مواقف تربوية مؤثرة من سير العلماء


الحلقة مفرغة

دخلت السنة الثامنة من الهجرة، فكان أول أحداثها سرية غالب الليثي إلى بني الملوح، فعادت بالنصر والغنيمة ثم كانت سرية شجاع بن وهب إلى بني عامر، فأصابوا نعماً، ثم سرية عمرو بن كعب الغفاري إلى ذات الأطلاع، فلم ينج إلا هو، وكان رابع أحداث هذه السنة إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة، فكان إسلامهم حدثاً مهماً في تاريخ الدعوة الإسلامية.

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله تعالى كما جمعنا في بيته هذا أن يجمعنا في دار الخلد في جنات النعيم، آمين .. وأشكر هذه الإدارة الكريمة على هذه الدعوة الكريمة في هذه الليلة، وأسأل الله أن يجزي بالخير جميع من حضر واشترك وساهم في إعداد هذه الدروس، التي نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بها جميعاً.

أيها الإخوة: إن الله سبحانه وتعالى قد طلب منا أن نكون ربانيين، فقال: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] والرباني: هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وهذه الأمة علماؤها الذين ساروا على هدي النبي صلى الله عليه وسلم علماء ربانيون، مواقفهم تربي الناس.

ما هو الموقف التربوي أيها الإخوة؟

هو كلمات أو تصرفات يقوم بها العالِم، أو طالب العلم، أو الداعية، أو مسلم من المسلمين، صاحب نيةٍ حسنة ينفع الله بها، تستقر في النفوس، وتعمل عملها في النفوس.

وأبدأ بكلام لـابن الجوزي -رحمه الله- يبين هذا المفهوم، يقول رحمه الله في صيد الخاطر معبراً عن تأثره الشخصي بهذه القضية، قال: "ولقيت الجماعة من علماء الحديث أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه، ولقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون، ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبةٍ يخرجونها مخرج جرح وتعديل، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة ويسرعون بالجواب؛ لئلا ينكسر الجاه وإن وقع الخطأ، ولقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف، لم يُسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه، فكان -وأنا صغير السن حينئذٍ- يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد الأدب في نفسي -وهذا هو الشاهد- وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل، ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقناً محققاً، وربما سُئل عن المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصوم والصمت، فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما، ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول، فالله الله في العمل بالعلم فإنه الأصل الأكبر.

أيها الإخوة: إن علماءنا -رحمهم الله ونفعنا بهم- وأهل العلم الذين عملوا بالعلم لا تزال سيرتهم تنقل عبر الأجيال، تؤثر في القريب والبعيد، والذي لم يشهد يقرأ هذه السير وينتفع بها من بعدهم، فيكون ذلك معيناً لأجورهم،لا ينضب عبر الأجيال، خلَّد الله ذكراهم بإقبالهم على الله وعملهم بالعلم.

إن المواقف التربوية من سير العلماء هو ما ينبغي أن نتطلبه ونحن نؤكد على أهمية التربية، وكيف يربي الإنسان نفسه، وكيف يأخذها بمجامع الإيمان والأدب والخلق والعلم؟ هذه المواقف ينبغي أن نتوقف عندها وأن نتمعن فيها، وهي كثيرة جداً، وبعضها مشهور ومعروف، انتخبت بعضها؛ لكي تكون لنا ذكراً وتذكرة ونفعاً بإذن الله عز وجل.

تعظيم الحديث عند السابقين

كيف كانت النصوص الشرعية وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تؤثر في قلوب الناس ويكون لها وقع في قلوب الناس؟

لماذا تقرأ الأحاديث الآن ويندر أن تجد لها أثراً وقد كانت تقرأ من قبل ولها آثار عظيمة؟

السبب هو قلب الذي يقرأ وكيف تربى وكيف رُبىِّ بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، كان مالك رحمه الله من أشد الناس إجلالاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فعمن اكتسب هذا؟

يقول مالك رحمه الله وقد سئل عن أيوب السختياني : ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه، قال: وحج حجتين فكنت أرمقه -وكلمة (أرمقه) مهمة في معايشة أهل العلم والفضل والأدب والخلق المربين- فلا أسمع منه غير أنه إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى اخضل، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه.

وقال مصعب بن عبد الله : كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت؛ لما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المنكدر ، وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا ويبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد ، وكان كثير الدعابة والتبسم؛ فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة، ولقد اختلفت إليه زماناً -المسألة ليست مشهداً ولا مشهدين ولا موقفاً ولا موقفين- فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً، وإما صامتاً، وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله، ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى لونه كأنه نزف من الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع، ولقد رأيت الزهري ، وكان ممن أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ما عرفك ولا عرفته، ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين؛ فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه.

إذاً: أيها الإخوة! كان للحديث شأن في نفس الإمام مالك ؛ لأنه عايش وتربى على أيدي علماء كانوا يعظمون الحديث، فخرج معظماً للحديث مثلهم .. إن الأحاديث لها وقع في النفوس، ولها مكانة وهيبة.

وكان هؤلاء العلماء من تربيتهم لتلاميذهم أنهم يشعرون المتلقي بعظمة العلم الذي يتلقاه وأهميته؛ فقد روى ابن أبي حاتم -رحمه الله- عن عمران بن عيينة، قال: حدثنا عطاء بن السائب، قال: أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن، وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال: قد أخذت علم الله، قد أخذت علم الله، فليس أحدٌ اليوم أفضل منك إلا بعملك، ثم يقرأ: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء:166] هذا المعلم يقول للمتعلم: انظر إلى العلم الذي تأخذه واعرف قدره ومنزلته.

