الاستشارة في حياة المسلم [1،2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة! أحييكم في هذه الليلة وفي هذا المجتمع الطيب، وأقول لكم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحمد الله عز وجل أن جمعني وإياكم في هذا المكان، وأحمده على هذه النعمة، وهي نعمة التقاء الأخ بإخوانه في الله للتذاكر والتناصح، ونسأل الله عز وجل أن يجعل مجلسنا هذا مجلس خير، وأن يجعلنا من المقبولين عنده إنه سميعٌ مجيب.

حديثي إليكم في هذه الليلة عن موضوع بعنوان: (الاستشارة في حياة المسلم) وأهمية هذا الموضوع في عدة نقاط، منها:

أن هذا أدبٌ إسلاميٌ عظيم حصل فيه نوع من التفريط بين المسلمين، وهذا الأدب يعكس جوانب من عظمة هذا الدين في ترابط أفراد المجتمع الإسلامي الواحد، وهو كذلك مهمٌ في ضبط الأمور ومنع الفوضى التي قد تحصل نتيجةً لبعض الآراء التي لا تكون ضمن الطريق الصحيح، وكذلك تمنع حدوث كثيرٍ من الكوارث الفكرية وغيرها؛ نتيجة بعض الآراء الشاذة التي لا يخلو منها بعض أذهان الناس، وسيكون حديثي مركزاً حول نقاط، وهي:

ما هي الاستشارة؟ أي: تعريف الاستشارة.

لماذا نستشير؟ أي: أهمية الاستشارة.

أين نستشير؟ أي: ما هي مجالات الاستشارة؟

من نستشير؟ أي: ما هي صفات المستشار؟

من الذي يستشير؟

كيف نستشير؟

متى نستشير؟

ما هي موانع الاستشارة؟

الاستشارة مأخوذةٌ من قول العرب: شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجريٍ أو غيره، وشرت الدابة إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها، وشرت العسل إذا أخذته من مواضع النحل.

وهذا يبين لك الارتباط بين المعنى اللغوي والمعنى الذي نقصده نحن اليوم، فكونك تشور الدابة، أي: تختبرها، وكونك تشور العسل، أي: تبتغي الصفاء والنقاء في العسل بأخذه من مواطنه الأصلية، ومعنى قولهم: شاورت فلاناً، أي: أظهرت ما عندي وما عنده.

وزيادة الألف والسين والتاء في بداية الكلمة: (الاستشارة) هي للطلب، أي: طلب المشورة من الآخرين، وأما الأدلة على هذا، فمنها قول الله عز وجل: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159].

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله تعالى أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159] وقد قيل: إن الله أمر بها نبيه لتأليف قلوب أصحابه، وليقتدي به من بعده، وليستخرج بها منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحيٌ من أمر الحروف والأمور الجزئية".

وقال النووي رحمه الله: "إذا أمر الله بها النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه أكمل الخلق، فما الظن بغيره؟".

وقد مدح الله سبحانه وتعالى من عمل بها في جميع أموره، قال تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] وهذا من الثناء على المؤمنين، وكانت سادات العرب قديماً إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم في الأمر؛ فإن ذلك أعطف لهم عليه، وأذهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم، فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم.

وأما الآيات التي أثنى الله فيها على صفات المؤمنين ومن ضمنها صفة المشورة، قال الله عز وجل: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الشورى:36-38].

وقال ابن القيم رحمه الله في الزاد مبيناً هديه صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب: "واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد أصحابه أيخرج إليهم -أي: إلى الكفار- أم يمكث في المدينة".

وفي معرض سياقه لغزوة الخندق قال: "فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو والمدينة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به؛ فبادر إليه المسلمون وعمل بنفسه فيه".

وكذلك في غزوة الحديبية كان من ضمن الدروس التي استنبطها ابن القيم رحمه الله في هذه الغزوة" استشارة الإمام لأصحابه".

وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدوا إلى تطبيق هذه السنة، والالتزام بهذا الأدب الإسلامي العظيم، فتجد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قد شاور الصحابة في أمور المرتدين، وتسيير البعوث والجيوش وغيرها، وكذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له مجلس مشورة خاص، وكان في هذا المجلس الشباب والشيوخ كما سنبين ذلك.

ومن الأمثلة على استشارة عمر رضي الله عنه: ما ورد في صحيح مسلم لما خرج رضي الله عنه إلى الشام ، ثم لقيه أهل الأجناد -أبو عبيدة وأصحابه- فأخبروه أن الطاعون قد وقع في الشام ، قال ابن عباس: [فقال عمر : ادع لي المهاجرين الأولين، فدعوتهم، فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بـالشام...] إلى آخر الحديث الذي فيه قصة عبد الرحمن بن عوف المعروفة. رواه الإمام مسلم في صحيحه.

وإذا أردت أن تستدل أو تعرف مدى أهمية أمرٍ من الأمور عند السلف أو عند علماء المسلمين؛ فإنك تستدل على هذا بـ(هل عقد المصنفون كأهل الحديث في كتبهم أبواباً خاصة لهذا الأمر أم لا؟).

فإذا كانوا قد أفردوا هذا الأمر، فهذا دالٌ على أهميته؛ لأنه لو لم يكن مهماً جداً لما أفردوه، ولما جعلوه ضمن شيء من الأبواب، أو يجعلوه شيئاً جزئياً في داخل المصنف، ولكن عندما ترى أن الإمام البخاري خصص أبواباً في كتابه للمشورة، ويقول في أحدها: (وكان الأئمة يستشيرون الأمناء) وترى أبا داود رحمه الله يقول في سننه: (باب في المشورة) وترى الترمذي رحمه الله يقول أيضاً في سننه: (باب ما جاء في المشورة) وغير هؤلاء تراهم قد عقدوا أبواباً خاصة، فإنك لابد أن تستدل بذلك على أن لهذا الأمر أهميته؛ ولذلك أفردوا له هذه الأبواب والكتب في مصنفاتهم.

السؤال الآن: لماذا نستشير؟ وما هي أهمية وفوائد الاستشارة؟

الفائدة الأولى: اتباع الأثر: فنحن المسلمين نتبع ونقتفي آثار من مضى، (عليكم بالأمر العتيق).

ونحن أيضاً ننفذ ما أمرنا الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال الله لرسوله: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة لنا، فيعني ذلك: أن نقتدي به صلى الله عليه وسلم في المشورة.

وإذا كان الله أثنى على المؤمنين بقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] ونحن من ضمن المؤمنين، فإذاً لابد أن نطبق هذه المسألة، أضف إلى ذلك أن هذا التطبيق فيه أجر التنفيذ لهذا الأمر الوارد، وإذا تشبهنا بالمؤمنين وبخصالهم فسنكون منهم إن شاء الله.

الفائدة الثانية: بالإضافة إلى التطبيق والأجر الحاصل: استنباط الصواب، فإن من أعز الأشياء أن تهتدي إلى الأمر الصحيح والحق والصواب.

فأنت ماذا تريد وعم تبحث؟ ألست تبحث عن الصواب في الأمر الذي تحتار فيه، وتريد أن تقدم عليه؟

عن الحسن قال: [والله ما استشار قوم قط إلا هدوا لأفضل ما بحضرتهم، ثم تلا: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]].

وينبغي أن تكثر أيها الأخ المسلم من استشارة ذوي الألباب، لاسيما في الأمر الجليل، فقلما يضل عن الجماعة رأي أو يذهب عنهم صواب، لأن إرسال الخواطر الثاقبة، وإجالة الأفكار الصادقة هذا هو الذي يجعلك تصل إلى الصواب، ومن أكثر المشورة لم يعدم الصواب، والخطأ إلى الجماعة أبعد من الخطأ إلى الفرد، لأن احتمال أن يخطئ الفرد أكثر من أن تخطئ جماعة من الناس.

الفائدة الثالثة: اكتساب الرأي: إن الإنسان إذا شاور وحاور وتناقش وطلب الأمر وقلَّبه على وجوهه، فإن هذه المناقشة مع الآخرين تكسبه رأياً وتُوسع مداركه، وتجعله يعرف من أين تؤتى الأمور، وما هي طريقة تفكير فلان وفلان، ويعرف أن فكره قد انصرف إلى جانب معين، وأن هناك جوانباً أخرى؛ فتتوسع مداركه، ويكتسب طرق في التفكير لم يكن ليهتدي إليها لولا الاستشارة.

وقال بعض الحكماء: "نصف رأيك مع أخيك، فشاوره يكمل لك الرأي".

خليلي ليس الرأي في صدر واحدٍ     أشيرا عليّ بالذي تريان

ومن حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فرأي الفرد الواحد ربما زلّ، والعقل الفرد ربما ضلّ، ولكن عندما تجتمع العقول تصل إلى المأمول، وروي عن بعض السلف : "الرأي الفرد كالخيط السحيب -الخيط الرقيق الذي سرعان ما ينقطع- والرأيان كالخيطين المبرمين -أقوى قليلاً- والثلاثة مرار -وهو الحبل المفتول لا يكاد ينتقض- والمستشير الحازم يزداد برأي الوزراء الحزمة كما يزداد البحر بمواده من الأنهار".

