الحلال البغيض


الحلقة مفرغة

حمداً لله تعالى حمداً، وشكراً لله تعالى شكراً، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يفجره، ونصلي ونسلم على نبيه ومصطفاه، وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله وعلى آله، وصحبه ومن والاه.

أما بعــد:

عباد الله، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعـد:

فهذا الدرس هو الستون من سلسلة الدروس العلمية العامة، التي تلقى بالجامع الكبير بـبريدة، يلقى في هذه الليلة- ليلة الإثنين- السادس عشر من شهر ذي القعدة، من سنة (1412هـ) عنوانه: (الحلال البغيض).

ترامى إلى مسمعي صوتها المتهدج الباكي، الذي تقطعه الأنات والزفرات، وظللت فترة طويلة أستنطقها فلا أفهم ما تقول، وبعد جهد جهيد علمت أنها مطلقة تسأل عن بعض ما تعاني، ليست هذه حالة فردية ولكنها تتكرر كثيراً، ولا يملك الإنسان أمامها حين لا يعرف التفاصيل والأسباب إلا أن يشارك هذه المرأة الحزينة آلامها وعذابها، وهو يتذكر ما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو داود، وابن ماجة، والبيهقي، والحاكم، وغيرهم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أبغض الحلال إلى الله الطلاق}.

وهذا الحديث روي مرفوعاً متصل الإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وروي مرسلاً، والصواب أنه مرسل عن محارب بن دثار، لا يذكر فيه ابن عمر رضي الله عنه، وهذا ما رجحه جماعة من أئمة الحديث، كـأبي حاتم الرازي، والدارقطني، والبيهقي، والخطابي، والمنذري، والألباني، وغيرهم، ولكن يغني عن هذا الحديث في تقبيح الطلاق وتشنيعه من غير سبب ولا حاجة ما رواه مسلم في صحيحه، في كتاب صفة المنافقين وأحكامهم، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منـزلة أعظمهم فتنة، فيجيء أحدهم -أي: من جنود إبليس- فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول له: ما صنعت شيئاً، ثم يجيء أحدهم، فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين زوجته، فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت -وفي رواية- فيلتزمه} أي: يضمه إليه ويعانقه.

الطلاق ليس شراً محضاً على المرأة

وعلى كل حال، فالطلاق ليس بالضرورة شراً محضاً على المرأة، بل قد يكون خيراً لها وللرجل في حالات كثيرة، وقد يكون نجاةً لها من وضع اجتماعي لا تطيق الصبر عليه، أو من زوج ظالم لا يحترم لها حقاً، ولا يرعى لها حرمةً ولا كرامةً، أو من زوج فاجر لا يخاف الله تعالى ولا يرجوه، فجواره شؤمٌ، وفراقه خير وبر، أو حتى من زوج كتب الله بغضه في قلبها؛ فهي لا تطيقه بحال من الأحوال.

ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أصحاب السنن وأحمد وغيرهم، عن ثوبان رضي الله عنه وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أيما امرأة طلبت الطلاق، أو سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة} ولا شك أن هذا الحديث صريح في تحريم أن تسأل المرأة زوجها أن يطلقها من غير سبب، ولا شك أن بغض المرأة زوجها بغضاً يحول بينها وبين القيام بحقوقه، والوفاء بحاجاته الشرعية، أن هذا سبب وجيه لطلب الطلاق.

ولهذا لما اختلعت حبيبة بنت سهل الأنصارية من زوجها ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {والله يا رسول الله ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام -وكانت تبغضه- فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بطلاقها، وقال: خذ الحديقة وطلقها تطليقة} وكان رجلاً ذميماً، ولكنه كان خطيباً مفوهاً جهير الصوت، وكان من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، شهد معركة أحد وبيعة الرضوان لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18].

ولما قدم وفد تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، افتخروا بأمور، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {قم فأجبهم}.

فقام وتكلم بكلام قوي، فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال بنو تميم: والله لخطيبه أحسن من خطيبنا، وشاعره -يعنون حسان بن ثابت- أحسن من شاعرنا، وقد استشهد هذا الرجل النبيل الفاضل، في معركة اليمامة، في قصة طويلة عجيبة ذكرها أهل السير المهم أن زوجته طلبت منه المخالعة وردت إليه ما أعطاها، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقصته مع زوجته قصة صحيحة، رواها مالك وأبو داود والنسائي وغيرهم، وإسنادها صحيح.