ولذلك كان للعلم تأثير عظيم في نفوسهم، وتعظيم نصوص الوحي والوقوف عندها وعدم الاعتراض عليها مبدأ مهم جداً في حياة المسلم، هذا المبدأ لو أُلقيت فيه محاضرات وخطب لا يكون مستقراً في النفوس كما لو صار مستقراً بمواقف وأحداث.

قال الذهبي رحمه الله: وفي مسند الشافعي سماعنا: أخبرني أبو حنيفة بن سماك ، حدثني ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي شريح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القود) الدية أو القصاص، يقول الراوي: فقلت لـابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا الحديث؟! فضرب صدري وصاح كثيراً، ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: أتأخذ به؟ نعم. آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى كل من سمعه، إن الله اختار محمداً صلى الله عليه وسلم من الناس؛ فهداهم به وعلى يديه؛ فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك.

وقال محمد بن أحمد البلخي المؤذن: كنت مع الشيخ ابن أبي شريح في طريق، فأتاه إنسان في بعض تلك الجبال، فقال: إن امرأتي ولدت لستة شهور، فكأنه يقول: هل هو ولدي أو ليس بولدي؟ فقال: هو ولدك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش) ما دامت الزوجة عندك، وما دامت الزوجية قائمة فهي فراشك، فعاوده -أي: السائل- فرد عليه بذلك، فقال الرجل: أنا لا أقول بهذا -غير مقتنع- فقال: هذا الغزو، وسل عليه السيف، فأكببنا عليه وقلنا له: جاهل لا يدري ما يقول، اعذره، تلطفنا معه حتى سلم منه.

لقد كانت للنصوص هيبة عندهم، وتعظيم النص والتسليم له كان أمراً معروفاً عندهم، وقد يحتاج أحياناً العالِم لشيء من التأديب لبعض هؤلاء المعترضين.

وهذه قصة ذكرها ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسيره ، ناقلاً عن ابن جرير، حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي، حدثنا وكيع بن الجراح، عن المسعودي ، -و وكيع روى عن المسعودي قبل الاختلاط- عن عبد الملك بن عمير ، عن قبيصة بن جابر، قال: خرجنا حجاجاً؛ فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا نماشى ونتحدث، قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي -سنح لنا، أي: أتى من الشمال، وإذا أتى من اليمين يقال: برح- فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خشاءه -وهي المنطقة الناتئة خلف الأذن، أصابه في مقتله- فسقط ميتاً، قال: فعظّمنا عليه كيف تصيد في الحرم؟ قال: فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر رضي الله عنه، فقص عليه القصة، وإلى جنبه رجل كأن وجهه قُلْبُ فضة -وهو السوار الذي يكون لياً واحداً، وكان عبد الرحمن بن عوف أبيض مشرباً بحمرة، وهذا هو الذي كان جالساً بجانب عمر- فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه -يتشاور معه في الحكم، ثم أقبل على الرجل، فقال: أعمداً قتلته أم خطأً؟ قال الرجل: لقد تعمدت رميه وما تعمدت قتله، فقال عمر : [ما أراك إلا أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها وأسق إهابها] وعلق الشيخ محمود شاكر رحمه الله: [وأسقِ إهابها] أي: إعط إهابها من يدبغه، ويتخذ من جلدها سقاء [قال: فقمنا من عنده فقلت لصاحبي: أيها الرجل! عظم شعائر الله، عظم شعائر الله! فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه، اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعل ذلك، قال قبيصة : ولا أذكر الآية من سورة المائدة: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95] قال: فبلغ عمر مقالتي فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدرة، فعلا صاحبي ضرباً بالدرة، وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفهت الحكم؟! ثم أقبل علي -ليؤدبه- فقلت: يا أمير المؤمنين! لا أحل لك اليوم شيئاً يحرم عليك مني. فقال: يا قبيصة بن جابر! إني أراك شاب السن، فسيح الصدر، بين اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة، وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الحسنة، فإياك وعثرات الشباب] لا تستعجل وتعترض على الحكم، حكم به ذوا عدل من الصحابة وتخالف وتفتي بغير ما قلناه، وهذا التأديب يكون سلطة لبعض الناس قد لا تتوافر للكثيرين، لكن الشاهد أنه وسيلة، موقف يتربى عليه قبيصة من عمر رضي الله تعالى عنهما في الوقوف عند الفتوى، وفي عدم الاستعجال في تخطئة العلماء.

التأثر بالآيات عند العلماء السابقين

أيها الإخوة: لماذا تكون بعض الآيات حية في بعض النفوس والضمائر؟ لماذا يكون لها تأثير؟

لأن هؤلاء تلقوها بنفوس مفتوحة، والذي علموهم إياها لم يعلموهم إياها بنفسٍ باردة، بل علموهم إياها بنفوس وقلوب حية، ولذلك بقيت الآيات لها تأثير.