الفائدة الرابعة: أنك تتحصن من الوقوع في الخطأ والزلل باستشارتك، قال حكيم لابنه: "شاور من جرب الأمور، فإنه يعطيك من أمره ما قام عليه بالغلاء وأنت تأخذه مجاناً".

الله أكبر! هذه هي الحكمة، الآن الشاب في مقتبل عمره تجاربه محدودة وقليلة، وحتى يكتسب تجارب فإنه يحتاج إلى وقت وجهد، وربما يقع في أخطاء كثيرة حتى يصل في النهاية إلى الرأي الحكيم وإلى الصواب في أمرٍ من الأمور، فعندما يذهب إلى شيخ مجرب وإنسان قد عركته الحياة، فإنه يأخذ منه الخلاصة التي توصل إليها هذا الشيخ؛ فهذا الشيخ يكون قد توصل إلى الحكمة والتجربة والخلاصة والصواب، ودفع كثيراً من الجهد والوقت حتى وصل إليه بالغلاء، وأنت تأتي وتأخذه بالمجان، فانظر إلى عظم هذه الاستشارة وعلو موقعها.

الفائدة الخامسة: أنها حرزٌ من الملامة، فلو أن شخصاً فعل أمراً من الأمور، ثم تبين له أن هذا الأمر خطأ، وظهرت النتائج عكسية وسيئة وفشِل، ماذا سيقول له الناس؟ لماذا لم تشاور؟ أنت مخطئ، أنت وأنت... وتوجه إليه سهام الانتقاد من كل جانب ويلام، لكن عندما يكون هذا الشخص قد استشار مجموعة من الناس الحكماء والخبراء، ثم يخطئ وتكون النتيجة عكسية، هل سيلومه الناس؟ لن يلوموه لأنه استشار، ولو لاموه لقال لهم: أنا سألت فلاناً وفلاناً وهم الذين أشاروا عليّ بهذا الأمر؛ حينها كلهم يسكتون، لكن لو لم يشاور لظل عرضه للنقد من كل جانب.

الفائدة السادسة: أنها نجاة من الندامة، أن الشخص الآن فعل أمراً دون أن يستشير ثم فشل في هذا الأمر، فسيشعر بالندم ولو من توبيخ نفسه له وهي تقول له: لو أنك سألت ما حصل هذا! ولو أنك استشرت ما وصلت إلى هذه النتيجة المخيبة للأمل، فيشعر بالندم.

لكن عندما يستشير حتى لو أخطأ، فيقول لنفسه: هذا أمر خارج عن إرادتي، أنا استشرت وأخذت بالأسباب ثم أخطأت، والحمد لله هذا ليس رأيي فقط، فهو ينجو حتى من لوم نفسه، وعندما يستشير الإنسان ويخطئ؛ فإنه يعلم أن هذا الأمر قضاء وقدر، لكن لم يخطئ في الخطوات التي وصلت إلى هذه النتيجة، فيعلم أنه لم يكن بوسعه أن يفعل شيئاً، استشار فحصل خطأ، فلا يلوم نفسه.

الفائدة السابعة: ألفة القلوب: فأنت الآن عندما تستشير اثنين وثلاثة، وعندما تذهب إليهم، وتقول: يا أخي! أشر علي في هذه القضية، يا أيها الوالد! أشر عليّ في هذه القضية، يا أيها الأستاذ! أشر عليّ، يا أيها الصديق...، فكيف تكون نظرة الناس إليك؟ وما هو الانطباع الذي يكون في نفوسهم تجاهك وأنت تستشيرهم؟ وبماذا سيشعرون؟

سيشرعون لك بتقدير ومحبة، ويقولون: فلان ما استشارنا إلا لأنه يعتقد أننا أصحاب رأي، وأننا أمناء.. فلان ليس بمنعزل عنا.. فلان متداخل معنا.. فلان يثق فينا وإلا لما استشارنا، فهذه تقرب ما بين القلوب، وتربط ما بين الناس، وفيها تقدير للأطراف المستشارة، وأنك تقدره وتضعه في موضع أنك تستشيره، ولذلك يقول عبد الملك بن مروان : لأن أخطئ وقد استشرت، أحب إلي أن أصيب وقد استبددت برأيي.

الفائدة الثامنة: أن القائد والمربي والداعية إلى الله والذي يقود الناس يكون تواقاً لمعرفة الحق وما فيه من المصلحة، ويلح بنفسه على جنوده لإظهار ما عندهم من الحجج والأدلة والآراء، ويسمعها ويقلِّب وجهات نظرهم طمعاً إلى الوصول لما فيه الصالح العام، وعندما يحدث الفشل فإنه يكون موزعاً على جميع الجند والناس الذين استشيروا، فلا يشعر الإنسان أنه يتحمل الخطأ لوحده.

وكذلك فإنه يصل إلى مدى نضجهم، ويعرف مستوى تفكيرهم وعمق آرائهم، ويميز بالاستشارة كيف يشير فلان، وكيف يفكر فلان، فيعرف النوابغ من الناس الذين يعيش بينهم، ويكتشف الطاقات والمواهب التي فيهم.

وهذا الأمر من الأمور المهمة لمن كان يريد أن يسوس الناس بالهدي الصحيح، لأن هناك أناساً يسوسون الناس -بغض النظر عما يكون في أفكارهم من الآراء- ولا يعرفون من هو الناضج من غيره، ومن هو الذكي ممن هو واسع الأفق، ومن هو الشخص صاحب الرأي الصحيح والمشورة الطيبة ممن هو ليس كذلك، فهو بسبب أنه لا يعرف من يستشير، أو قلما يستشير يقع في الخطأ، وأنت لا تكتشف أن فلاناً هذا إنسان يؤخذ برأيه إلا عندما تستشير فيشير عليك برأي، فتعرف رجاحة عقله من خلال رأيه.

قد يقول إنسان: الاستشارة في كل أمر، وهذا صحيح، والرسول صلى الله عليه وسلم لما صعد إلى السماء -كما في حديث المعراج في صحيح البخاري - وفرض الله على رسوله صلى الله عليه وسلم خمسون صلاة في كل يوم وليلة، قال له موسى: (إن أمتك لا تستطيع ذلك، ارجع فليخفف ربك عنهم، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره -هذه رواية البخاري - فأشار إليه جبريل: أن نعم إن شئت، فعلا به إلى الجبار، فقال وهو مكانه: يا رب خفف عنا...) إلى آخر الحديث.

فأنت ترى هنا أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد استشار جبريل في أمرٍ عظيم، وهو قضية الصلوات التي تفرض على الأمة إلى آخر الزمان.

الاستشارة في أمور يعود تأثيرها على المجتمع كله

كذلك ترى استشارته في مجال المعارك، وهي من المجالات الهامة جداً، والتي يترتب عليها مصائر ومنعطفات تغييريه أحياناً في حياة المجتمع كله.

فمثلاً: في مسند أحمد وصحيح مسلم عن أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان في معركة بدر ، قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقال سعد بن عبادة : إيانا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رد أبو بكر وعمر وهما بهذه المنزلة إلا أنه يعنينا نحن الأنصار، فقام وقال: والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخوض هذه البحار لخضناها معك"، هذا لفظ مسلم .

فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يستوثق أن الأنصار سوف يحاربون معه خارج المدينة ، وأنهم على استعداد للخروج، وأن وعيهم قد بلغ بهم أن يخرجوا ويقاتلوا الكفار خارج المدينة .

وكلما عظُم الأمر وكان أهم كلما كانت الاستشارة فيه أبلغ وأعظم وأهم، ومثال ذلك: ما وقع في حادثة مقتل عمر رضي الله عنه وتولية عثمان بن عفان الخلافة، فعهد عمر إلى سته من الصحابة، ثم عهد ثلاثة من الستة إلى الثلاثة الآخرين وتنازلوا لهم عن الأمر، فصار الأمر في النهاية إلى عبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين.

فقال عبد الرحمن بن عوف: إذا رضيتما بمن أختاره فأنا أتنازل لواحدٍ منكما، فقالوا: رضينا.

فالآن عبد الرحمن بن عوف صار في موقف عظيم وجليل جداً، والقضية من أهم القضايا، وفيها اختيار خليفة للمسلمين.

وعبد الرحمن بن عوف لن يتخذ قراراً فردياً، ويقول: فلان أفضل، لا. بل ذهب يشاور المهاجرين والأنصار، ويدخلون عليه ويطلبهم ويستشيرهم في المسجد، وكلما لقي أحداً من أهل الرأي استشاره، حتى يقول عبد الرحمن بن عوف: [مرت علي ثلاث ليال ما اكتحلت فيها بنوم إلا شيئاً يسيراً جداً].

ولذلك قال المسور : [فما رأيت مثل عبد الرحمن ، والله ما ترك أحداً من المهاجرين والأنصار ولا غيرهم من ذوي الرأي إلا استشارهم تلك الليلة].