ومن هنا ندرك الخطأ الذي يقع فيه البعض، حين يقول مثلاً: الطلاق ظلم للمرأة، بل إنني أعرف حالات كثيرة، أصبح الطلاق فيها مطلباً ملحاً تحاوله المرأة، ولكن يحول بينها وبينه رجل ظالم متلاعب محتال، يلعب بها يمنة ويسرة ويحتال عليها، فلا تستطيع أن تثبت عند القاضي ما يدعوه إلى إلزام زوجها بالطلاق، مع أن المرأة مستعدة أن تفتدي نفسها من زوجها بالغالي والنفيس، وكما قيل:

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا      وحسب المنايا أن يكن أمانيا<

وعلى كل حال، فالطلاق ليس بالضرورة شراً محضاً على المرأة، بل قد يكون خيراً لها وللرجل في حالات كثيرة، وقد يكون نجاةً لها من وضع اجتماعي لا تطيق الصبر عليه، أو من زوج ظالم لا يحترم لها حقاً، ولا يرعى لها حرمةً ولا كرامةً، أو من زوج فاجر لا يخاف الله تعالى ولا يرجوه، فجواره شؤمٌ، وفراقه خير وبر، أو حتى من زوج كتب الله بغضه في قلبها؛ فهي لا تطيقه بحال من الأحوال.

ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أصحاب السنن وأحمد وغيرهم، عن ثوبان رضي الله عنه وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أيما امرأة طلبت الطلاق، أو سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة} ولا شك أن هذا الحديث صريح في تحريم أن تسأل المرأة زوجها أن يطلقها من غير سبب، ولا شك أن بغض المرأة زوجها بغضاً يحول بينها وبين القيام بحقوقه، والوفاء بحاجاته الشرعية، أن هذا سبب وجيه لطلب الطلاق.

ولهذا لما اختلعت حبيبة بنت سهل الأنصارية من زوجها ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {والله يا رسول الله ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام -وكانت تبغضه- فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بطلاقها، وقال: خذ الحديقة وطلقها تطليقة} وكان رجلاً ذميماً، ولكنه كان خطيباً مفوهاً جهير الصوت، وكان من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، شهد معركة أحد وبيعة الرضوان لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18].

ولما قدم وفد تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، افتخروا بأمور، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {قم فأجبهم}.

فقام وتكلم بكلام قوي، فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال بنو تميم: والله لخطيبه أحسن من خطيبنا، وشاعره -يعنون حسان بن ثابت- أحسن من شاعرنا، وقد استشهد هذا الرجل النبيل الفاضل، في معركة اليمامة، في قصة طويلة عجيبة ذكرها أهل السير المهم أن زوجته طلبت منه المخالعة وردت إليه ما أعطاها، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقصته مع زوجته قصة صحيحة، رواها مالك وأبو داود والنسائي وغيرهم، وإسنادها صحيح.

ومن هنا ندرك الخطأ الذي يقع فيه البعض، حين يقول مثلاً: الطلاق ظلم للمرأة، بل إنني أعرف حالات كثيرة، أصبح الطلاق فيها مطلباً ملحاً تحاوله المرأة، ولكن يحول بينها وبينه رجل ظالم متلاعب محتال، يلعب بها يمنة ويسرة ويحتال عليها، فلا تستطيع أن تثبت عند القاضي ما يدعوه إلى إلزام زوجها بالطلاق، مع أن المرأة مستعدة أن تفتدي نفسها من زوجها بالغالي والنفيس، وكما قيل:

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا      وحسب المنايا أن يكن أمانيا<

الطلاق قرين النكاح منذ أول البشرية: ولهذا يقول فولتير: إن الطلاق وجد في العالم مع الزواج في زمن واحد تقريباً، غير أني أظن أن الزواج أقدم من الطلاق ببضعة أسابيع، بمعنى أن الرجل ناقش زوجته بعد أسبوعين من الزواج، ثم ضربها في الأسبوع الثالث، ثم طلقها في الأسبوع الرابع.

حال المرأة قبل الإسلام

وعلى كل حال، ففي كثير من الجاهليات كان الطلاق مشروعاً بلا عَدد ولا عُدد، فيطلق الرجل زوجته ثلاثاً وعشراً ومائة، ودون أن يكون لذلك عدة في التفريق بين الأزواج المتعاقبين.