خذ مثلاً قول الله تعالى في سورة مريم: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72] هذه الآية كان عدد من السلف إذا قرءوها بكوا بكاءً شديداً، [كان عبد الله بن رواحة واضعاً رأسه في حجر امرأته؛ فبكى فبكت امرأته، فقال: ما يبكيكِ؟ فقالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني ذكرت قول الله عز وجل: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً [مريم:71] فلا أدري أأنجو منها أم لا؟] وكان مريضاً هذه تربية من الزوج لزوجته على هذه الآية، والخشية من الله.

وكان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: "ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل: ما يبكيك يا أبا ميسرة ؟ قال: أخبرنا أنَّا واردوها، ولم نخبر أنَّا صادرون عنها"، قطعاً أنا واردون جهنم وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] لكن ليس عندنا شيء يثبت لكل واحد منا أنه سينجو منها.

وعن الحسن البصري قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك واردٌ النار؟ -انظر إلى الموعظة وأسلوبها، هذا الأسلوب التربوي- قال: نعم. -تذكر الرجل الآية- قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا. قال: ففيم الضحك؟!

سيرة السلف وأثرها في التربية

كان العلماء رحمهم الله يخفون أعمالهم بالعبادة؛ فيطلع الله عز وجل بإخلاصهم بعض الناس على أعمالهم الخفية.

إن على الإنسان أن يجتهد في عمله، لكن الله سبحانه وتعالى أحياناً يطلع بعض الناس من تلاميذهم أو من أصحابهم على أعمالهم الخفية، فإذا رأوها تأثروا بها؛ فيكون لذلك الموقف تأثير ما قصده الشخص، فما قصد الشخص أن يري الآخر عمله، لكن لإخلاص هذا الرجل يطلع الله بعض الناس على أعماله الخفية؛ فتكون تربيةً لهم.

إن التربية -أحياناً- لا تكون مقصودة بالذات، لكن سيرة الرجل ما خفي منها وما ظهر كلها تربية، يقول حماد بن جعفر بن زيد : إن أباه جعفر بن زيد أخبره قال: خرجنا في غزاةٍ إلى كابول ، وفي الجيش صلة بن أشيم ؛ فنزل الناس عند العتمة فصلوا، ثم اضطجع، فقلت: لأرقبن عمله -هذا رجل يستحق أن نراقب أعماله، وننظر ماذا يفعل في خلوته وسره- فالتمس غفلة الناس، حتى إذا قلت: هدأت العيون، وثب فدخل غيضةً قريباً منا ودخلت على إثره -ينظر ويراقب- فتوضأ فقام يصلي -دخل في مكان فيه أشجار حتى يستتر عن الناس في الليل ثم قام يصلي- وجاء أسد حتى دنا منه؛ فصعدت في شجرة، فلما سجد قلت: الآن يفترسه فجلس ثم سلم، ثم قال: أيها السبع! اطلب الرزق من مكانٍ آخر، فولى وإن له لزئيراً تصدع الجبال منه! قال: فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس -جهاد وقيام ليل- فحمد الله بمحامد، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، ثم رجع وأصبح حتى كأنه بات -أي: بين الناس- وأصبحت وبي من الفزع شيء لا يعلمه إلا الله.

وكذلك دخل رجل من طلاب النووي -رحمه الله- المسجد في الليل، فإذا صوت شيخه النووي قائماً في الليل في المسجد، يقرأ آية ويرددها ويبكي، ويقرأ آية ويرددها ويبكي، وهكذا ... قال: فوقع في نفسي من الخشوع ما الله به عليم.

إذاً: الناس المخلصون يُطلع الله على بعض سيرتهم بعض الناس فينقلونها، وكثير من هذه الأشياء موجودة في الكتب، هذه مواقف كانت مخفية، وبعضهم اطلع بعض طلابهم على شيء، فاستحلفه ألا يخبر به حتى يموت، وهدده أنه لو أخبر به أن يقاطعه ولا يكلمه أبداً ولا يعلمه حرفاً، ولذلك ما نشرت الأعمال إلا بعد موت الشخص، نشرت وسطرت ونقلت إلينا في الكتب.

ومن هؤلاء عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى، قال علي بن الفضل : رأيت الثوري ساجداً، فطفت سبعة أشواط قبل أن يرفع رأسه، وصلى بعد المغرب فسجد فلم يرفع حتى أذن العشاء، وكان الثوري -رحمه الله- إذا صلى الليل اضطجع فرفع رجليه على الجدار ليعود الدم إلى أسفل من كثرة وقوفه.

إخفاء الأعمال وأثره في التربية

إن إخفاء الأعمال له أثر تربوي كبير جداً، والإخلاص باب يفتح الله به على بعض الناس، يرى من خلاله سير بعض هؤلاء الذين أخفوا أعمالهم.

ففي ترجمة محمد بن إسماعيل البخاري يقول أبو بكر بن منيف : كان محمد بن إسماعيل البخاري ذات يوم يصلي، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى صلاته اشتكى، فنظروا فإذا الزنبور قد أصابه بالورم في سبعة عشر موضعاً ولم يقطع صلاته، فلاموه، فقال: كنت في آية فأحببت أن أتمها. وما قطع الصلاة.

يقول علي بن محمد بن منصور : سمعت أبي يقول: كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري ، فرفع إنسان من لحيته قذاةً وطرحها إلى الأرض، فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس -الآن حركات محمد بن إسماعيل تحت المجهر من ذلك الرجل- والبخاري يراقب الناس وينظر إلى القذاة، فلما غفل الناس رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها على الأرض، فكأنه صان المسجد عما تصان عنه لحيته.