الاستشارة في القضايا العلمية وقضايا الأحكام

قد تمر بالإنسان أشياء لا يدري ما الحكم فيها ولابد أن يستشير، فعن المغيرة بن شعبة : أن عمر رضي الله عنهما استشاره في إملاص المرأة، فقال المغيرة: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة) أي: عبد أو أمة، وهذا في صحيح البخاري، فـعمر استشار الصحابة في المرأة إذا ضربت على بطنها فسقط الجنين ومات، فما هي الدية؟ فجاء له المغيرة بالحكم الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عمر : أيكم سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئاً، فانظر إلى الراوي وهو يقول: إن عمر استشارهم في إملاص المرأة.

الناس يحتاجون إلى استشارة أهل العلم، ويحتاجون إلى معرفة الأحكام في الأمور والمسائل، والرسول صلى الله عليه وسلم لما أُمر بتخيير نسائه بين أن يبقين معه على ما عنده، أو يمتعهن ويسرحهن سراحاً جميلاً، عن عائشة قالت: (أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني سأعرض عليك أمراً فلا عليك ألا تعجلي فيه حتى تشاوري أبويك، فقلت: وما هذا الأمر؟ قالت: فتلا علي: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:28-29]، فقالت عائشة: وفي أي شيء تأمرني أن أشاور أبواي؟! بل أريد الله ورسوله والدار الآخرة) هذه رواية البخاري.

الاستشارة في قضايا الزواج

ومن الشواهد على هذه المسألة ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده -وهو حديث صحيح- عن أبي برزة الأسلمي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار: (زوجني ابنتك، فقال: وكرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعم عيني، فقال: إني لست أريدها لنفسي، قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: لـجليبيب ، قال: فقال: يا رسول الله، أشاور أمها، فأتى أمها....) إلى آخر الحديث وكانت البنت عاقلة، قالت: هل تظنون أنكم ستأتونني بأفضل مما عرض عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأقنعتهم أن يزوجوها لـجليبيب رضي الله عنه الذي قتل في معركة أحد شهيداً، فأنت ترى أن الأب لم يستبد برأيه، وأنه شاور أم البنت، فهي لها دور في الموضوع ولابد أن تشاور.

ومن الأمثلة على الاستشارة في مجال الجهاد الحديث الحسن عن معاوية بن جاهمة : أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! أردت الغزو وجئت أستشيرك - هذا مسألة مهمة نحتاج إليها الآن جداً، وهذا حديث فيه فقه مهم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من أم؟ قال: نعم، فقال: الزمها، فإن الجنة عند رجليها) ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول، والرسول صلى الله عليه وسلم يشير عليه بنفس الرأي، وقد أخرج طرق هذا الحديث الشيخ ناصر في إرواء الغليل .

ومن الأمور المكملة في موضوع استشارة النساء للزواج استشارة نفس البنت التي تريد أن تتزوج، فمعرفة رأي البنت أمر مهم جداً، وبعض أولياء الأمور في هذه الأيام لا يضربون لها أي حساب، قال ابن عمر لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أبت، اخطب لي ابنة صالح ، فقال عمر : إن له يتامى ولم يكن ليؤثرنا عليهم، فانطلق عبد الله إلى عمه زيد بن الخطاب ليخطب له، فانطلق زيد إلى صالح ، فقال: إن عبد الله بن عمر أرسلني إليك يخطب ابنتك، فقال صالح : لي يتامى، ولم أكن لأترب لحمي وأرفع لحمكم، أشهدكم أني قد أنكحتها فلاناً، اتخذ القرار فجأة في نفس المجلس، وكان هذا رأي أبيها.

فأتت أمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا نبي الله! خطب عبد الله بن عمر ابنتي، فأنكحها أبوها يتيماً في حجره، ولم يؤامرها، ما استشارها ولا استأذنها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صالح ، فقال: (أنكحت ابنتك ولم تؤامرها، ثم قال عليه الصلاة والسلام: أشيروا على النساء في أنفسهم- الشاهد أشيروا- فقال: إن البكر تستحي يا رسول الله، قال: الثيب تعرب عن نفسها بلسانها، والبكر رضاها صماتها)، حديث صحيح في السلسلة الصحيحة .

وقد وقعت لـابن عمر قصة مشابهة ولكن بنتيجة مختلفة، وهي أيضاً قصة حسنة، قال ابن عمر : توفي عثمان بن مظعون وترك ابنة له من خولة بنت حكيم بن أمية ، وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون.

قال عبد الله : وهما خالايا، أي: عثمان بن مظعون وقدامة بن مظعون خالا ابن عمر، فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عثمان بن مظعون فزوجنيها.

ودخل المغيرة بن شعبة الصحابي الآخر إلى أم البنت، ولعله لم يكن يعلم بموضوع خطبة عبد الله بن عمر والله أعلم، فأرغبها في المال، فحطت إليه الأم ورغبت في المغيرة ، وولي البنت زوجها لـعبد الله بن عمر ، وحطت الجارية إلى هوى أمها، والبنت غالباً لا تخالف الأم، فصار خلاف، فارتفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قدامة بن مظعون: (يا رسول الله! ابنة أخي أوصى بها إلي، فزوجتها ابن عمتها عبد الله بن عمر ، فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة، ولكنها امرأة وإنما حطت إلى هوى أمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها قال عبد الله بن عمر : فانتزعت والله مني بعد أن ملكتها، فزوجوها المغيرة بن شعبة).

أخرجه الإمام أحمد والدارقطني ، وهو حديث صحيح.

هذه نماذج من السيرة وحياة الصحابة رضي الله عنهم تبين بعض مجالات الاستشارة، ونحن هنا نبين ونضيف أيضاً قضايا أخرى نذكرها بشكلٍ عام.

الاستشارة في طلب العلم والدعوة إلى الله

الاستشارة في طلب العلم أمر مهم جداً، ولابد أن يستشير الإنسان ماذا يقرأ؟ وماذا يسمع؟ وكيف يطلب العلم؟ وكيف يبتدئ؟ ومن هم الثقات من العلماء ليجلس إليهم؟ ويستشير هؤلاء العلماء في بداية الطلب، وبعد كل كتاب مثلاً ماذا يقرأ؟ وفي أي فن يبدأ؟ وما هي الفنون المهمة؟ وهكذا، وهذه أشياء أهل العلم يشيرون بها لما عندهم من الخبرة في هذا المجال، بعض الشباب يضع لنفسه برنامجاً في طلب العلم، يقول: أنا أريد أن أقرأ هذا الكتاب، ثم هذا الكتاب، وأريد أن أنهي هذا الكتاب في أسبوع، فيبدأ متحمساً في هذا البرنامج الذي وضع لنفسه، وقد لا يعرف هو طاقات نفسه، ولا الفنون التي يبدأ بها، وقد يبدأ في حفظ متون وغيرها أهم منها ليبدأ بها.

وإنني أعتب عتباً خاصاً على بعض الشباب الذين يبدءون بحفظ المتون وهم لا يحفظون إلا نزراً يسيراً من كتاب الله، والواجب أن تسير الأمور مع بعضها البعض، أأحفظ المتون وأترك أهم متن وهو كتاب الله عز وجل لا أحفظ منه شيئاً؟ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كـالأربعين النووية لا أحفظ منها شيئاً، هذه مصيبة، فلا بد أن نحفظ باستشارة أهل العلم بشكل متوازن لنحقق الأهداف التي نحتاج إليها في طلبنا للعلم.

أحياناً يخطر لشخص خاطرة في آية أو حديث، فيستنبط بعقله حكماً منها، يقول: سبحان الله! هذه الآية كأنها تومئ إلى الحكم الفلاني، ولكن لا يفعل إجراءً آخر وهو أن يتأكد من صحة استنباطه، ثم بعد فترة ربما سنوات يسأله شخص عن هذه المسألة- هذا يحدث أحياناً- فبماذا سيجيبه في الغالب وهو ليس عنده أقوال العلماء مطلقاً فيها؟

سيجيبه بنفس الاستنباط الذي استنبطه هو شخصياً وعلق بذهنه منذ ذلك الزمن ولم يعرضه على أهل العلم، ولو أنه استشار أهل العلم، وقال: يا أيها العالم! خطر في ذهني أن هذه الآية يؤخذ منها كذا، فهل هذا الاستنباط صحيح؟ وهل له وجه؟ وهل قال به أحد من العلماء؟

السفر في طلب العلم:

- يستشير الإنسان في السفر في طلب العلم إلى من يسافر مثلاً؟ ومن المشايخ الذين يحرص على لقياهم؟ وغالباً تجد أن الشيخ أو العالم سيقول لك: إذا ذهبت إلى بلدة كذا وكذا فإن فيها الشيخ فلان، فاذهب إليه زره واستفد منه في الجانب الفلاني فهو ضليع في هذا الجانب... وهكذا.

وهذه عادة علمائنا منذ زمن بعيد، يشيرون على طلبتهم بالمشايخ إذا أرادوا أن يسافروا في طلب العلم في البلدان المختلفة لما تجمع عندهم من الأخبار، ويقول: اسأل فلاناً، اذهب إلى فلان، فلان من أهل السنة احرص على لقياه.. وهكذا.