ففي جاهلية العرب -مثلاً- عرف الناس العضل، وهو: أن الزوج بعد ما يطلق الزوجة، قد يعضلها ويمنعها من الزواج بغيره، ولهذا نهى الله تعالى عن ذلك، وقال: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232] فقد يعضلها قريبها أو أبوها أو أخوها، وحتى الزوج أحياناً قد يمنعها، فلا تنكح من بعده إلا بإذنه.

وكذلك التعليق: أن يعلق الرجل المرأة، فليست بالزوجة، وليست بالمطلقة، وهذا أيضاً مما نهى الله عنه ورسوله، فقال تعالى: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ [النساء:129] وجاء له ذكر في القصة المعروفة، في حديث أم زرع، فكانت إحداهن - وهن إحدى عشرة امرأة اجتمعن فتعاقدن وتعاهدن على ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً- والحديث في صحيح البخاري، فكانت إحداهن تقول: زوجي العشنق، إن أسكت أعلق، وإن أنطق أطلق، فهي لا مخرج لها من أحد هذين الأمرين.

ومثله أيضاً الظهار، كان معروفاً في الجاهلية، يقول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، ولما حدث هذا في الإسلام، وسألت خولة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: {ما أراك إلا قد حرمت عليه، فأنـزل الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة:1]} ثم بين الله تعالى كفارة الظهار المعروفة في القرآن.

ومثله الإرث أيضاً، فكان الرجل يرث المرأة، يرثها كما يورث المتاع، ويضع عليها إن أعجبته رداءه أو ثوبه، فتكون له، ولا تملك أن تنكح غيره.

ومن طرائف أخبار أهل الجاهلية، بل أخبار أهل الإسلام الذين تأثروا بالجاهلية وورثوا بعض عاداتهم، ولم يستقيموا على أمر الإسلام، من طرائفهم في الطلاق -أمر عجيب في التلاعب به وإيقاعه لأدنى سبب- ما قاله الأصمعي لـهارون الرشيد: إن رجلاً من العرب طلق خمس نسوة في مجلس واحد. فضحك الرشيد، وقال له: كيف وإنما ينكح الرجل في الإسلام أربع نسوة لا خمساً؟ فقال له الأصمعي: كان رجلاً أحمق فدخل على نسائه، أربع نسوة، وهن متلاحيات فيما بينهن -بينهن خصومة وجدل وقيل وقال وارتفاع الأصوات- فنظر إلى إحداهن، وقال: والله ما أظن هذا الأمر إلا من قبلك يا فلانة، اذهبي فأنت طالق! فقامت إحداهن، وقالت: والله لقد عجلت عليها بالطلاق يا فلان، فلو أدبتها بغيره لكان حقيقاً لك ذلك. فقال: وأنت طالق أيضاً! فقالت الثالثة: قبحك الله! لقد كانتا محسنتين إليك مفضلتين عليك. فقال: وأنت أيضاً أيها المعددة أياديهما طالق!. فقامت الرابعة، وقالت: ضاق صدرك عن نسائك إلا بالطلاق. قال: وأنت تبع لهن! وكانت جارة من جاراته تسمع هذا الخبر وتسمع الأمر، فلما سمعت طلاقه لزوجاته الأربع، أشرفت عليه من طرف الدار، وقالت له: والله لقد شهد العرب عليك وعلى قومك بالضعف؛ لما عرفوا عليك وعنك من العجلة وسوء الخلق. وقال: وأنت أيضاً أيها المؤبنة المؤنبة المتكلفة، أنت طالق إن أجاز زوجك هذا. فناداه زوجها من أقصى الدار يقول: قد أجزت! قد أجزت!

وطلق رجل زوجته بعد خمسين سنة، وهذا ممن تأثروا بآثار الجاهلية. فقالت له: أبعد خمسين سنة تطلقني؟ فقال: والله ما أعيب عليك إلا هذا! أي: ما طلقها إلا لطول مكثها معه.

يريد الفتى طول السلامة جاهداً      فكيف ترى طول السلامة يفعل<

وعلى كل حال، ففي كثير من الجاهليات كان الطلاق مشروعاً بلا عَدد ولا عُدد، فيطلق الرجل زوجته ثلاثاً وعشراً ومائة، ودون أن يكون لذلك عدة في التفريق بين الأزواج المتعاقبين.

ففي جاهلية العرب -مثلاً- عرف الناس العضل، وهو: أن الزوج بعد ما يطلق الزوجة، قد يعضلها ويمنعها من الزواج بغيره، ولهذا نهى الله تعالى عن ذلك، وقال: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232] فقد يعضلها قريبها أو أبوها أو أخوها، وحتى الزوج أحياناً قد يمنعها، فلا تنكح من بعده إلا بإذنه.