ففي هذا الموقف هل كان البخاري تقصد أن يراه ذلك الشخص؟ أبداً. لكن الموقف أطلع الله عليه واحداً ونُقل وسُطر، وفي سيرة البخاري يوجد هذا الموقف ويقرؤه طلاب العلم إلى الآن.

مواقف إثبات عقيدة السلف وأثرها في التربية

وقد يكون الموقف -أحياناً- في تقرير السلف موقفاً تربوياً يظهر عقيدة السلف ويرد على البدعة .. فهذا الشيخ الصالح أبو جعفر الهمداني -رحمه الله- لما صعد أبو المعالي الجويني على المنبر يقول: كان الله ولا عرش. وهو يريد أن ينكر العلو، وينكر استواء الله على عرشه، فقال: يا أستاذ! دعنا من ذكر العرش، هذا شيء قد ثبت بالسمع وهو أمر منتهٍ، أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا ألله إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو، وما رفع داعٍ قط يديه يقول: يا ألله، إلا ونفسه وفطرته تطلب العلو، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه، وقال: حيرني الهمداني حيرني الهمداني ، ونزل.

هذا موقف واحد نصر الله به الحق.. موقف واحد قد يدخل به الإنسان الجنة.. موقف واحد يسكت به بدعة، أو ينصر به السنة.. خطبة واحدة أو درس واحد أو عبارة واحدة ينصر الله بها الحق، وتكتب عند الله حسنة عظيمة ترجح في الميزان، وربما لا ينقل عن بعض الأشخاص إلا موقف واحد فقط، ما عرفناه إلا من خلال هذا الموقف، لكن هذا الموقف لما كان عظيماً عند الله نُشر ونُقل وكتب الله له الخلود.

مواقف العلماء مع السفهاء وأثرها في التربية

أحياناً يقع العالم في تعامله مع سفهاء جاهلين، فكيف يكون موقفه؟ وكيف يتعلم الناس منه؟ وما هو التصرف لو نصحت شخصاً فرد عليك بسفاهة؟ لو أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر فاعترض عليك بوقاحة؟

روى ابن أبي حاتم -رحمه الله-: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءةً، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مالك بن أنس، عن عبد الله بن نافع : أن سالم بن عبد الله بن عمر مرَّ على عير لأهل الشام وفيها جرس، فقال: إن هذا منهي عنه -الجرس في عنق البعير والدابة في السفر منهي عنه- (لا تصحب الملائكة رفقة وفيهم جلجل) أي: جرس -فقالوا: نحن أعلم بهذا منك -بهذه السفاهة- إنما يكره الجلجل الكبير، فأما مثل هذا فلا بأس به، فسكت سالم وقال: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]. وستأتينا -إن شاء الله- مواقف حول هذا الموضوع في تصرف العالِم مع السفيه ومع الجاهل.

صيانة العلم عمن لا يستحقه وأثره في التربية

كيف تكون للعلم قيمة؟

عندما يصان عمن لا يستحقه، ولا يوضع في غير موضعه؛ كان المازني -رحمه الله- من كبار علماء اللغة ذا ورع ودين، أراد يهودي أن يدرس النحو فقد حصّل جزءاً من هذا العلم فجاء ليقرأ على المازني كتاب سيبويه فبذل له مائة دينار وقال: أعطيك مائة دينار وأقرأ عليك كتاب سيبويه ، فامتنع وقال: هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة آية ونيف، فلا أمكن منها ذمياً .. أنت يهودي وهذا كتاب وإن كان في اللغة لكن فيه ثلاثمائة آية، فلا أمكن منه ذمياً، ولذلك يعظم العلم في نفوس الأصدقاء والأعداء بمثل هذه المواقف.

التواضع وأثره في التربية

من الأشياء التي نستفيدها من العلماء في مواقفهم: التربية في تواضعهم في أخذ العلم، وعزو العلم إلى قائله، ووصاياهم، فإذا ذكر شيء يقول الشخص: خفي عليّ، لم يكن لي به علم حتى أفادنيه فلان، هذه المسألة استفدتها من فلان، فلان علمني إياها، وهذا من التواضع.

يقول أبو عبيد رحمه الله: زرت أحمد بن حنبل -والإنسان إذا ذهب يزور العلماء بنية الاستفادة يخرج بفوائد- فلما دخلت عليه بيته قام فاعتنقني وأجلسني في صدر المجلس، فقلت: يا أبا عبد الله ! أليس يقال: صاحب البيت أو المجلس أحق بصدر بيته أو مجلسه؟ قال: نعم. يقعد ويُقعد من يريد، فقلت في نفسي: خُذ إليك أبا عبيد فائدة، ثم قلت: يا أبا عبد الله ! لو كنت آتيك على حق ما تستحق لأتيتك كل يوم، فقال: لا تقل ذلك، فإن لي إخواناً ما ألقاهم في كل سنة إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم، فقلت: هذه أخرى يا أبا عبيد ، فلما أردت القيام قام معي، فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله ! فقال: قال الشعبي : من تمام زيارة الزائر أن يُمشى معه إلى باب الدار، ويؤخذ بركابه -والآن حتى يدخل السيارة ويغلق باب السيارة ويتحرك- قال: فقلت: يا أبا عبد الله ! من عن الشعبي ؟ قال: ابن أبي زائدة، عن مجالد، عن الشعبي ، فقلت: يا أبا عبيد! هذه الثالثة.