- تقديم الأولويات في طلب العلم:

نبدأ بأي شيء، ثم بعده بماذا؟ أحياناً تتزاحم الأشياء عند الشخص، ولا يعرف هل يبدأ بالتفسير، أو بالحديث، أو بالفقه، ومن الذي يقرر لك بماذا تبدأ؟

- الاستشارة في تغيير المنكر:

كيف نغير المنكر الفلاني؟ ما هي الطريقة السليمة لتغيير هذا المنكر والتي لا تؤدي إلى مضاعفات أو حصول منكر أكبر من هذا المنكر الذي نريد أن نغيره، أو تؤدي إلى فوات معروف أكبر من هذا المنكر الذي نريد أن نغيره؟

الاستشارة في طرائق الدعوة إلى الله:

بمن نبدأ من الناس؟ وكيف نبدأ معهم؟ وكيف ندعوهم؟ وكيف نفتح معهم المواضيع المختلفة؟ وما هي المواضيع المناسبة للعامة والشباب والكبار والجيران وأهل الحي وطلبة المدارس والعمال والموظفين وغيرهم؟ وما التوقيت المناسب لطرح المفهوم الفلاني؟ هل يصلح أن نطرحه الآن؟ هل هؤلاء يفهمون ما سنقوله لهم؟

حدث الناس على قدر عقولهم وبما يفهمون..

هل سيفهمون أم أن هذا المفهوم من السابق لأوانه أن يطرح مثلاً؟

- كيفية الاستفادة من الوقت:

أحياناً بعض الناس يقول: يا أخي كيف أستفيد من الوقت الذي من بعد الدراسة إلى الساعة الفلانية لا أدري ماذا أعمل به، هلا تشير عليّ بشيء أفعله لتغطية هذا الوقت؟

- مصادقة الأصحاب والإخوان:

بمن تشير عليّ أصاحب؟ أصادق من؟ أشر عليّ من هم الناس الذين أمشي معهم وأصادقهم وأتعاون معهم على الخير والبر والتقوى؟... وهكذا.

- تجريح وتعديل الأشخاص:

من القضايا المهمة التي ينبغي أن يستشار فيها: ماذا أقول عن فلان؟ ماذا تعرف عن فلان؟ ما مدى ثقة فلان؟ ما مدى ضعف فلان؟... وهكذا.

ولذلك- كما سنذكر فيما بعد- يجب أن يكون المستشار ليس بصاحب هوى، لأن بعض الناس قد يستشير صاحباً له أو عظيماً عنده في نفسه، ثم يقبل التجريح الذي يأتي منه أو التعديل الذي يكون نابعاً من هوى في نفس المشير.

- قضايا الزواج: لابد أن يستشير الإنسان في قضايا الزواج، مثلاً: أريد أن أتزوج من بنت فلان، ما رأيك يا فلان أنت تعرف هذا البيت؟ اسأل أهل البيت عندكم هل يعرفونها؟

حتى قضايا الفسخ والطلاق أيضاً الإنسان يحتاج أن يسأل فيها لأنها مسألة صعبة، ليس من السهل أن تطلق امرأة، لابد أن تستشير خاصة الناس الذين يعرفون أمورك وعندهم خلفية عن أحوال هذه المرأة أو هذا البيت الذي نشأت فيه.

مثلاً: هل هذه المرأة يحصل منها كذا وكذا، وأنا تضايقت جداً، وبلغ الأمر عندي أوجه، هل أطلقها؟ هل أصبر عليها؟ هل أعطيها فرصة؟ إذا طلقتها هل يا ترى سأجد أحسن منها أم أنني لن أجد؟

وبعض الناس يستخدمون الطلاق في لحظة غضب، ويتسرع فيه، كأن يحصل تصرف من المرأة أو أكثر، فتزداد المسألة عنده ثم يقوم بالطلاق مباشرة، وهذا من الأخطاء.

الاستشارة في مشاكل الأسرة

أحياناً تحدث في البيت خلافات وانشقاقات في الأسرة.. مشاكل بين الأب والأم، والأب والأولاد، والأم والأولاد... وهكذا، فيحتار الإنسان ماذا يفعل؟ أين يكون موقفه؟

أحياناً يقول: لو وقفت مع أبي ستغضب أمي، ولو وقفت مع أمي سيغضب عمي... وهكذا، فيحتار ماذا يفعل، فلابد أن يلجأ إلى أهل الخبرة في الجوانب الاجتماعية، ويسألهم عن الأسلوب الصحيح في التعامل مع هذه المشاكل.

- بعض الأوضاع في البيت.. تغيير منكرات البيوت: ما هي وسائل الإصلاح في البيت؟ كيف نغير وضع البيت، حتى الأشياء الدنيوية منها.

كذلك المركب: الإنسان يريد أن يشتري سيارة، قد لا يكون في بداية الأمر عنده خبرة بأنواع السيارات، وما هو النوع المناسب الذي يفي بحاجياته.

- التخصص الدراسي: كثير من الطلبة الذين يتخرجون من المرحلة الثانوية قد لا يدركون ما هو التخصص المناسب بالنسبة لهم، وما هو التخصص الذي يمكن أن يبدعوا فيه، وما هو التخصص الذي للمسلمين فيه حاجة، فقد يدخل تخصصاً ويفشل فيه، ثم ينتقل إلى تخصص آخر ويفشل فيه، ويضيع جزءاً طويلاً من عمره هكذا، ولو أنه استشار أهل الخبرة من البداية لما حصل له هذا التشتت.

- الوظيفة: إذا وجد عنده أكثر من مجال للعمل، ففي أي مكان يتوظف، هذا أيضاً من الأمور المهمة أن يستشير فيها.

حتى في هيئة الإنسان ومنظره أحياناً، إذا كان يخرج إلى العامة ويظهر أمامهم، ويستشير تفادياً للشذوذ الذي قد يحصل في بعض الآراء.

كذلك ترى استشارته في مجال المعارك، وهي من المجالات الهامة جداً، والتي يترتب عليها مصائر ومنعطفات تغييريه أحياناً في حياة المجتمع كله.

فمثلاً: في مسند أحمد وصحيح مسلم عن أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان في معركة بدر ، قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقال سعد بن عبادة : إيانا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رد أبو بكر وعمر وهما بهذه المنزلة إلا أنه يعنينا نحن الأنصار، فقام وقال: والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخوض هذه البحار لخضناها معك"، هذا لفظ مسلم .

فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يستوثق أن الأنصار سوف يحاربون معه خارج المدينة ، وأنهم على استعداد للخروج، وأن وعيهم قد بلغ بهم أن يخرجوا ويقاتلوا الكفار خارج المدينة .

وكلما عظُم الأمر وكان أهم كلما كانت الاستشارة فيه أبلغ وأعظم وأهم، ومثال ذلك: ما وقع في حادثة مقتل عمر رضي الله عنه وتولية عثمان بن عفان الخلافة، فعهد عمر إلى سته من الصحابة، ثم عهد ثلاثة من الستة إلى الثلاثة الآخرين وتنازلوا لهم عن الأمر، فصار الأمر في النهاية إلى عبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين.

فقال عبد الرحمن بن عوف: إذا رضيتما بمن أختاره فأنا أتنازل لواحدٍ منكما، فقالوا: رضينا.

فالآن عبد الرحمن بن عوف صار في موقف عظيم وجليل جداً، والقضية من أهم القضايا، وفيها اختيار خليفة للمسلمين.

وعبد الرحمن بن عوف لن يتخذ قراراً فردياً، ويقول: فلان أفضل، لا. بل ذهب يشاور المهاجرين والأنصار، ويدخلون عليه ويطلبهم ويستشيرهم في المسجد، وكلما لقي أحداً من أهل الرأي استشاره، حتى يقول عبد الرحمن بن عوف: [مرت علي ثلاث ليال ما اكتحلت فيها بنوم إلا شيئاً يسيراً جداً].

ولذلك قال المسور : [فما رأيت مثل عبد الرحمن ، والله ما ترك أحداً من المهاجرين والأنصار ولا غيرهم من ذوي الرأي إلا استشارهم تلك الليلة].

قد تمر بالإنسان أشياء لا يدري ما الحكم فيها ولابد أن يستشير، فعن المغيرة بن شعبة : أن عمر رضي الله عنهما استشاره في إملاص المرأة، فقال المغيرة: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة) أي: عبد أو أمة، وهذا في صحيح البخاري، فـعمر استشار الصحابة في المرأة إذا ضربت على بطنها فسقط الجنين ومات، فما هي الدية؟ فجاء له المغيرة بالحكم الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عمر : أيكم سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئاً، فانظر إلى الراوي وهو يقول: إن عمر استشارهم في إملاص المرأة.

الناس يحتاجون إلى استشارة أهل العلم، ويحتاجون إلى معرفة الأحكام في الأمور والمسائل، والرسول صلى الله عليه وسلم لما أُمر بتخيير نسائه بين أن يبقين معه على ما عنده، أو يمتعهن ويسرحهن سراحاً جميلاً، عن عائشة قالت: (أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني سأعرض عليك أمراً فلا عليك ألا تعجلي فيه حتى تشاوري أبويك، فقلت: وما هذا الأمر؟ قالت: فتلا علي: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:28-29]، فقالت عائشة: وفي أي شيء تأمرني أن أشاور أبواي؟! بل أريد الله ورسوله والدار الآخرة) هذه رواية البخاري.

