جسر الأهوال


الحلقة مفرغة

بعد أن نزل الملك على نبينا في غار حراء بالأمر الأول انقطع عنه قرابة أربعين يوماً، ثم بعد ذلك أنزل الله عليه سورة المدثر، ثم تتابع نزول الوحي عليه، وكان ينزل في صور عدة؛ وهي الرؤيا الصالحة الصادقة في المنام، والإلقاء في الروع والنفث فيه، وأن يأتيه في صورة صلصلة جرس، وأن يأتيه الملك في صورة رجل فيوحي إليه ما شاء الله، وأن يخاطبه ربه كفاحاً من وراء حجاب.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعـد:

فإن يوم القيامة يوم عظيم.. يوم كان شره مستطيراً، وكان يوماً عبوساً قمطريراً، وطول ذلك اليوم خمسون ألف سنة، ذكره الله لنا في كتابه لنحذر شره، وذكَّر عباده به ليستعدوا لذلك اليوم لئلا يقول أحد: يا رب! لم تخبرني بما يكون فيه، فقد أخبرنا الله بالتفصيل في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أن ذكرنا في خطبة ماضية الحشر وبعض ما يكون فيه، وسنذكر في هذه الخطبة -إن شاء الله- أمراً واحداً من الأمور التي تكون في ذلك اليوم، وهو الصراط.. ولا شك أن التفكر في أهوال الآخرة هو الضامن لإصلاح النفوس وتغيير الحال إلى الأفضل.

العظة باليوم الآخر هي التي تغير سلوك الناس.. توقظ الغافلين، وتنبه السادرين في غيهم.

عباد الله: إذا جمع الله الأولين والآخرين، وحُشِرَ الناس، وأخذ بالكفار إلى النار، يبقى من ينتسب إلى الإسلام ينتظرون الله تعالى، فيأتيهم الله عزَّ وجلَّ في صورة غير صورته -كما جاء في صحيح البخاري- يمتحنهم، والمؤمنون يعرفون ربهم، فإذا جاء في صورته سجد المسلمون الذين كانوا يسجدون لله في الدنيا؛ لأنهم عرفوا ربهم، وأما المنافقون الذين كانوا يسجدون رياءً يجعل الله ظهر الواحد منهم طبقاً واحداً فلا يستطيع السجود، وهذا الامتحان لكشف المنافقين من المؤمنين، ثم إن الله تعالى يدعوهم فيتبعونه، فيأخذهم الله عزَّ وجل إلى شفير جهنم، ويستشفع النبي صلى الله عليه وسلم، فيأُذن بضرب الجسر على متن جهنم، وهو الصراط.

فالصراط: هو الجسر الممدود على متن جهنم، وهو الطريق الذي سيعبر عليه الناس، والصراط حتم واجب الإيمان به، قامت الأدلة عليه من الكتاب والسنة، قال الطحاوي رحمه الله في عقيدة أهل السنة والجماعة: ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط والميزان، فالميزان من عقيدة أهل السنة والجماعة لا بد من الإيمان به.

إذا صار الناس عند الجسر، تقول عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: (أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: هم في الظلمة دون الجسر)، قال مجاهد : قال ابن عباس : (أتدري ما سعة جهنم؟ قلت: لا. قال: أجل والله ما تدري؛ إن بين شحمة أذن أحدهم وبين عاتقه - أي: الواحد من أهل النار- مسيرة سبعين خريفاً -أي: سبعين سنة- تجري فيها أودية القيح والدم. قلت: أنهاراً؟! قال: لا. بل أودية. ثم قال: أتدري ما سعة جهنم؟ قلت: لا. قال: أجل والله ما تدري، حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، فأين الناس يومئذٍ يا رسول الله -إذا طوى الله الأرضين والسماوات، أين يكون الناس واقفين؟- قال صلى الله عليه وسلم: هم على جسر جهنم) أخرجه الإمام أحمد، وإسناده صحيح.

فالصراط: هو جسر جهنم الذي سيعبر عليه الناس، وتكليفهم بعبوره هو اضطرارهم إليه حيث لا خيار لهم فيه، بل لا بد لهم من عبوره، فالأوامر يوم القيامة ملزمة للجميع لا يستطيع أحدٌ أن يتخلف عن تنفيذ أمر الله أبداً، فإذا شق عن قبورهم دعاهم الداعي إلى أرض المحشر مرغمين، يجب عليهم أن يجتمعوا إلى ذلك الموقف، وإذا ناداهم الله إلى الجسر اتبعوا ذلك مرغمين لا خيار لهم، وإذا أمروا بعبور الصراط فهم مرغمون على ذلك لا خيار لهم.. الأوامر يوم القيامة لا مجال للنكوص عنها أو التلكؤ عن تنفيذها.