هذه نفسية المستفيد، والذي يقول: استفدت الفائدة من شيخنا فلان، أو شيخي فلان علمني إياها.. ونحو ذلك.

جداول العلماء وبرامجهم اليومية وأثرها في التربية

أحياناً تكون جداول العلماء ودروسهم وبرنامجهم -كما يقال- اليومي بحد ذاته عبرة لطالب العلم أن يتربى على الاستفادة من الوقت، عندما ينظر هذا الشيخ يُشغل وقته في أي شيء؟ وكيف يمر يومه؟ وكيف يغتنم عمره؟

ففي ترجمة ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- يقول السخاوي تلميذه: وأما طريقته في تقضي أوقاته فكان في أوائل أمره يصلي الصبح بغلس في الجامع، ثم صار بعد ذلك لما انتقلوا إلى المدرسة وفيها مكان الصلاة يصلي فيها، ثم يجيء من خلوته النافذة لمنزل سكنه؛ فإذا فرغ من الصلاة فإن كانت لأحدٍ حاجة كلمه، ثم يدخل إلى منزله فيشتغل بأذكار الصباح أو التلاوة، ثم يأخذ في المطالعة أو التصنيف إلى وقت صلاة الضحى فيصليها، ثم إن كان بالباب من يستأذن للقراءة ظهر إليهم، فقرأ بعضهم روايةً وبعضهم درايةً، واستمر جالساً معهم إلى قريب الظهر، ثم يدخل إلى منزله قدر ثلث ساعة، ثم يقوم فيصلي الظهر داخل بيته، ثم يطالع أو يصنف إلى بعد أذان العصر بنحو ثلثي ساعة أو أقل أو أكثر، فيظهر إلى المدرسة فيجد الطلبة في انتظاره، فيصلي بهم العصر ثم يجلس للإقراء، وفي غضون قراءتهم عليه وكذا في نوبة الصباح يكتب على ما يجتمع عنده من الفتاوى الحديثية والفقهية، وربما دار بينه وبين بعض الطلبة الكلام في بعضها، ولا ينتهي غالباً من هذه الجلسة إلا عند الغروب، فيدخل إلى منزله، فإن لم يكن صائماً تعشى، وإلا انتظر الأذان فيأكل ثم يصلي ويشتغل أو يطالع إلى أن يسمع العشاء؛ فيقوم إلى المدرسة فيجد جمعاً من الطلبة أيضاً في انتظاره، فيصلي ركعتين، ثم يجلس للقراءة غالباً، أو للمذاكرة أكثر من ساعة، ثم يقوم فيصلي العشاء بالجماعة، ثم يدخل إلى بيته فيصلي سنة العشاء، وهكذا ... رحمه الله.

هذا البرنامج اليومي والجدول الذي كُله نفع وإفادة واستفادة، هذا الوقت وهذا اليوم المليء بالغنائم هذا بحد ذاته -أيها الإخوة- فائدة، وعندما يراه طلابه يحصل في نفوسهم من الحماس للعلم الشيء الكثير، كان -رحمه الله- يغتنم وقته، حتى أوقات الانتظار الطارئة كان يغتنمها، توجه مرةً إلى المدرسة المحمودية فلم يجد مفتاحها، كان قد سها عنه بمنـزله -نسي المفتاح- فأمر بإحضار نجار ليصنع المفتاح، وشرع في الصلاة إلى أن انتهى النجار من فتح الباب، فقيل له: لو أرسلت وأحضرت المفتاح من البيت كان أقل كلفة! قال: هذا أسرع، ويحصل الانتفاع بالمفتاح الثاني، النسخة الثانية هذه مفيدة.

مواقف فيها توبيخ وتقريع وأثرها في التربية

نرجع مرةً أخرى إلى المسألة التي سبق أن قلنا: إن الإنسان أحياناً أو صاحب العلم يحتاج إلى موقف أو يكون في موقف يتعامل فيه مع جاهل أو سفيه، وتقتضي القضية أحياناً شيئاً من التقريع والتوبيخ، لكن إذا كانت ممن يقبل كلامه فإنها تكون فائدة تربوية مؤثرة؛ لأن بعض الناس لا يقبل منهم لو قال.

جلس أعرابي إلى يزيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند ، فقال الأعرابي: والله إن حديثك ليعجبني -أعرابي جاهل- وإن يدك لتريبني -يتهم الشيخ بأن يده يد سارق- فقال يزيد: ما يريبك من يدي؟ إنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال؟ فقال يزيد بن صوحان : صدق الله: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97].

فالموقف -أحياناً- يحتاج إلى شيء من التقريع والتوبيخ لأمثال هؤلاء السفهاء.