وكذلك التعليق: أن يعلق الرجل المرأة، فليست بالزوجة، وليست بالمطلقة، وهذا أيضاً مما نهى الله عنه ورسوله، فقال تعالى: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ [النساء:129] وجاء له ذكر في القصة المعروفة، في حديث أم زرع، فكانت إحداهن - وهن إحدى عشرة امرأة اجتمعن فتعاقدن وتعاهدن على ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً- والحديث في صحيح البخاري، فكانت إحداهن تقول: زوجي العشنق، إن أسكت أعلق، وإن أنطق أطلق، فهي لا مخرج لها من أحد هذين الأمرين.

ومثله أيضاً الظهار، كان معروفاً في الجاهلية، يقول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، ولما حدث هذا في الإسلام، وسألت خولة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: {ما أراك إلا قد حرمت عليه، فأنـزل الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة:1]} ثم بين الله تعالى كفارة الظهار المعروفة في القرآن.

ومثله الإرث أيضاً، فكان الرجل يرث المرأة، يرثها كما يورث المتاع، ويضع عليها إن أعجبته رداءه أو ثوبه، فتكون له، ولا تملك أن تنكح غيره.

ومن طرائف أخبار أهل الجاهلية، بل أخبار أهل الإسلام الذين تأثروا بالجاهلية وورثوا بعض عاداتهم، ولم يستقيموا على أمر الإسلام، من طرائفهم في الطلاق -أمر عجيب في التلاعب به وإيقاعه لأدنى سبب- ما قاله الأصمعي لـهارون الرشيد: إن رجلاً من العرب طلق خمس نسوة في مجلس واحد. فضحك الرشيد، وقال له: كيف وإنما ينكح الرجل في الإسلام أربع نسوة لا خمساً؟ فقال له الأصمعي: كان رجلاً أحمق فدخل على نسائه، أربع نسوة، وهن متلاحيات فيما بينهن -بينهن خصومة وجدل وقيل وقال وارتفاع الأصوات- فنظر إلى إحداهن، وقال: والله ما أظن هذا الأمر إلا من قبلك يا فلانة، اذهبي فأنت طالق! فقامت إحداهن، وقالت: والله لقد عجلت عليها بالطلاق يا فلان، فلو أدبتها بغيره لكان حقيقاً لك ذلك. فقال: وأنت طالق أيضاً! فقالت الثالثة: قبحك الله! لقد كانتا محسنتين إليك مفضلتين عليك. فقال: وأنت أيضاً أيها المعددة أياديهما طالق!. فقامت الرابعة، وقالت: ضاق صدرك عن نسائك إلا بالطلاق. قال: وأنت تبع لهن! وكانت جارة من جاراته تسمع هذا الخبر وتسمع الأمر، فلما سمعت طلاقه لزوجاته الأربع، أشرفت عليه من طرف الدار، وقالت له: والله لقد شهد العرب عليك وعلى قومك بالضعف؛ لما عرفوا عليك وعنك من العجلة وسوء الخلق. وقال: وأنت أيضاً أيها المؤبنة المؤنبة المتكلفة، أنت طالق إن أجاز زوجك هذا. فناداه زوجها من أقصى الدار يقول: قد أجزت! قد أجزت!

وطلق رجل زوجته بعد خمسين سنة، وهذا ممن تأثروا بآثار الجاهلية. فقالت له: أبعد خمسين سنة تطلقني؟ فقال: والله ما أعيب عليك إلا هذا! أي: ما طلقها إلا لطول مكثها معه.

يريد الفتى طول السلامة جاهداً      فكيف ترى طول السلامة يفعل<

ولما جاء الإسلام حفظ حقوق المرأة، ونظم العلاقة بين الزوجين، ووضع الضوابط الكثيرة لاستمرار الحياة الزوجية:

التسامح بين الزوجين

أولاً: شرع الإسلام التسامح بين الزوجين، وتغافل كل منهما عما قد يبدر الآخر في حالة الغضب أو الانفعال أو غير ذلك، حتى قال أبو الدرداء رضي الله عنه، وهو نموذج لمن تأدبوا بأدب الإسلام وتخلقوا بخلقه، وتربوا على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أصحاب محمد عليه الصلاة السلام - أبطالاً في المعارك فقط، بل كانوا أبطالاً في كل حال، حتى إن الواحد منهم في معاملته مع أزواجه، كان نموذجاً للكمال والمروءة والرجولة وجميل الخصال، فـأبو الدرداء يقول لزوجته: [[إذا رأيتني قد غضبت فترضيني، وإذا رأيتك أنا قد غضبت فإنني أترضاك، وإن لم نفعل فإننا لا نصطحب]] فقال الزهري تعليقاً على هذا الخبر: وهكذا تكون الإخوان، تتحمل مني في حال الغضب، وأتحمل منك في حال الغضب.