وصف النبي صلى الله عليه وسلم الصراط بعدة أوصاف:

أولاً: أنه زلقٌ؛ فقد جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قلنا: (ما الجسر يا رسول الله؟ قال: مدحضة مزلة) ومعنى مدحضة: أي: تزلق فيه الأقدام.

ومزلة أي: تسقط فيه الأجساد والأرجل.

إذاً: أول صفة للصراط أنه مضروب على متن جهنم من الطرف إلى الطرف.

أتدرون -يا عباد الله- ما سعة جهنم؟ يؤتى بها ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، وعمقها إذا رمي الحجر من شفيرها لا يصل إلى القعر إلا بعد سبعين عاماً.. وإذا كان الواحد من أهل النار ضرسه كالجبل، وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعين سنة من الدم والقيح، فكيف سيكون سعة جهنم؟

يانياً: أ،ه دحض مزلة.

ثالثاً: أن له جنبتين وحافتين كما جاء في حديث أبي بكرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل الناس على الصراط يوم القيامة، فتتقادع بهم جنبتا الصراط تقادع الفراش في النار)، وهذا حديث حسن، أخرجه ابن أبي عاصم رحمه الله تعالى وغيره.

ومعنى: تتقادع بهم جنبتا الصراط: أي: يسقط بعضهم فوق بعض.

وإذا جاء في بعض صفات هذا الصراط أنه أدق من الشعر فهل يكون لبعض الناس دون بعض؟ أو يكون في مرحلة دون مرحلة؟ أو هو من علم الله بالغيب الذي لا يمكن أن ندركه؟

كيف يكون له جنبتان وهو أدق من الشعرة؟

نقول: إن الله على كل شيءٍ قدير، فتتقادع جنبتا الصراط بالناس تقادع الفراش في النار، تسقطهم فيها بعضهم فوق بعض؛ تتلاعب بالناس تلاعباً.

رابعاً: أن له كلاليب على حافتيه؛ فقد روى مسلم -رحمه الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به)، وفي حديث أبي سعيد : (قلنا: يا رسول الله! ما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة، عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء، تكون بـنجد يقال لها: السعدان) رواه مسلم.

وفي البخاري عن أبي هريرة : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة الصراط: (وبه كلاليب مثل شوك السعدان.. أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير ألا يعلم قدر عظمها إلا الله).

قال الشراح: الكلاليب: جمع كلوب، وهو حديدة معطوفة الرأس يعلق عليها اللحم.

والخطاف: الحديدة المعوجة كالكلوب يختطف بها الشيء.

والحسكة: شوكةٌ صلبةٌ معروفة؛ وقيل: نبات له ثمر خشن يتعلق بأصواف الغنم.

والمفلطحة: العريضة.

والعقيفاء: المعوجة.

وشوك السعدان: نبات ذو شوك يَرعى البدو إبلهم عنده، وهو مشهور بـنجد ، يقال: مرعى ولا كالسعدان.

أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرب لهم كيف تعلق هذه الكلاليب بأجساد الناس، وكيف تتخطف هذه الخطاطيف الناس، وتعلق بأجسادهم مثل شوك السعدان الذي يعلق، وإذا نشب لا يخرج.

خامساً: أن حده مثل حد الموسى أو حد السيف؛ كما جاء في حديث سلمان رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويوضع الصراط مثل حد الموسى، فتقول الملائكة: من يجيز على هذا؟ فيقول الرب عزَّ وجلَّ: من شئت من خلقي. فيقولون: ما عبدناك حق عبادتك) أخرجه الحاكم وإسناده صحيح.

وفي حديث ابن مسعود الطويل: ) والصراط كحد السيف دحض مزلة ).

إذاً: هو حاد جداً مثل حد السيف أو الموس، وبه خطاطيف وكلاليب تنهش الناس يميناً وشمالاً، ومن أسفل حدٌ كحد السيف يقطع من يمر عليه، وهو يروغ بالناس تتقاذفهم جنبتاه، فيتساقطون في جهنم إلا من شاء الله.

المرور على الصراط إجباري لجميع الخلق، فلا بد أن يمر عليه الذين نجوا من غير الكفار، فإن الكفار لا يمرون على الصراط؛ لأنه قد أُخِذَ بهم إلى جهنم من قبل، أما الذين يمرون على الصراط فهم المسلمون.. منهم الطائع ومنهم العاصي.. منهم البر ومنهم الفاجر.. منهم المؤمن ومنهم الفاسق.

أما المرتدون والكفرة فقد أُخذ بهم إلى جهنم من قبل، فلا مرور لهم على الصراط.