ومن أمثلة هذا أيضاً: أن رجلاً جاء إلى أبي عبيد وهو من كبار علماء اللغة، وكان -رحمه الله- فقيهاً، وهو صاحب كتاب الأموال، فسأله عن الرباب فقال: أريد أن أعرف معنى الرباب. فقال: هو الذي يتدلى دوين السحاب -تحت السحاب بقليل- وأنشده بيتاً لـعبد الرحمن بن حسان:

كأن الرباب دوين السحاب     نعام تعلق بالأرجل

فقال: لم أرد هذا -ليس هذا مقصودي- قال أبو عبيد : فالرباب اسم امرأة، وأنشد:

إن الذي قسم الملاحة بيننـا     وكسا وجوه الغانيات جمالا

وهب الملاحة من رباب وزادها     في الوجه من بعد الملاحة خالا

فقال: لم أرد هذا أيضاً، فقال أبو عبيد : عساك أردت قول الشاعر:

رباب ربة البيت     تصب الخل في الزيت

لها سبع دجاجات     وديك حسن الصوت

قال: هذا أردت -هذا هو الذي أبحث عنه- قال: من أين أتيت؟ قال: من البصرة . قال: على أي شيء جئت: على الظهر أم على الماء؟ -على دابة أم على سفينة؟- قال: في الماء. قال: كم أعطيت الملاح؟ قال: أربعة دراهم. قال: اذهب واسترجع منه ما أعطيته، وقل: لم تحمل شيئاً فعلام تأخذ مني الأجرة؟

فقد يبتلى العالِم أو طالب العلم بأسئلة جهلة، يفترض فيهم في البداية حسن الظن، ويعطيه الأدلة وأقوال العلماء، ثم يتبين لهم أنهم في سخرية، فهنا يكون عليهم صارماً، هذا علم وليس لعب، هذا علم ينبغي أن يُوقر، فلما وجد الرجل خالياً قال له ما قال تربية له وتقريعاً وتوبيخاً لأمثاله.

كيف كانت النصوص الشرعية وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تؤثر في قلوب الناس ويكون لها وقع في قلوب الناس؟

لماذا تقرأ الأحاديث الآن ويندر أن تجد لها أثراً وقد كانت تقرأ من قبل ولها آثار عظيمة؟

السبب هو قلب الذي يقرأ وكيف تربى وكيف رُبىِّ بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، كان مالك رحمه الله من أشد الناس إجلالاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فعمن اكتسب هذا؟

يقول مالك رحمه الله وقد سئل عن أيوب السختياني : ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه، قال: وحج حجتين فكنت أرمقه -وكلمة (أرمقه) مهمة في معايشة أهل العلم والفضل والأدب والخلق المربين- فلا أسمع منه غير أنه إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى اخضل، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه.

وقال مصعب بن عبد الله : كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت؛ لما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المنكدر ، وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا ويبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد ، وكان كثير الدعابة والتبسم؛ فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة، ولقد اختلفت إليه زماناً -المسألة ليست مشهداً ولا مشهدين ولا موقفاً ولا موقفين- فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً، وإما صامتاً، وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله، ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى لونه كأنه نزف من الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع، ولقد رأيت الزهري ، وكان ممن أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ما عرفك ولا عرفته، ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين؛ فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه.

إذاً: أيها الإخوة! كان للحديث شأن في نفس الإمام مالك ؛ لأنه عايش وتربى على أيدي علماء كانوا يعظمون الحديث، فخرج معظماً للحديث مثلهم .. إن الأحاديث لها وقع في النفوس، ولها مكانة وهيبة.

وكان هؤلاء العلماء من تربيتهم لتلاميذهم أنهم يشعرون المتلقي بعظمة العلم الذي يتلقاه وأهميته؛ فقد روى ابن أبي حاتم -رحمه الله- عن عمران بن عيينة، قال: حدثنا عطاء بن السائب، قال: أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن، وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال: قد أخذت علم الله، قد أخذت علم الله، فليس أحدٌ اليوم أفضل منك إلا بعملك، ثم يقرأ: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء:166] هذا المعلم يقول للمتعلم: انظر إلى العلم الذي تأخذه واعرف قدره ومنزلته.

ولذلك كان للعلم تأثير عظيم في نفوسهم، وتعظيم نصوص الوحي والوقوف عندها وعدم الاعتراض عليها مبدأ مهم جداً في حياة المسلم، هذا المبدأ لو أُلقيت فيه محاضرات وخطب لا يكون مستقراً في النفوس كما لو صار مستقراً بمواقف وأحداث.

قال الذهبي رحمه الله: وفي مسند الشافعي سماعنا: أخبرني أبو حنيفة بن سماك ، حدثني ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي شريح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القود) الدية أو القصاص، يقول الراوي: فقلت لـابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا الحديث؟! فضرب صدري وصاح كثيراً، ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: أتأخذ به؟ نعم. آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى كل من سمعه، إن الله اختار محمداً صلى الله عليه وسلم من الناس؛ فهداهم به وعلى يديه؛ فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك.

وقال محمد بن أحمد البلخي المؤذن: كنت مع الشيخ ابن أبي شريح في طريق، فأتاه إنسان في بعض تلك الجبال، فقال: إن امرأتي ولدت لستة شهور، فكأنه يقول: هل هو ولدي أو ليس بولدي؟ فقال: هو ولدك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش) ما دامت الزوجة عندك، وما دامت الزوجية قائمة فهي فراشك، فعاوده -أي: السائل- فرد عليه بذلك، فقال الرجل: أنا لا أقول بهذا -غير مقتنع- فقال: هذا الغزو، وسل عليه السيف، فأكببنا عليه وقلنا له: جاهل لا يدري ما يقول، اعذره، تلطفنا معه حتى سلم منه.

لقد كانت للنصوص هيبة عندهم، وتعظيم النص والتسليم له كان أمراً معروفاً عندهم، وقد يحتاج أحياناً العالِم لشيء من التأديب لبعض هؤلاء المعترضين.