وهذا ما شرعه الله تعالى في قوله: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:229] فإن الإمساك بمعروف: هو الإحسان إلى المرأة، بتحمل ما قد يبدر منها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: {لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر} فقد تجد فيها نقصاً في جانب، يسدد في جانب آخر، أو تجد منها خلة في وقت، ولكن تجد منها في وقت آخر ما يغطي على هذا ويمسحه ويزيله.

ومن أروع وأجمل النماذج في الإمساك بمعروف والتسامح بين الزوجين، ما جاء في قصة أم زرع، التي ذكرتها قبل قليل، وقد روتها عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم، فعقب عليها عليه الصلاة والسلام بقوله لـعائشة {كنت لك كـأبي زرع لـأم زرع، غير أني لا أطلق} جاء هذا في رواية. فكيف كان أبو زرع لـأم زرع؟ وكيف كانت هي له؟ تقول أم زرع -وهي المرأة الحادية عشرة من ذلك المؤتمر الذي عقد في الجاهلية -تقول في صفة زوجها وقد بدأت به وبحالها معه. فقالت: {أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إلي نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق -أي أهلها كانوا فقراء معزولين- فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق- أي خيل وجمال وإبل وزرع وغير ذلك -فعنده أقول فلا أقبح- أي لا يقول: كلامك هذا غير جيد أو يرده عليها، بل يحسن لها ما تقول- أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقمح، وآكل فأتمنح} فهو أعطاها كل ما تريد، من المأكل والمشرب، والراحة في بيتها، وتطييب خاطرها بالقول والفعل.

لما ذكرت معاملتها له، وكلامها هذا بعد ما طلقها، قالت: أم أبي زرع فما أم أبي زرع؟! عكومها رداح، وبيتها فساح، ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع؟! منامه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة، بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع؟! طوع أبيها وطوع أمها، وغيظ جارتها، وملء إهابها -تصفها بالكمال في خلقها وجسمها وطاعتها لوالديها- جارية أبي زرع -خادمته- فما جارية أبي زرع قالت: لا تنقث ميرتنا تنقيثا، ولا تبث حديثنا تبثيثا ولا تملأ بيتنا تعثيثا، أي نظيفة وخدومة وأمينة على السر وعلى الكلام وعلى متاع البيت، حتى ذكرت ضيف أبي زرع، وهذا كلام امرأة تحب زوجها وتعلقت به، ولذلك فهي تثني عليه وعلى أمه وعلى ولده وعلى بنته وعلى خادمه وعلى ضيفه وعلى كل شيء.

ثم ذكرت أن أبا زرع هذا، خرج يوماً والأوطاب تمخض، فرأى امرأة فأعجبته، فطلق أم زرع ونكحها، ثم تزوجت أم زرع بعده رجلاً آخر، فأعطاها من كل شيء من المال وغيره، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك. أي أعطيهم، قالت: فوالله لو جمعت كل ما أعطاني، ما بلغ إناءً من آنية أبي زرع، لأنه كما قيل:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى     ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منـزل في الأرض يألفه الفتى      وحنينه أبداً لأول منـزل

فالرسول عليه الصلاة والسلام قال لـعائشة: {كنت لك كـأبي زرع لـأم زرع } أي: أنه صلى الله عليه وسلم، كان يسارع فيما تحب عائشة رضي الله عنها وتهوى، وكان يُسأل: من أحب الناس إليك؟ فيقول:{عائشة. فيقال: ومن الرجال؟ فيقول: أبوها} فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بأساً أن يبوح بمحبته لـعائشة، ولم ير بأساً بذكرها واسمها، مع أن كثيراً من الناس يرون الآن أن ذكر اسم الزوجة عيب وعار يستحى منه، وأن البوح بمحبتها ومكانتها في القلب هو عيب وعار آخر، وهذا ليس من أمر الإسلام.