مرور المنافقين

يتفاوت الناس في المرور على الصراط تفاوتاً عظيماً، وذلك لأن المرور عليه يكون بقدر الأعمال الصالحة؛ فيعطي الله كل إنسان نوراً على قدر عمله يتبعه على الصراط؛ لأن من صفة الصراط أنه مظلم إظلاما تاماً.. فتأمل الآن يروغ بهم.. وتتقاذفهم جنبتاه، وعليه كلاليب وخطاطيف وحسك، وهو كحد السيف؛ فتكون الأنوار على قدر الأعمال.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نوره، ثم يتبعونه) قبل المرور على الجسر يعطى كل واحد نوراً حتى المنافقون الذين دخلوا مع المؤمنين في الدنيا، ثم يبدأ المرور على الجسر، فيطفئ الله أنوار المنافقين، فتكون الخدعة الكبيرة، قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]، فإذا اطفئت أنوار المنافقين سقطوا في جهنم.

النور في الصراط على قدر الأعمال

بقي المسلمون.. البر والفاجر.. الطائع والعاصي، فيعطون أنواراً على قدر أعمالهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله) رواه مسلم .

وفي حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فيعطون نورهم على قدر أعمالهم؛ فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه يضيئ كل ما أمامه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره على إبهام قدمه؛ يضيء مرة ويطفئ مرة، إذا أضاء قدَّم قدمه وإذا أطفئ قام) لا يستطيع أن يمشي لأنه نور في تلك الظلمة، فإذا أضاء له مشى، وإذا أظلم قام واقفاً؛ لأنه إذا غامر بالمشي ربما يسقط؛ فيقوم على حد السيف والكلاليب من حوله، يطفأ نوره مرة ويوقد مرة بحسب العمل، أما أولياء الله فنورهم فوق الجبل، وفي ذلك الموقف الرهيب ينطفئ نور المنافقين فيسقطون -كما تقدم- وينجو المؤمنون.

سرعة المرور على الصراط

الناس لهم سرعات تختلف بحسب أعمالهم في المرور على الصراط؛ لأن جهنم في الأسفل، واللهب يشتد، والنار لها زفير وشهيق، والمنظر من الأسفل في غاية الرعب؛ فإن جهنم من الأسفل توقد نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الهمزة:6]، وتختلف سرعة الناس في المرور على الصراط باختلاف قوة النور الذي يُعطى لهم؛ فالنور تابع للسرعة.

جاء في حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويمرون على الصراط؛ والصراط كحد السيف دحض مزلة، فيقال لهم: امضوا على قدر نوركم؛ فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب) هناك أناس يمرون على الصراط من الجهة إلى الجهة الأخرى كانقضاض الكوكب.. هل رأيت النجم عندما يرمى به في السماء بغاية السرعة مع المسافة الشاسعة؟ كذلك هم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومنهم من يمر كالريح -كالإعصار في السرعة- ومنهم من يمر كالطرف -كطْرف العين- ومنهم من يمر كشد الرِّجِل أو الرَّجِل -أي: الراجل غير الراكب الذي يجري جرياً- يرمل رملاً، فيمرون على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تخر يدٌ وتعلق يدٌ، وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون بعد العنا الشديد إلى الطرف الآخر، فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أراناكِ، لقد أعطانا الله ما لم يعطِ أحداً).

وجاء في صحيح مسلم في صفة سرعة هؤلاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيمر أولكم كالبرق)، ولذلك لا يتأثر هؤلاء بجهنم مطلقاً؛ لا بخطاطيف، ولا بكلاليب، ولا بحسك، ولا بحد السيف، ولا بلهب النار، وهؤلاء هم أولياء الله، وكبار الصالحين، والعلماء العاملون.. (قلت: بأبي أنت وأمي! أي شيء كمر البرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح، ثم كمر الطير وشد الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلِّم سلِّم، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً) زحف على حد الموسى، أو حد السيف، مع الخطاطيف من أول جهنم إلى آخرها، هكذا جزاء الله تعالى.. هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60]، ويقول الله في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، يكفي هذا الموقف.. موقف الصراط حتى نغير كل الطريقة التي نسير عليها، ومن كان يراوغ في الدنيا فليعتدل، ومن كان يعصي الله فليتب، والله لو عقلنا الصراط فقط من دون عذاب جهنم لاعتدل سلوكنا وتغير.

