقد كان لفلان) إذا بلغت الروح الحلقوم صار المال من حق الورثة، وتعينت أنصبتهم ومقاديرهم وصار المال لهم، الآن إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: أعطوا هذا وأعطوا هذا وأنفقوا هنا وهناك، خير الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح لست مريضاً ولا على فراش الموت، شحيح، أي: تخشى الفقر وتأمل الغنى، ويكون فيك حرص على المال، ومع ذلك تنفق في سبيل الله سبحانه وتعالى.

حرص الصحابة على الصدقة

كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حريصين كل الحرص على الصدقة، حتى أن أحدهم كان إذا ما وجد مالاً يتصدق به؛ يذهب إلى السوق يشتغل حمالاً لكي يتصدق من الأجرة.

قال البخاري رحمه الله في كتاب الإجارة، باب: من أجر نفسه ليحمل على ظهره ثم تصدق به وأجرة الحمال.

وقال أبو مسعود الأنصاري: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرنا بالصدقة انطلق أحدنا إلى السوق فيحامل -يعمل حمال- فيصيب المد -أجرة الحمال- لكي يتصدق به، ثم قال أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه: وإن لبعضهم لمائة ألف -أي: بعد الفتوحات- ما تراه إلا نفسه). أي: أنه قصد نفسه، كان يذهب إلى السوق ويعمل حمالاً ويتصدق وهو اليوم فتح عليه ما فتح وصار له مائة ألف.

وينبغي على الإنسان المتصدق أن يراقب وجه الله، ولا يبالي بمن يتكلم عليه من الناس، فالمنافقون تكلموا على المتصدقين من المؤمنين، ففي حديث أبي مسعود المتقدم (لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقال المنافقون: مرائي، وجاء رجل وتصدق بصاع؛ شيء قليل، فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا، فنزلت: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ [التوبة:79] يعني: المتطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التوبة:79] سخر الله من هؤلاء المنافقين.

كان الصحابة رضوان الله عليهم يسارعون في الصدقة رجالاً ونساءً، ولما حثهم الرسول عليه الصلاة والسلام على الصدقة جاء رجلٌ بصرة كادت كفه أن تعجز عنها بل قد عجزت.

وتتابع الناس بالصدقات، وجهز عثمان جيش العسرة، وحصلت أشياء كثيرة جداً من الصحابة مما سبقونا نحن المسارعة في الإنفاق بالقليل والكثير، حتى تصدق أبو بكر بماله كله، وتصدق عمر بنصف ماله، المهم أنه لا يستطيع منا أحد اليوم أن يتصدق بماله كله ولا حتى نصف ماله إلا نادراً جداً من يفعل ذلك، وهذا من أسباب تفوق الصحابة علينا.

والنساء كن أيضاً إذا حثهن النبي صلى الله عليه وسلم ووعظهن يسارعن بذلك، كما جاء في خطبة العيد في صحيح الإمام البخاري : (ثم خطب، ثم أتى النساء فوعظهن وذكرهن وأمرهن أن يتصدقن، فجعلت المرأة تهوي بيدها إلى حلقها تلقي في ثوب بلال. وفي رواية: فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم وبلال يأخذ بطرف ثوبه).

إذاً: نساءً ورجالاً رضي الله عنهم كانوا يسارعون بالصدقات.




استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
اقتضاء العلم العمل 3611 استماع
التوسم والفراسة 3608 استماع
مجزرة بيت حانون 3530 استماع
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] 3497 استماع
اليهودية والإرهابي 3425 استماع
إن أكرمكم عند الله أتقاكم 3425 استماع
حتى يستجاب لك 3393 استماع
المحفزات إلى عمل الخيرات 3370 استماع
ازدد فقهاً بفروض الشريعة 3348 استماع
الزينة والجمال 3335 استماع