وعلى كل حال؛ فقد شرع الإسلام التسامح بين الزوجين:

أولاً: وعظ المرأة وتذكيرها.

ثانياً: شرع الإسلام للزوج حين يرى من زوجته مالا يحب ولا يرضى، أن يعظها بالقرآن والحديث والتذكير، وبالأمر وبالنهي، وغير ذلك مما يكون فيه أمر لها وتذكير لها بما يجب عليها، كما قال الله تعالى: فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، فإن أجدى الوعظ كفى، وإن لم يجدِ الوعظ، فإنه يمكن أن ينتقل بعد ذلك إلى الهجر، يهجرها في المضجع ويعرض عنها، فإن لم يجدِ، فإنه يضربها ضرباً غير مبرح، كما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يجدِ ذلك، فإنه يمكن أن ينتقل إلى قول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35].

إذاً يجب عدم إدخال أي طرف آخر، إلا حينما يتعذر الإصلاح عن طريق الزوجين فقط، فإذا لم يجدِ الإصلاح بينهما عن طريق المناقشة، أو عن طريق الوعظ، أو عن طريق الهجر، أو عن طريق الضرب الغير مبرح، فحينئذٍ يمكن أن يدخلا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، وإذا أراد هذان الحكمان الإصلاح وفق الله بينهما قال تعالى: إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35] ولذلك يبقى الطلاق هو آخر الحلول، وآخر الدواء الكي.

وليس الطلاق كلمة تقال في لحظة انفعال أو غضب، فهذا لا يفعله عقلاء الرجال، ولكنه قرار مدروس محكم، يتخذه الزوج، بل ربما يتخذه الزوجان بالاشتراك بعد طول دراسة وتأني، ولهذا حرم الله تعالى -مثلاً- طلاق الحائض، وحرم أيضاً طلاق المرأة إذا كانت في طهر جامعها فيه، فلا يحل للرجل أن يطلق امرأته إلا في طهر لم يجامعها فيه، وهنا لا يكون الرجل طلقها في ساعة انفعال، بل انتظر حتى تطهر -مثلاً- إن كانت حائضاً، أو حتى تحيض ثم تطهر إن كان جامعها في ذلك الطهر، ثم هو في الطهر قد يكون متطلعاً إليها، مشتاقاً إلى معاشرتها، فلا يوقع الطلاق حينئذٍ، وهنا يكون الطلاق حلاً لمشكلة قائمة، لا صبر لهما أو لأحدهما عليها.

قال الأصمعي: كنت أغدو إلى رجل من الأعراب؛ أقتبس منه بعض الغريب، وأسأله عن بعض الكلمات التي لا أعرف معناها، قال: وكان كثيراً ما يذكر عندي أمامة وهو اسم زوجته، فدخلت عليه مرات فوجدته لا يذكرها، فقلت له: رأيتك لا تذكر أمامة، فأنشأ يقول:

ظعنتأمامة بالطلاقِ     ونجوت من غل الوثاقِ

بانت فلم يألم لها      قلبي ولم تدمع مآق

ودواء ما لا تشتهيـه      النفس تعجيل الفراق

والعيش ليس يطيب بين      اثنين من غير اتفاق

لو لم أُرَحْ بفراقها      لأرحت نفسي بالإباق

أي: لو لم أطلقها؛ لهربت من البلاد؛ لأن الحياة بينهما كانت أمراً صعب الاحتمال.

ومما يذكر في أخبار العجم: أن رجلاً منهم يقال له بولس طلق زوجته، وأراد بعض أصدقائه رده عن ذلك، وأثنوا عليها بأنها امرأة جميلة عاقلة ولود، فقال لهم: حذائي جديد، جيد الصنع، ومع ذلك فأنا مضطر إلى تغييره، ليس هناك أحد سواي يعلم أين يؤلمني.. بغض النظر عن هذه الكلمة، لأنها كلمة من رجل جاهلي، فلهذا لا غرابة أن يشبه المرأة بالحذاء، ولكنه أشار إلى معنى قد يوجد عند الكثيرين، وهو أنه يقول: هناك مشكلة قائمة بيني وبين زوجتي، هذه المشكلة من الصعب أن يدركها الناس؛ لأنها قضية دقيقة خفية، لا أحد يعرف من أين يأتيني الألم!