ثم يمر آخر واحد ويزحف زحفاً، جاء في حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يرد الناس كلهم النار، ثم يصدرون منها بأعمالهم، فأولهم كلمع البرق، ثم كمر الريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب، ثم كشد الرجال، ثم كمشيهم) وهذا على حسب الأعمال، فكلما كانت حسناتك أكثر كلما كان مرورك أسرع، وكلما كانت حسناتك أقل كلما كان مرورك أبطأ.

وهكذا تكون السرعة على متن جهنم حسب أعمال العباد، حتى يكون آخر الناس مروراً على الصراط بعد الزاحف رجل آخر هو المسحوب؛ كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حتى يمر آخرهم يُسحب سحباً) رواه البخاري ، يسحب على حد السيف سحباً حتى يجاز به إلى الطرف الآخر على متن جهنم.

وجاء في وصف آخر رجل في حديث ابن مسعود، قال: (ثم يكون آخرهم رجلاً يتلبط على بطنه، يقول: يا رب! لم أبطأت بي؟ فيقول: إنما أبطأ بك عملك) وهو صحيح عن ابن مسعود ، وهذا لا يقال: إنه من جهة الرأي، فله حكم الرفع.

وهذا الأخير مع ما لقي من العذاب الأليم إذا جاز الصراط عدَّها نعمة ما بعدها نعمة، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن آخر من يدخل الجنة رجلٌ يمشي على الصراط، فينكب مرةً ويمشي مرةً، تسفعه النار مرةً، فإذا جاوز الصراط التفت إليها -إلى جهنم- فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله -انتبهوا لعبارة الرجل؛ عبارة آخر واحد يجوز جهنم مع ما لاقاه من العذاب الأليم ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين)، إلى هذه الدرجة يستشعر الرجل النعمة، ويظن أنه ما أحد أعطي نعمة مثله من الأولين والآخرين من الأهوال التي رآها، فكيف بالذين يسقطون في النار؟!

يتفاوت الناس في المرور على الصراط تفاوتاً عظيماً، وذلك لأن المرور عليه يكون بقدر الأعمال الصالحة؛ فيعطي الله كل إنسان نوراً على قدر عمله يتبعه على الصراط؛ لأن من صفة الصراط أنه مظلم إظلاما تاماً.. فتأمل الآن يروغ بهم.. وتتقاذفهم جنبتاه، وعليه كلاليب وخطاطيف وحسك، وهو كحد السيف؛ فتكون الأنوار على قدر الأعمال.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نوره، ثم يتبعونه) قبل المرور على الجسر يعطى كل واحد نوراً حتى المنافقون الذين دخلوا مع المؤمنين في الدنيا، ثم يبدأ المرور على الجسر، فيطفئ الله أنوار المنافقين، فتكون الخدعة الكبيرة، قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]، فإذا اطفئت أنوار المنافقين سقطوا في جهنم.

بقي المسلمون.. البر والفاجر.. الطائع والعاصي، فيعطون أنواراً على قدر أعمالهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله) رواه مسلم .

وفي حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فيعطون نورهم على قدر أعمالهم؛ فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه يضيئ كل ما أمامه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره على إبهام قدمه؛ يضيء مرة ويطفئ مرة، إذا أضاء قدَّم قدمه وإذا أطفئ قام) لا يستطيع أن يمشي لأنه نور في تلك الظلمة، فإذا أضاء له مشى، وإذا أظلم قام واقفاً؛ لأنه إذا غامر بالمشي ربما يسقط؛ فيقوم على حد السيف والكلاليب من حوله، يطفأ نوره مرة ويوقد مرة بحسب العمل، أما أولياء الله فنورهم فوق الجبل، وفي ذلك الموقف الرهيب ينطفئ نور المنافقين فيسقطون -كما تقدم- وينجو المؤمنون.

الناس لهم سرعات تختلف بحسب أعمالهم في المرور على الصراط؛ لأن جهنم في الأسفل، واللهب يشتد، والنار لها زفير وشهيق، والمنظر من الأسفل في غاية الرعب؛ فإن جهنم من الأسفل توقد نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الهمزة:6]، وتختلف سرعة الناس في المرور على الصراط باختلاف قوة النور الذي يُعطى لهم؛ فالنور تابع للسرعة.

جاء في حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويمرون على الصراط؛ والصراط كحد السيف دحض مزلة، فيقال لهم: امضوا على قدر نوركم؛ فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب) هناك أناس يمرون على الصراط من الجهة إلى الجهة الأخرى كانقضاض الكوكب.. هل رأيت النجم عندما يرمى به في السماء بغاية السرعة مع المسافة الشاسعة؟ كذلك هم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومنهم من يمر كالريح -كالإعصار في السرعة- ومنهم من يمر كالطرف -كطْرف العين- ومنهم من يمر كشد الرِّجِل أو الرَّجِل -أي: الراجل غير الراكب الذي يجري جرياً- يرمل رملاً، فيمرون على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تخر يدٌ وتعلق يدٌ، وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون بعد العنا الشديد إلى الطرف الآخر، فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أراناكِ، لقد أعطانا الله ما لم يعطِ أحداً).