ومن الشواهد على هذه المسألة ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده -وهو حديث صحيح- عن أبي برزة الأسلمي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار: (زوجني ابنتك، فقال: وكرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعم عيني، فقال: إني لست أريدها لنفسي، قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: لـجليبيب ، قال: فقال: يا رسول الله، أشاور أمها، فأتى أمها....) إلى آخر الحديث وكانت البنت عاقلة، قالت: هل تظنون أنكم ستأتونني بأفضل مما عرض عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأقنعتهم أن يزوجوها لـجليبيب رضي الله عنه الذي قتل في معركة أحد شهيداً، فأنت ترى أن الأب لم يستبد برأيه، وأنه شاور أم البنت، فهي لها دور في الموضوع ولابد أن تشاور.

ومن الأمثلة على الاستشارة في مجال الجهاد الحديث الحسن عن معاوية بن جاهمة : أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! أردت الغزو وجئت أستشيرك - هذا مسألة مهمة نحتاج إليها الآن جداً، وهذا حديث فيه فقه مهم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من أم؟ قال: نعم، فقال: الزمها، فإن الجنة عند رجليها) ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول، والرسول صلى الله عليه وسلم يشير عليه بنفس الرأي، وقد أخرج طرق هذا الحديث الشيخ ناصر في إرواء الغليل .

ومن الأمور المكملة في موضوع استشارة النساء للزواج استشارة نفس البنت التي تريد أن تتزوج، فمعرفة رأي البنت أمر مهم جداً، وبعض أولياء الأمور في هذه الأيام لا يضربون لها أي حساب، قال ابن عمر لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أبت، اخطب لي ابنة صالح ، فقال عمر : إن له يتامى ولم يكن ليؤثرنا عليهم، فانطلق عبد الله إلى عمه زيد بن الخطاب ليخطب له، فانطلق زيد إلى صالح ، فقال: إن عبد الله بن عمر أرسلني إليك يخطب ابنتك، فقال صالح : لي يتامى، ولم أكن لأترب لحمي وأرفع لحمكم، أشهدكم أني قد أنكحتها فلاناً، اتخذ القرار فجأة في نفس المجلس، وكان هذا رأي أبيها.

فأتت أمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا نبي الله! خطب عبد الله بن عمر ابنتي، فأنكحها أبوها يتيماً في حجره، ولم يؤامرها، ما استشارها ولا استأذنها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صالح ، فقال: (أنكحت ابنتك ولم تؤامرها، ثم قال عليه الصلاة والسلام: أشيروا على النساء في أنفسهم- الشاهد أشيروا- فقال: إن البكر تستحي يا رسول الله، قال: الثيب تعرب عن نفسها بلسانها، والبكر رضاها صماتها)، حديث صحيح في السلسلة الصحيحة .

وقد وقعت لـابن عمر قصة مشابهة ولكن بنتيجة مختلفة، وهي أيضاً قصة حسنة، قال ابن عمر : توفي عثمان بن مظعون وترك ابنة له من خولة بنت حكيم بن أمية ، وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون.

قال عبد الله : وهما خالايا، أي: عثمان بن مظعون وقدامة بن مظعون خالا ابن عمر، فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عثمان بن مظعون فزوجنيها.

ودخل المغيرة بن شعبة الصحابي الآخر إلى أم البنت، ولعله لم يكن يعلم بموضوع خطبة عبد الله بن عمر والله أعلم، فأرغبها في المال، فحطت إليه الأم ورغبت في المغيرة ، وولي البنت زوجها لـعبد الله بن عمر ، وحطت الجارية إلى هوى أمها، والبنت غالباً لا تخالف الأم، فصار خلاف، فارتفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قدامة بن مظعون: (يا رسول الله! ابنة أخي أوصى بها إلي، فزوجتها ابن عمتها عبد الله بن عمر ، فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة، ولكنها امرأة وإنما حطت إلى هوى أمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها قال عبد الله بن عمر : فانتزعت والله مني بعد أن ملكتها، فزوجوها المغيرة بن شعبة).

أخرجه الإمام أحمد والدارقطني ، وهو حديث صحيح.

هذه نماذج من السيرة وحياة الصحابة رضي الله عنهم تبين بعض مجالات الاستشارة، ونحن هنا نبين ونضيف أيضاً قضايا أخرى نذكرها بشكلٍ عام.

الاستشارة في طلب العلم أمر مهم جداً، ولابد أن يستشير الإنسان ماذا يقرأ؟ وماذا يسمع؟ وكيف يطلب العلم؟ وكيف يبتدئ؟ ومن هم الثقات من العلماء ليجلس إليهم؟ ويستشير هؤلاء العلماء في بداية الطلب، وبعد كل كتاب مثلاً ماذا يقرأ؟ وفي أي فن يبدأ؟ وما هي الفنون المهمة؟ وهكذا، وهذه أشياء أهل العلم يشيرون بها لما عندهم من الخبرة في هذا المجال، بعض الشباب يضع لنفسه برنامجاً في طلب العلم، يقول: أنا أريد أن أقرأ هذا الكتاب، ثم هذا الكتاب، وأريد أن أنهي هذا الكتاب في أسبوع، فيبدأ متحمساً في هذا البرنامج الذي وضع لنفسه، وقد لا يعرف هو طاقات نفسه، ولا الفنون التي يبدأ بها، وقد يبدأ في حفظ متون وغيرها أهم منها ليبدأ بها.

وإنني أعتب عتباً خاصاً على بعض الشباب الذين يبدءون بحفظ المتون وهم لا يحفظون إلا نزراً يسيراً من كتاب الله، والواجب أن تسير الأمور مع بعضها البعض، أأحفظ المتون وأترك أهم متن وهو كتاب الله عز وجل لا أحفظ منه شيئاً؟ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كـالأربعين النووية لا أحفظ منها شيئاً، هذه مصيبة، فلا بد أن نحفظ باستشارة أهل العلم بشكل متوازن لنحقق الأهداف التي نحتاج إليها في طلبنا للعلم.

أحياناً يخطر لشخص خاطرة في آية أو حديث، فيستنبط بعقله حكماً منها، يقول: سبحان الله! هذه الآية كأنها تومئ إلى الحكم الفلاني، ولكن لا يفعل إجراءً آخر وهو أن يتأكد من صحة استنباطه، ثم بعد فترة ربما سنوات يسأله شخص عن هذه المسألة- هذا يحدث أحياناً- فبماذا سيجيبه في الغالب وهو ليس عنده أقوال العلماء مطلقاً فيها؟

سيجيبه بنفس الاستنباط الذي استنبطه هو شخصياً وعلق بذهنه منذ ذلك الزمن ولم يعرضه على أهل العلم، ولو أنه استشار أهل العلم، وقال: يا أيها العالم! خطر في ذهني أن هذه الآية يؤخذ منها كذا، فهل هذا الاستنباط صحيح؟ وهل له وجه؟ وهل قال به أحد من العلماء؟

السفر في طلب العلم:

- يستشير الإنسان في السفر في طلب العلم إلى من يسافر مثلاً؟ ومن المشايخ الذين يحرص على لقياهم؟ وغالباً تجد أن الشيخ أو العالم سيقول لك: إذا ذهبت إلى بلدة كذا وكذا فإن فيها الشيخ فلان، فاذهب إليه زره واستفد منه في الجانب الفلاني فهو ضليع في هذا الجانب... وهكذا.

وهذه عادة علمائنا منذ زمن بعيد، يشيرون على طلبتهم بالمشايخ إذا أرادوا أن يسافروا في طلب العلم في البلدان المختلفة لما تجمع عندهم من الأخبار، ويقول: اسأل فلاناً، اذهب إلى فلان، فلان من أهل السنة احرص على لقياه.. وهكذا.

- تقديم الأولويات في طلب العلم:

نبدأ بأي شيء، ثم بعده بماذا؟ أحياناً تتزاحم الأشياء عند الشخص، ولا يعرف هل يبدأ بالتفسير، أو بالحديث، أو بالفقه، ومن الذي يقرر لك بماذا تبدأ؟

- الاستشارة في تغيير المنكر:

كيف نغير المنكر الفلاني؟ ما هي الطريقة السليمة لتغيير هذا المنكر والتي لا تؤدي إلى مضاعفات أو حصول منكر أكبر من هذا المنكر الذي نريد أن نغيره، أو تؤدي إلى فوات معروف أكبر من هذا المنكر الذي نريد أن نغيره؟

الاستشارة في طرائق الدعوة إلى الله:

بمن نبدأ من الناس؟ وكيف نبدأ معهم؟ وكيف ندعوهم؟ وكيف نفتح معهم المواضيع المختلفة؟ وما هي المواضيع المناسبة للعامة والشباب والكبار والجيران وأهل الحي وطلبة المدارس والعمال والموظفين وغيرهم؟ وما التوقيت المناسب لطرح المفهوم الفلاني؟ هل يصلح أن نطرحه الآن؟ هل هؤلاء يفهمون ما سنقوله لهم؟

حدث الناس على قدر عقولهم وبما يفهمون..