وهذه قصة ذكرها ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسيره ، ناقلاً عن ابن جرير، حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي، حدثنا وكيع بن الجراح، عن المسعودي ، -و وكيع روى عن المسعودي قبل الاختلاط- عن عبد الملك بن عمير ، عن قبيصة بن جابر، قال: خرجنا حجاجاً؛ فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا نماشى ونتحدث، قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي -سنح لنا، أي: أتى من الشمال، وإذا أتى من اليمين يقال: برح- فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خشاءه -وهي المنطقة الناتئة خلف الأذن، أصابه في مقتله- فسقط ميتاً، قال: فعظّمنا عليه كيف تصيد في الحرم؟ قال: فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر رضي الله عنه، فقص عليه القصة، وإلى جنبه رجل كأن وجهه قُلْبُ فضة -وهو السوار الذي يكون لياً واحداً، وكان عبد الرحمن بن عوف أبيض مشرباً بحمرة، وهذا هو الذي كان جالساً بجانب عمر- فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه -يتشاور معه في الحكم، ثم أقبل على الرجل، فقال: أعمداً قتلته أم خطأً؟ قال الرجل: لقد تعمدت رميه وما تعمدت قتله، فقال عمر : [ما أراك إلا أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها وأسق إهابها] وعلق الشيخ محمود شاكر رحمه الله: [وأسقِ إهابها] أي: إعط إهابها من يدبغه، ويتخذ من جلدها سقاء [قال: فقمنا من عنده فقلت لصاحبي: أيها الرجل! عظم شعائر الله، عظم شعائر الله! فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه، اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعل ذلك، قال قبيصة : ولا أذكر الآية من سورة المائدة: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95] قال: فبلغ عمر مقالتي فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدرة، فعلا صاحبي ضرباً بالدرة، وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفهت الحكم؟! ثم أقبل علي -ليؤدبه- فقلت: يا أمير المؤمنين! لا أحل لك اليوم شيئاً يحرم عليك مني. فقال: يا قبيصة بن جابر! إني أراك شاب السن، فسيح الصدر، بين اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة، وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الحسنة، فإياك وعثرات الشباب] لا تستعجل وتعترض على الحكم، حكم به ذوا عدل من الصحابة وتخالف وتفتي بغير ما قلناه، وهذا التأديب يكون سلطة لبعض الناس قد لا تتوافر للكثيرين، لكن الشاهد أنه وسيلة، موقف يتربى عليه قبيصة من عمر رضي الله تعالى عنهما في الوقوف عند الفتوى، وفي عدم الاستعجال في تخطئة العلماء.

أيها الإخوة: لماذا تكون بعض الآيات حية في بعض النفوس والضمائر؟ لماذا يكون لها تأثير؟

لأن هؤلاء تلقوها بنفوس مفتوحة، والذي علموهم إياها لم يعلموهم إياها بنفسٍ باردة، بل علموهم إياها بنفوس وقلوب حية، ولذلك بقيت الآيات لها تأثير.

خذ مثلاً قول الله تعالى في سورة مريم: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72] هذه الآية كان عدد من السلف إذا قرءوها بكوا بكاءً شديداً، [كان عبد الله بن رواحة واضعاً رأسه في حجر امرأته؛ فبكى فبكت امرأته، فقال: ما يبكيكِ؟ فقالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني ذكرت قول الله عز وجل: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً [مريم:71] فلا أدري أأنجو منها أم لا؟] وكان مريضاً هذه تربية من الزوج لزوجته على هذه الآية، والخشية من الله.

وكان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: "ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل: ما يبكيك يا أبا ميسرة ؟ قال: أخبرنا أنَّا واردوها، ولم نخبر أنَّا صادرون عنها"، قطعاً أنا واردون جهنم وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] لكن ليس عندنا شيء يثبت لكل واحد منا أنه سينجو منها.

وعن الحسن البصري قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك واردٌ النار؟ -انظر إلى الموعظة وأسلوبها، هذا الأسلوب التربوي- قال: نعم. -تذكر الرجل الآية- قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا. قال: ففيم الضحك؟!

كان العلماء رحمهم الله يخفون أعمالهم بالعبادة؛ فيطلع الله عز وجل بإخلاصهم بعض الناس على أعمالهم الخفية.

إن على الإنسان أن يجتهد في عمله، لكن الله سبحانه وتعالى أحياناً يطلع بعض الناس من تلاميذهم أو من أصحابهم على أعمالهم الخفية، فإذا رأوها تأثروا بها؛ فيكون لذلك الموقف تأثير ما قصده الشخص، فما قصد الشخص أن يري الآخر عمله، لكن لإخلاص هذا الرجل يطلع الله بعض الناس على أعماله الخفية؛ فتكون تربيةً لهم.