الطلاق في كثير من البلاد ليس بيد الرجل

وفي كثير من البلاد لا أقول البلاد الغربية؛ بل حتى الإسلامية قد حرموا الطلاق ومنعوه، وجعلوا الطلاق إلى القاضي، فلا يملك الرجل إيقاع الطلاق إلا عند القاضي، بعد ما يثبت أن هناك ما يدعو إليه، وهذا الأمر يفضي إلى المضارة والمضايقة والمكايدة بين الزوجين، فالمرأة قد تضايق الزوج وتكايده، والزوج أيضاً يضايق المرأة ويكايدها، بل يصل الأمر في كثير من الأحيان إلى الضرب، بل إلى القتل، وعندي كثير من القصاصات الصحفية في بلاد الغرب، بل في بلاد العرب في مصر وفي غيرها، تتكلم عن رجال قتلوا أزواجهم، أو عن نساء قتلن أزواجهن؛ لأنه لم يكن هناك حل لفصم عرى الزوجية إلا القتل!

ولعله من المعروف الموافق للفطرة وللشريعة أيضاً، أن يكون الطلاق بيد من بيده عقدة النكاح وهو الرجل، فهو الطالب أصلاً، وهو الخاطب، وهو الباذل، وهو المنفق؛ ولذلك كان أمر الطلاق إليه في شريعة الله عز وجل، قال الحسن بن علي بن الحسين لزوجته يوماً من الأيام، وهي عائشة بنت طلحة، قال لها: [[أمرك بيدك. -أي إن شئت أن تطلقي فاطلقي- فقالت له: قد كان أمري بيدك عشرين سنة، فأحسنت حفظه، فلماذا أضيعه الآن إن وضعته بيدي ساعة من نهار؟ أنا قد صرفته إليك الآن وأرجعته إليك]] فأعجب بهذا العمل وأمسكها، وكان قد سخط عليها.

أولاً: شرع الإسلام التسامح بين الزوجين، وتغافل كل منهما عما قد يبدر الآخر في حالة الغضب أو الانفعال أو غير ذلك، حتى قال أبو الدرداء رضي الله عنه، وهو نموذج لمن تأدبوا بأدب الإسلام وتخلقوا بخلقه، وتربوا على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أصحاب محمد عليه الصلاة السلام - أبطالاً في المعارك فقط، بل كانوا أبطالاً في كل حال، حتى إن الواحد منهم في معاملته مع أزواجه، كان نموذجاً للكمال والمروءة والرجولة وجميل الخصال، فـأبو الدرداء يقول لزوجته: [[إذا رأيتني قد غضبت فترضيني، وإذا رأيتك أنا قد غضبت فإنني أترضاك، وإن لم نفعل فإننا لا نصطحب]] فقال الزهري تعليقاً على هذا الخبر: وهكذا تكون الإخوان، تتحمل مني في حال الغضب، وأتحمل منك في حال الغضب.

وهذا ما شرعه الله تعالى في قوله: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:229] فإن الإمساك بمعروف: هو الإحسان إلى المرأة، بتحمل ما قد يبدر منها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: {لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر} فقد تجد فيها نقصاً في جانب، يسدد في جانب آخر، أو تجد منها خلة في وقت، ولكن تجد منها في وقت آخر ما يغطي على هذا ويمسحه ويزيله.

ومن أروع وأجمل النماذج في الإمساك بمعروف والتسامح بين الزوجين، ما جاء في قصة أم زرع، التي ذكرتها قبل قليل، وقد روتها عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم، فعقب عليها عليه الصلاة والسلام بقوله لـعائشة {كنت لك كـأبي زرع لـأم زرع، غير أني لا أطلق} جاء هذا في رواية. فكيف كان أبو زرع لـأم زرع؟ وكيف كانت هي له؟ تقول أم زرع -وهي المرأة الحادية عشرة من ذلك المؤتمر الذي عقد في الجاهلية -تقول في صفة زوجها وقد بدأت به وبحالها معه. فقالت: {أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إلي نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق -أي أهلها كانوا فقراء معزولين- فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق- أي خيل وجمال وإبل وزرع وغير ذلك -فعنده أقول فلا أقبح- أي لا يقول: كلامك هذا غير جيد أو يرده عليها، بل يحسن لها ما تقول- أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقمح، وآكل فأتمنح} فهو أعطاها كل ما تريد، من المأكل والمشرب، والراحة في بيتها، وتطييب خاطرها بالقول والفعل.