هل سيفهمون أم أن هذا المفهوم من السابق لأوانه أن يطرح مثلاً؟

- كيفية الاستفادة من الوقت:

أحياناً بعض الناس يقول: يا أخي كيف أستفيد من الوقت الذي من بعد الدراسة إلى الساعة الفلانية لا أدري ماذا أعمل به، هلا تشير عليّ بشيء أفعله لتغطية هذا الوقت؟

- مصادقة الأصحاب والإخوان:

بمن تشير عليّ أصاحب؟ أصادق من؟ أشر عليّ من هم الناس الذين أمشي معهم وأصادقهم وأتعاون معهم على الخير والبر والتقوى؟... وهكذا.

- تجريح وتعديل الأشخاص:

من القضايا المهمة التي ينبغي أن يستشار فيها: ماذا أقول عن فلان؟ ماذا تعرف عن فلان؟ ما مدى ثقة فلان؟ ما مدى ضعف فلان؟... وهكذا.

ولذلك- كما سنذكر فيما بعد- يجب أن يكون المستشار ليس بصاحب هوى، لأن بعض الناس قد يستشير صاحباً له أو عظيماً عنده في نفسه، ثم يقبل التجريح الذي يأتي منه أو التعديل الذي يكون نابعاً من هوى في نفس المشير.

- قضايا الزواج: لابد أن يستشير الإنسان في قضايا الزواج، مثلاً: أريد أن أتزوج من بنت فلان، ما رأيك يا فلان أنت تعرف هذا البيت؟ اسأل أهل البيت عندكم هل يعرفونها؟

حتى قضايا الفسخ والطلاق أيضاً الإنسان يحتاج أن يسأل فيها لأنها مسألة صعبة، ليس من السهل أن تطلق امرأة، لابد أن تستشير خاصة الناس الذين يعرفون أمورك وعندهم خلفية عن أحوال هذه المرأة أو هذا البيت الذي نشأت فيه.

مثلاً: هل هذه المرأة يحصل منها كذا وكذا، وأنا تضايقت جداً، وبلغ الأمر عندي أوجه، هل أطلقها؟ هل أصبر عليها؟ هل أعطيها فرصة؟ إذا طلقتها هل يا ترى سأجد أحسن منها أم أنني لن أجد؟

وبعض الناس يستخدمون الطلاق في لحظة غضب، ويتسرع فيه، كأن يحصل تصرف من المرأة أو أكثر، فتزداد المسألة عنده ثم يقوم بالطلاق مباشرة، وهذا من الأخطاء.

أحياناً تحدث في البيت خلافات وانشقاقات في الأسرة.. مشاكل بين الأب والأم، والأب والأولاد، والأم والأولاد... وهكذا، فيحتار الإنسان ماذا يفعل؟ أين يكون موقفه؟

أحياناً يقول: لو وقفت مع أبي ستغضب أمي، ولو وقفت مع أمي سيغضب عمي... وهكذا، فيحتار ماذا يفعل، فلابد أن يلجأ إلى أهل الخبرة في الجوانب الاجتماعية، ويسألهم عن الأسلوب الصحيح في التعامل مع هذه المشاكل.

- بعض الأوضاع في البيت.. تغيير منكرات البيوت: ما هي وسائل الإصلاح في البيت؟ كيف نغير وضع البيت، حتى الأشياء الدنيوية منها.

كذلك المركب: الإنسان يريد أن يشتري سيارة، قد لا يكون في بداية الأمر عنده خبرة بأنواع السيارات، وما هو النوع المناسب الذي يفي بحاجياته.

- التخصص الدراسي: كثير من الطلبة الذين يتخرجون من المرحلة الثانوية قد لا يدركون ما هو التخصص المناسب بالنسبة لهم، وما هو التخصص الذي يمكن أن يبدعوا فيه، وما هو التخصص الذي للمسلمين فيه حاجة، فقد يدخل تخصصاً ويفشل فيه، ثم ينتقل إلى تخصص آخر ويفشل فيه، ويضيع جزءاً طويلاً من عمره هكذا، ولو أنه استشار أهل الخبرة من البداية لما حصل له هذا التشتت.

- الوظيفة: إذا وجد عنده أكثر من مجال للعمل، ففي أي مكان يتوظف، هذا أيضاً من الأمور المهمة أن يستشير فيها.

حتى في هيئة الإنسان ومنظره أحياناً، إذا كان يخرج إلى العامة ويظهر أمامهم، ويستشير تفادياً للشذوذ الذي قد يحصل في بعض الآراء.

من نستشير؟ وما هي صفات المستشار؟

هذه نقطة حساسة، لأننا قد نتفق على أهمية الاستشارة، وأننا لابد أن نستشير، ولكن عندما نأتي إلى التطبيق هنا تبرز مشكلة: من هم أهل الاستشارة؟ هل أنتقي شخصاً من الشارع أو المسجد أسأله.. إلى من أتجه؟

هذا سؤال مهم جداً، وتترتب عليه نتيجة مهمة، بعض الناس يسأل بطانته والمقربين إليه ولو كانوا أجهل وأسوأ منه حالاً، ولذلك نقول:

أولاً: لابد أن تصلح بطانتك حتى إذا استشرتهم أشاروا عليك بالرأي السديد الذي يرضي الله عز وجل.

وثانياً: ما الفائدة من جاهل يستشير جاهلاً آخر؟ فلابد من إحسان الاستشارة.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم له أناساً من أصحابه لهم مميزات معينة؛ لذا كان يستشيرهم ويأخذ بمشورتهم، مثال: حديث عبد الرحمن بن غنم الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (لو اجتمعتما في مشورةٍ ما خالفتكما) رواه الإمام أحمد.

وسألت الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا الحديث؟ فقال: إسناده حسن.

فالرسول صلى الله عليه وسلم لو اجتمعت عنده مشورة أبي بكر وعمر على شيء واحد لم يخالفهما فيه.

وعمر رضي الله عنه كان لديه مجموعة من المستشارين، وكان فيهم الشباب والشيوخ، ولذلك كان بعض السلف يقول: يا معشر الشباب! لا تحتقروا أنفسكم، فإن مشورة عمر رضي الله عنه كان فيهم شباب حدثاء السن.

وهؤلاء أهل المشورة عند عمر رضي الله عنه كانت لهم مواقف جميلة، فمنها مثلاً: أن عم الحر بن قيس ويدعى عيينة بن حصن ، قال لابن أخيه: يا بن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟ قال: سأستأذن لك عليه.

قال ابن عباس : فاستأذن لـعيينة فلما دخل، قال عيينة -وكان فيه شيء من البداوة- يا بن الخطاب ! والله ما تعطينا الجزل، وما تحكم بيننا بالعدل.

فغضب عمر حتى همَّ أن يقع به، فقال الحر : يا أمير المؤمنين! -الحر هذا من مستشاري عمر - إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله.

فانظر كيف تنفع الاستشارة.

من صفات المستشار: أن يكون صاحب دين وتقى

والمشير دائماً يأمر بالخير والرأي السديد، وينصح بالشيء الصحيح، فمن خصال المشير مثلاً: أن يكون صاحب دين وتقى: فإن صاحب الدين يكون أميناً في إعطاء الرأي.. مأمون السريرة.. موفق العزيمة.

واستشارة الناس الذين لا خير ولا دين فيهم كثيراً ما تكون آرائهم وبالاً على المستشير.

انظر على سبيل المثال النكبات التي أصيبت بها جيوش المسلمين في العصر الحاضر، كل الهزائم التي مني بها المسلمون في هذا الزمان كانت بسبب استشارة الكفرة والمنافقين والناس الذين لا يوثق بهم أبداً من أعداء الله، لأن المنافق عدو الله ما هو الخير من وراء استشارته، وإذا أردت مثلاً من القديم: فما هو السبب في تخريب بغداد ودخولها إلا أن مستشار الخليفة يومئذٍ هو ابن العلقمي الخائن الرافضي؟

ولما كان مثل ابن العلقمي الخائن هو المستشار حل الخراب في بلاد المسلمين، وهكذا في يومنا هذا تحصل النكبات والنكسات بسبب وجود أولئك الخبثاء الذين يشيرون بالخطأ عمداً ونكاية، وتقع النكبات نتيجة أخذ آرائهم.

وورد في حديث ضعيف: (لا تستضيئوا بنار المشركين) استنبط منه الحسن البصري استنباطاً يقول فيه: أي: لا تأخذوا بآراء المشركين، ولا تستشيروهم في أموركم، ولا تأخذوا بآرائهم، لأن آراءهم مثل النار، وإن كان المعنى الأقرب للحديث: ابتعدوا عن المشركين ولا تساكنوهم ولا تخالطوهم، والحديث فيه ضعف.

ولكن لا مانع أن يستشار الكافر أحياناً إذا كان موثوقاً به، مثلاً: مقاول رأى مهندساً كافراً، لكن تبين له من أمر هذا المهندس أنه ثقة في الرأي لا يخون، وينبغي أن ينتبه؛ لأن هؤلاء الكفرة لا خير فيهم، قد يكون فيهم خبث، وقد يكون في استشارتهم دمار عليه، وعلى العمل الذي يريد إنشاءه، لكن لو وثق به مثل ما وثق الرسول صلى الله عليه وسلم بـعبد الله بن أريقط المشرك فقد استئجره في الطريق، وكان إنساناً مأموناً، قد يكون كافراً لكن فيه أمانة.