إن التربية -أحياناً- لا تكون مقصودة بالذات، لكن سيرة الرجل ما خفي منها وما ظهر كلها تربية، يقول حماد بن جعفر بن زيد : إن أباه جعفر بن زيد أخبره قال: خرجنا في غزاةٍ إلى كابول ، وفي الجيش صلة بن أشيم ؛ فنزل الناس عند العتمة فصلوا، ثم اضطجع، فقلت: لأرقبن عمله -هذا رجل يستحق أن نراقب أعماله، وننظر ماذا يفعل في خلوته وسره- فالتمس غفلة الناس، حتى إذا قلت: هدأت العيون، وثب فدخل غيضةً قريباً منا ودخلت على إثره -ينظر ويراقب- فتوضأ فقام يصلي -دخل في مكان فيه أشجار حتى يستتر عن الناس في الليل ثم قام يصلي- وجاء أسد حتى دنا منه؛ فصعدت في شجرة، فلما سجد قلت: الآن يفترسه فجلس ثم سلم، ثم قال: أيها السبع! اطلب الرزق من مكانٍ آخر، فولى وإن له لزئيراً تصدع الجبال منه! قال: فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس -جهاد وقيام ليل- فحمد الله بمحامد، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، ثم رجع وأصبح حتى كأنه بات -أي: بين الناس- وأصبحت وبي من الفزع شيء لا يعلمه إلا الله.

وكذلك دخل رجل من طلاب النووي -رحمه الله- المسجد في الليل، فإذا صوت شيخه النووي قائماً في الليل في المسجد، يقرأ آية ويرددها ويبكي، ويقرأ آية ويرددها ويبكي، وهكذا ... قال: فوقع في نفسي من الخشوع ما الله به عليم.

إذاً: الناس المخلصون يُطلع الله على بعض سيرتهم بعض الناس فينقلونها، وكثير من هذه الأشياء موجودة في الكتب، هذه مواقف كانت مخفية، وبعضهم اطلع بعض طلابهم على شيء، فاستحلفه ألا يخبر به حتى يموت، وهدده أنه لو أخبر به أن يقاطعه ولا يكلمه أبداً ولا يعلمه حرفاً، ولذلك ما نشرت الأعمال إلا بعد موت الشخص، نشرت وسطرت ونقلت إلينا في الكتب.

ومن هؤلاء عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى، قال علي بن الفضل : رأيت الثوري ساجداً، فطفت سبعة أشواط قبل أن يرفع رأسه، وصلى بعد المغرب فسجد فلم يرفع حتى أذن العشاء، وكان الثوري -رحمه الله- إذا صلى الليل اضطجع فرفع رجليه على الجدار ليعود الدم إلى أسفل من كثرة وقوفه.

إن إخفاء الأعمال له أثر تربوي كبير جداً، والإخلاص باب يفتح الله به على بعض الناس، يرى من خلاله سير بعض هؤلاء الذين أخفوا أعمالهم.

ففي ترجمة محمد بن إسماعيل البخاري يقول أبو بكر بن منيف : كان محمد بن إسماعيل البخاري ذات يوم يصلي، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى صلاته اشتكى، فنظروا فإذا الزنبور قد أصابه بالورم في سبعة عشر موضعاً ولم يقطع صلاته، فلاموه، فقال: كنت في آية فأحببت أن أتمها. وما قطع الصلاة.

يقول علي بن محمد بن منصور : سمعت أبي يقول: كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري ، فرفع إنسان من لحيته قذاةً وطرحها إلى الأرض، فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس -الآن حركات محمد بن إسماعيل تحت المجهر من ذلك الرجل- والبخاري يراقب الناس وينظر إلى القذاة، فلما غفل الناس رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها على الأرض، فكأنه صان المسجد عما تصان عنه لحيته.

ففي هذا الموقف هل كان البخاري تقصد أن يراه ذلك الشخص؟ أبداً. لكن الموقف أطلع الله عليه واحداً ونُقل وسُطر، وفي سيرة البخاري يوجد هذا الموقف ويقرؤه طلاب العلم إلى الآن.

وقد يكون الموقف -أحياناً- في تقرير السلف موقفاً تربوياً يظهر عقيدة السلف ويرد على البدعة .. فهذا الشيخ الصالح أبو جعفر الهمداني -رحمه الله- لما صعد أبو المعالي الجويني على المنبر يقول: كان الله ولا عرش. وهو يريد أن ينكر العلو، وينكر استواء الله على عرشه، فقال: يا أستاذ! دعنا من ذكر العرش، هذا شيء قد ثبت بالسمع وهو أمر منتهٍ، أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا ألله إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو، وما رفع داعٍ قط يديه يقول: يا ألله، إلا ونفسه وفطرته تطلب العلو، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه، وقال: حيرني الهمداني حيرني الهمداني ، ونزل.

هذا موقف واحد نصر الله به الحق.. موقف واحد قد يدخل به الإنسان الجنة.. موقف واحد يسكت به بدعة، أو ينصر به السنة.. خطبة واحدة أو درس واحد أو عبارة واحدة ينصر الله بها الحق، وتكتب عند الله حسنة عظيمة ترجح في الميزان، وربما لا ينقل عن بعض الأشخاص إلا موقف واحد فقط، ما عرفناه إلا من خلال هذا الموقف، لكن هذا الموقف لما كان عظيماً عند الله نُشر ونُقل وكتب الله له الخلود.




استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
اقتضاء العلم العمل 3611 استماع
التوسم والفراسة 3608 استماع
مجزرة بيت حانون 3530 استماع
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] 3496 استماع
اليهودية والإرهابي 3424 استماع
إن أكرمكم عند الله أتقاكم 3424 استماع
حتى يستجاب لك 3393 استماع
المحفزات إلى عمل الخيرات 3370 استماع
ازدد فقهاً بفروض الشريعة 3347 استماع
الزينة والجمال 3335 استماع