وجاء في صحيح مسلم في صفة سرعة هؤلاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيمر أولكم كالبرق)، ولذلك لا يتأثر هؤلاء بجهنم مطلقاً؛ لا بخطاطيف، ولا بكلاليب، ولا بحسك، ولا بحد السيف، ولا بلهب النار، وهؤلاء هم أولياء الله، وكبار الصالحين، والعلماء العاملون.. (قلت: بأبي أنت وأمي! أي شيء كمر البرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح، ثم كمر الطير وشد الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلِّم سلِّم، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً) زحف على حد الموسى، أو حد السيف، مع الخطاطيف من أول جهنم إلى آخرها، هكذا جزاء الله تعالى.. هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60]، ويقول الله في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، يكفي هذا الموقف.. موقف الصراط حتى نغير كل الطريقة التي نسير عليها، ومن كان يراوغ في الدنيا فليعتدل، ومن كان يعصي الله فليتب، والله لو عقلنا الصراط فقط من دون عذاب جهنم لاعتدل سلوكنا وتغير.

ثم يمر آخر واحد ويزحف زحفاً، جاء في حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يرد الناس كلهم النار، ثم يصدرون منها بأعمالهم، فأولهم كلمع البرق، ثم كمر الريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب، ثم كشد الرجال، ثم كمشيهم) وهذا على حسب الأعمال، فكلما كانت حسناتك أكثر كلما كان مرورك أسرع، وكلما كانت حسناتك أقل كلما كان مرورك أبطأ.

وهكذا تكون السرعة على متن جهنم حسب أعمال العباد، حتى يكون آخر الناس مروراً على الصراط بعد الزاحف رجل آخر هو المسحوب؛ كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حتى يمر آخرهم يُسحب سحباً) رواه البخاري ، يسحب على حد السيف سحباً حتى يجاز به إلى الطرف الآخر على متن جهنم.

وجاء في وصف آخر رجل في حديث ابن مسعود، قال: (ثم يكون آخرهم رجلاً يتلبط على بطنه، يقول: يا رب! لم أبطأت بي؟ فيقول: إنما أبطأ بك عملك) وهو صحيح عن ابن مسعود ، وهذا لا يقال: إنه من جهة الرأي، فله حكم الرفع.

وهذا الأخير مع ما لقي من العذاب الأليم إذا جاز الصراط عدَّها نعمة ما بعدها نعمة، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن آخر من يدخل الجنة رجلٌ يمشي على الصراط، فينكب مرةً ويمشي مرةً، تسفعه النار مرةً، فإذا جاوز الصراط التفت إليها -إلى جهنم- فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله -انتبهوا لعبارة الرجل؛ عبارة آخر واحد يجوز جهنم مع ما لاقاه من العذاب الأليم ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين)، إلى هذه الدرجة يستشعر الرجل النعمة، ويظن أنه ما أحد أعطي نعمة مثله من الأولين والآخرين من الأهوال التي رآها، فكيف بالذين يسقطون في النار؟!

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة الصراط -أيضاً- وما يحدث عنده، فلما ذكر ذهاب الناس إلى آدم وإبراهيم وموسى ثم عيسى ثم محمد صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً) الأمانة عن يمين الصراط والرحم عن شماله؛ يبعث الله الأمانة -والله يخلق ما يشاء- عن يمين الصراط، والرحم عن شماله.

قال العلماء: لعظم شأنهما عند الله، وضخامة أمرهما، وعظم حقهما، يوقفان هناك عن يمين الصراط وعن شماله؛ لأجل أن تكونا شاهدتين للأمين وعلى الخائن، وللواصل وعلى القاطع.. يحاجان عن المحق فينجو، ويشهدان على المبطل فيهلك؛ فكل من خان في أمانة فليحذر، وكل من هو قاطع للرحم فلينتبه.




استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
اقتضاء العلم العمل 3611 استماع
التوسم والفراسة 3608 استماع
مجزرة بيت حانون 3530 استماع
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] 3497 استماع
اليهودية والإرهابي 3425 استماع
إن أكرمكم عند الله أتقاكم 3425 استماع
حتى يستجاب لك 3393 استماع
المحفزات إلى عمل الخيرات 3370 استماع
ازدد فقهاً بفروض الشريعة 3348 استماع
الزينة والجمال 3335 استماع