لكن ما هو الغالب على الكفار؟

الغالب عليهم أنهم أعداء للدين، وأنهم يريدون الشر بالمسلمين، وأن آراءهم وبال على المسلمين وليست لصالح المسلمين.

من صفات المستشار: أن يكون عاقلاً مجرباً

فيكون معروفاً بكثرة التجارب، "استرشدوا العاقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا"، وقال عبد الله بن الحسن لابنه محمد : احذر مشاورة الجاهل وإن كان ناصحاً، كما تحذر عداوة العاقل إذا كان عدواً، فإنه يوشك أن يورطك بمشاورته.

وقبيلة عبس كانوا معروفين بكثرة الصواب، حتى إن رجلاً سأل آخر من قبيلة عبس قال: ما أكثر صوابكم؟ قال: نحن ألف رجل وفينا رجل حازم، ونحن نطيعه فكأننا ألف حازم.

وقال بعض الحكماء: التجارب ليس لها غاية، والعاقل منها في زيادة.

وقال بعض الحكماء: من استعان بذوي العقول فاز بدرك المأمول.

وقال أبو الأسود الدؤلي رحمه الله:

وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه     ولا كل مؤتٍ نصحه بلبيب

ولكن إذا ما استجمعا عند صاحـب     فحق له من طاعة بنصيب

من صفات المستشار: أن يكون عالماً بما يستشار فيه

هنا تبرز قضية وهي: هل يوجد إنسان معين يصلح أن نستشيره في جميع الأشياء، أم أن هناك أناساً نستشيرهم في أشياء ولا نستشيرهم في أشياء أخرى؟

الحقيقة أن هذا الأخير هو أقرب إلى الصواب، فإنه ينبغي أن يستشار كل إنسان في مجال تخصصه، فإذا كانت قضية شرعية لا تعرف حكمها؛ فإنك تستشير العلماء.. إذا كان عندك مشكلة في تخصص دراسي تستشير أهل الخبرة بالتخصصات.. إذا كان عندك مشكلة وظيفية في الوظائف لا تدري إلى أي وظيفة تذهب، تستشير الخبراء بهذا.

إذاً: ليس بالضرورة أن يوجد شخص يفهم في كل الأمور، بعض الناس يظن أنه إذا استشار فلاناً في شيء، ولم يستشره في شيء آخر فإن هذا إزراء عليه، يقول: هذا رجل موثوق، إذا لم أستشره في كل القضايا فكأني أزري به، ولكن ليس الأمر كذلك، فبعض الناس يفهمون في الأدوات الكهربائية، وبعض الناس لا يفهمون في الأدوات الكهربائية، وإن كان هؤلاء الذين لا يفهمون في الأدوات الكهربائية قد يكونون أعلم بعلوم الشريعة من غيرهم، فإذاً نستشير كلاً في مجال تخصصه.

من صفات المستشار: أن يكون عنده علم بالشريعة

يتضمن العلم بأحوال الناس، وعلم الزمان والمكان والترجيح، كما ذكر المناوي رحمه الله في شرح حديث: ( المستشار مؤتمن ).

فما يصلح لمكان قد لا يصلح لمكان آخر، وما يصلح لزمان قد لا يصلح لزمان آخر، وأحياناً تتزاحم الأمور، فلابد أن يكون المستشار عنده عقل راجح يرجح لك به أي الأمور تقدمها الآن عندما تتزاحم الأشياء.

وأن يكون ناصحاً ودوداً، فإن النصح والمودة يصدقان الفكرة ويمحصان الرأي.

من صفات المستشار: أن يكون سليم الفكر من الهموم والغموم

فلو استشرت إنساناً مغموماً وفكره مشغول بأشياء، فهل تتوقع أن يعطيك إشارة واستشارة صحيحة؟

كان كسرى -هذه من الحكم تؤخذ حتى من الكفار- إذا دهمه أمرٌ بعث إلى مرازبته -وهم الأمراء الكبار وأهل الرأي- فاستشارهم، فإن قصروا في الرأي، أي: لم يعطوه الرأي الصحيح، ضرب قهارمته -وهم القائمون على الأموال- لماذا؟ لأنهم لم يعطوهم أرزاقهم، وكان يقول لهم: أبطأتم بأرزاقهم فأخطئوا في آرائهم، ولو أعطيتموهم الأموال التي يحتاجوها لما جلس واحدهم مهموم يفكر من أين يسترزق، فانشغل همه بتحصيل المال والرزق، فصارت آراؤه ليست سديدة.

ولذلك يقال: إن حارثة بن زيد مرَّ بـالأحنف بن قيس، فقال: لولا أنك عجلان لشاورتك في بعض الأمر، فقال: يا حارثة أجلّ.

وكانوا لا يشاورون الجائع حتى يشبع، والعطشان حتى ينقع، والأسير حتى يطلق، والمضل حتى يجد، والراغب حتى يمنح.

وقيل: لا تشاور صاحب حاجة يريد قضاءها، ولا جائعاً.

وقالوا: لا رأي لحاقن ولا لحازق، ومن هو الحازق؟ هو الذي ضغطه حذاؤه فهو يؤلمه، فطالما وهو يمشي ذهنه مشغول بضيق الحذاء، ولذلك هذا لا يصلح لأن يستشار، لأن ذهنه مشغول بالحذاء، والحاقن هو: الذي يجد شيئاً في بطنه، مثل الغازات أو الألم أو شيء من هذا القبيل، فهذا الذي في بطنه هذا الشيء لا يعطيك الرأي الصواب؛ لأن ذهنه مشغول بشيء آخر.

من صفات المستشار: ألَّا يكون صاحب هوى

لابد أن يكون المستشار ليس بصاحب هوى أو غرض شخصي يتابعه، فإن هذا الشخص لو كان ذكي وخبير لكنه صاحب هوى فإنه سيشير عليك بالرأي الذي يهواه هو، وهذا شيء خطير جداً.

فلو أن شخصاً يميل إلى شيء، وجئت واستشرته؛ فإنه سوف يشير عليك بما يهواه لا لأنه صواب ولكن لأنه يهواه.

مثلاً: رجل عنده أخت فيها عيوب، لكن همه أن تتزوج بأي وسيلة، وجئت تستشيره، وقلت له: أريدك أن تبحث لي عن فتاة، فماذا سيقول لك؟ سيقول: طلبك عندي، أشيرك على فلانة مع أن فيها عيوباً.

لكنه الآن عنده هوى وغرض شخصي، مثل: صاحب الدكان يكون عنده بعض السلع، وعند جاره سلع أفضل منها، وتستشيره تقول: ما رأيك آخذ هذا، أو أبحث عن نوع آخر، هو صاحب غرض الآن، سيقول: لا. هذه نوعية ممتازة خذ منها، فالآن يجب أن يكون المستشار ليس صاحب هوى، ولا صاحب غرض شخصي.

وبعض الناس يذهب يستشير صاحب هوى فيشير عليه بما يهواه، ثم يقول: الحمد لله استشرت، نقول: لا. أين استشرت؟! أنت الآن استشرت من لديه ميول معينة، فأشار عليك بما يهواه وبما يميل إليه، فاستشارتك ناقصة في الحقيقة.

وبعض الأحيان يكون معرفة حال المستشير مهم للمستشار: فلابد أن تسأل الشخص الذي يعرف حالتك أكثر من غيرك، فبعض الناس أحياناً يتخطون أناساً قريبين منهم، مع أن عندهم عقل راجح، وعندهم بصيرة، وهم أهل للاستشارة، فيتخطون القريب إلى آخر بعيد لا يعرف حال المستشير، ويقول له: أشر عليّ، وماذا تنصحني في حالتي هذه؟ ويعرض له مشكلة خاصة تتعلق بواقعه الشخصي، وقد يخفي شيئاً من خلفيتها، والمستشار لا يدري عن الخلفية، لأنه ليس محتكاً ولا قريباً من المستشير، فيشير عليه برأيه، فيقول هذا: الحمد لله أنا استشرت.

فنقول: لا. أنت استشرت مَنْ ليس لديه خبره بحالك، وتخطيت أناساً آخرين لهم معرفة بحالك من الممكن أن تستشيرهم، لكنك تخاف أن يقولوا لك: لا تفعل، أو افعل، وأنت لا تهوى هذا الشيء، وبنفس الوقت تريد أن تستشير، لكن تريد الجواب الذي تهواه؛ لذا ذهبت إلى البعيد، ولو كان شيخاً كبيراً وعظيماً، وتقول له: ما رأيك في المشكلة الفلانية؟ وتخفي عنه أشياء، ولا تعرض له خلفية القضية، وتقول: أشر عليّ، فلما يشير عليك بالذي تهواه.

وقد يستشير الشخص مَنْ يرتاح إليهم عاطفياً، لا لأنهم أهل بصيرة، ولا لأنهم أهل تجربة، ولا لأنهم أهل دين، ولكن لأنه يستريح لهم ويتقارب معهم نفسياً، فتجد أنه يستشيره في أموره الخاصة والخطيرة، مع أن هذا المستشار أدنى منه منزلة، لكن لأنه يرتاح إليه عاطفياً ونفسياً، فتجده يستشيره في أشياء كثيرة من أموره التي من الأولى أن يستشير فيها أناساً آخرين.

وما هي المنفعة من استشارة شخص تميل إليه عاطفياً وليس عنده خبرة في المشورة؟

من صفات المستشار: أن يشعر بعظم أمانة مشورته

المستشار يجب أن يشعر بالمسئولية، بأنه الآن استؤمن على شيء، ولذلك قيل: المشاورة راحة لك وتعب على غيرك؛ لأن المستشير الآن تحمل مسئولية عظيمة، ولذلك ليتق الله كل مستشار فيما يستشار فيه، ويعلم أنها أمانة، ويعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: ( المستشار مؤتمن ) والقضية أمانة: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان [الأحزاب:72]، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].

فمن جعل أخاه مستشاراً واستشاره فقد جعله بمنزلة المؤتمن، فيجب عليه أن يكون أميناً وهو يشير عليه، وألا يفشي بالسر.

فإذا كانت لديك قضية خاصة لا تريد خبرها أن يتسرب إلى أحد فتستشير فيها، فمن أمانة المستشار ألا يسرب هذه القضية إلى أناس آخرين، إلا إذا كان هناك مفسدة عظيمة تنشأ، أو مصلحة كبيرة تفوت أكبر من مفسدة هذا، لأنك الآن تستودع عنده سرك، وأحياناً تكون قضية خاصة جداً تستودعها عند هذا المستشار.

ومما ورد في هذا: قال البخاري رحمه الله في الأدب المفرد: (باب المستشار مؤتمن) عن أبي هريرة قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي الهيثم : هل لك من خادم؟ قال: لا. قال: فإذا أتانا سبي فأتنا، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم -حسب الاتفاق- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اختر واحداً من هذين الرجلين، فقال الصحابي وكان فطناً: بل أنت اختر لي يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المستشار مؤتمن، خذ هذا فإني رأيته يصلي واستوصي به خيراً). حديث صحيح رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وغيرهما.

انظر من قبل قال: اختار لك فلما حُمل الرسول صلى الله عليه وسلم أمانة الاستشارة صار عنده موقف آخر، قال (المستشار مؤتمن، خذ هذا فإني رأيته يصلي) انظر كيف تغير موقف الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن المسألة أصبحت أمانة.

ومن أشار على أخيه المسلم برأي ليس صواباً وهو يعلم أنه ليس بصواب، ورد فيه وعيد في حديث صحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار، ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد، فقد خانه)، وفي رواية: (وأشار عليه بأمر يعلم أن الرشد في غيره، فقد خانه، ومن أفتى بفتيا غير ثبت فإثمه على من أفتاه).

إذاً: الذي يشير على أخيه بشيء وهو يعلم أن الصواب غير هذا فهذه خيانة، وفيها أثم عظيم: (ومن غشنا فليس منا) كما قال عليه الصلاة والسلام.

ومن النوادر العجيبة في هذا: أن أحد الحكام استشار شخصاً، قال له: ما رأيك في تولية فلان القضاء؟

قال: فلان هذا شخص موثوق، ورأيي أنك توليه القضاء.

ثم جاء هذا الشخص الذي يراد أن يتولى القضاء إلى المستشار الذي استشاره الحاكم، فقال له: يا فلان، عرض عليّ الحاكم أن أتولى القضاء، فما رأيك؟

قال: اللهم لا. لا أشير عليك أن تتولى القضاء، القضاء فيه فتنة، وفيه مسئولية.

فالحاكم لما سمع استعجب، قال: أنا عندما أستشيرك، تقول:نعم، وعندما يستشيرك فلان، تقول: لا. ما هذا؟!

فقال: أيها الأمير! استشرتني فاجتهدت لك رأيي ونصحتك، واستشارني فاجتهدت له رأيي ونصحته، المسألة بالأمانة، فأنا لا أقول له عندما يستشيرني: نعم؛ لأنك أنت تريده.

من أخطاء المستشار

بعض الناس يشيرون قبل أن يطلب منهم الرأي، وهذا يعتبر نوع من التدخل، إلا إذا كانت المسألة تتطلب أن يبدي رأيه الآن لتوقعات ستحدث، لكن هناك بعض الناس يدسون أنوفهم في كل شيء، دائماً يبدي رأيه، مع أن التدخل قد لا يكون مناسباً، أو يشير وهو ليس بأهل.

إذا جاءك من يستشيرك وأنت ليس عندك خبرة في هذا الشيء، فماذا تفعل؟

تقول له: أرجو المعذرة، أنا ليس عندي خبرة، ولا أستطيع أن أشير عليك، اذهب إلى غيري، وهذا إذا أردت أن تكون أميناً.

لكن بعض الناس ما إن يأتيه مَن يستشيره حتى يخرج له الرأي، حتى ولو كان رأياً فاشلاً، أو غير مبني على أي شيء من العلم أو الخبرة، وفي كثير من الأحيان إذا كان المستشار غير أهل للمشورة وجاءه إنسان واستشاره، فإن رأيه يزيد الأمور تعقيداً.

في بعض الحالات يأتي من يقول: أنا عندي مشكلة مع أهلي كذا وكذا، فيأتي من يقول: أنا أشير عليك أن تتركهم لمدة أسبوع وتنام خارج البيت حتى تأدبهم.

أو يقول: زوجتي كذا وكذا، فيقول: أنا رأيي أنك تطلقها.

وفي بعض الحالات عندما تكون الاستشارة خاطئة تؤدي إلى نتائج عكسية، ولذلك لابد من انتقاء المستشار، ولا ينبغي للإنسان أن يتبرع برأييه كما قال الشاعر:

فلا تمنحن الرأي من ليس أهله     فلا أنت محمود ولا الرأي نافع

أحياناً بعض الناس يتدخل ويعطي رأيه، فإذا كان الذين أعطاهم الرأي ليسوا بأهل، فقد يقولون له: لماذا تتدخل في الموضوع؟

فيكون رأيه وبالاً عليه، فلذلك لا يعطي الرأي المناسب إلا في الوقت المناسب، وعندما يسأل الشخص ويعطي الرأي، يكون الرأي أثقل مما إذا أعطاه ابتداءً دون طلب استشارة.

بعض الناس يعتقدون أن استشارة النساء من النكبات والمصائب، ويستدلون على ذلك بأحاديث: (شاوروهن وخالفوهن) هذا حديث مشهور عند بعض العوام، مع أن هذا الحديث لا أصل له مرفوعاً، ومعناه خطأ، وكذلك ما يروى عن عمر: [خالفوا النساء فإن في خلافهن البركة] وهذا أيضاً إسناده ضعيف ولا يثبت، والحديث الموضوع الآخر: "طاعة المرأة ندامة"، لأن النساء صحيح أنهن أقل عقلاً، لكن بعض النساء قد تأتي برأي لا يأتي به أكابر الرجال.

مثال ذلك: في حادثة الحديبية أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الناس أن يحلقوا وينحروا بعد أن عقد الاتفاقية مع قريش، ومن الغم ماذا فعل الصحابة؟ لم ينفذوا الأمر، فمن الذي حل المشكلة؟ أم سلمة رضي الله عنها، دخل الرسول صلى الله عليه وسلم عليها مكروباً، كيف يأمر الصحابة ولا ينفذوا؟!. شيء عظيم، فقالت أم سلمة: [يا رسول الله! احلق رأسك أمامهم وانحر هديك وسوف سيتابعوك].

وفعلاً خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ برأي أم سلمة فحلق الصحابة رءوسهم ونحروا هديهم، وكان الذي أتى بالرأي الذي حل هذا الإشكال العظيم أم سلمة ، امرأة لكن ليست كأي امرأة، وهذا يبين لنا أن النساء لسن محتقرات الرأي في الإسلام، ولكن لا يعني الأمر هذا أن الرجل يفلت الزمام للمرأة فتكون هي التي تشير وهو الذي ينفذ، فلا إفراط ولا تفريط، لا احتقار ولا إهانة.

ويروى أن رجلاً كان دائماً يشاور زوجته ويخالفها، فتضايقت منه جداً، وفي يوم من الأيام شاورها في شيء ثم خالفها؛ فثارت في وجهه، فقال: إنما أفعل هذا ديانة، لحديث: (شاوروهن وخالفوهن) لماذا تلوميني؟ فعندما ذهب وسأل تبين له أن الحديث ليس بثابت، وأنه لا يثبت مرفوعاً، فهذه قضية اجتماعية -شرخ في البيت- بسبب هذا الحديث الضعيف أو الموضوع.




استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
اقتضاء العلم العمل 3611 استماع
التوسم والفراسة 3608 استماع
مجزرة بيت حانون 3530 استماع
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] 3496 استماع
اليهودية والإرهابي 3424 استماع
إن أكرمكم عند الله أتقاكم 3424 استماع
حتى يستجاب لك 3393 استماع
المحفزات إلى عمل الخيرات 3370 استماع
ازدد فقهاً بفروض الشريعة 3347 استماع
الزينة والجمال 3335 استماع