لما ذكرت معاملتها له، وكلامها هذا بعد ما طلقها، قالت: أم أبي زرع فما أم أبي زرع؟! عكومها رداح، وبيتها فساح، ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع؟! منامه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة، بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع؟! طوع أبيها وطوع أمها، وغيظ جارتها، وملء إهابها -تصفها بالكمال في خلقها وجسمها وطاعتها لوالديها- جارية أبي زرع -خادمته- فما جارية أبي زرع قالت: لا تنقث ميرتنا تنقيثا، ولا تبث حديثنا تبثيثا ولا تملأ بيتنا تعثيثا، أي نظيفة وخدومة وأمينة على السر وعلى الكلام وعلى متاع البيت، حتى ذكرت ضيف أبي زرع، وهذا كلام امرأة تحب زوجها وتعلقت به، ولذلك فهي تثني عليه وعلى أمه وعلى ولده وعلى بنته وعلى خادمه وعلى ضيفه وعلى كل شيء.

ثم ذكرت أن أبا زرع هذا، خرج يوماً والأوطاب تمخض، فرأى امرأة فأعجبته، فطلق أم زرع ونكحها، ثم تزوجت أم زرع بعده رجلاً آخر، فأعطاها من كل شيء من المال وغيره، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك. أي أعطيهم، قالت: فوالله لو جمعت كل ما أعطاني، ما بلغ إناءً من آنية أبي زرع، لأنه كما قيل:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى     ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منـزل في الأرض يألفه الفتى      وحنينه أبداً لأول منـزل

فالرسول عليه الصلاة والسلام قال لـعائشة: {كنت لك كـأبي زرع لـأم زرع } أي: أنه صلى الله عليه وسلم، كان يسارع فيما تحب عائشة رضي الله عنها وتهوى، وكان يُسأل: من أحب الناس إليك؟ فيقول:{عائشة. فيقال: ومن الرجال؟ فيقول: أبوها} فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بأساً أن يبوح بمحبته لـعائشة، ولم ير بأساً بذكرها واسمها، مع أن كثيراً من الناس يرون الآن أن ذكر اسم الزوجة عيب وعار يستحى منه، وأن البوح بمحبتها ومكانتها في القلب هو عيب وعار آخر، وهذا ليس من أمر الإسلام.

وعلى كل حال؛ فقد شرع الإسلام التسامح بين الزوجين:

أولاً: وعظ المرأة وتذكيرها.

ثانياً: شرع الإسلام للزوج حين يرى من زوجته مالا يحب ولا يرضى، أن يعظها بالقرآن والحديث والتذكير، وبالأمر وبالنهي، وغير ذلك مما يكون فيه أمر لها وتذكير لها بما يجب عليها، كما قال الله تعالى: فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، فإن أجدى الوعظ كفى، وإن لم يجدِ الوعظ، فإنه يمكن أن ينتقل بعد ذلك إلى الهجر، يهجرها في المضجع ويعرض عنها، فإن لم يجدِ، فإنه يضربها ضرباً غير مبرح، كما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يجدِ ذلك، فإنه يمكن أن ينتقل إلى قول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35].

إذاً يجب عدم إدخال أي طرف آخر، إلا حينما يتعذر الإصلاح عن طريق الزوجين فقط، فإذا لم يجدِ الإصلاح بينهما عن طريق المناقشة، أو عن طريق الوعظ، أو عن طريق الهجر، أو عن طريق الضرب الغير مبرح، فحينئذٍ يمكن أن يدخلا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، وإذا أراد هذان الحكمان الإصلاح وفق الله بينهما قال تعالى: إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35] ولذلك يبقى الطلاق هو آخر الحلول، وآخر الدواء الكي.

وليس الطلاق كلمة تقال في لحظة انفعال أو غضب، فهذا لا يفعله عقلاء الرجال، ولكنه قرار مدروس محكم، يتخذه الزوج، بل ربما يتخذه الزوجان بالاشتراك بعد طول دراسة وتأني، ولهذا حرم الله تعالى -مثلاً- طلاق الحائض، وحرم أيضاً طلاق المرأة إذا كانت في طهر جامعها فيه، فلا يحل للرجل أن يطلق امرأته إلا في طهر لم يجامعها فيه، وهنا لا يكون الرجل طلقها في ساعة انفعال، بل انتظر حتى تطهر -مثلاً- إن كانت حائضاً، أو حتى تحيض ثم تطهر إن كان جامعها في ذلك الطهر، ثم هو في الطهر قد يكون متطلعاً إليها، مشتاقاً إلى معاشرتها، فلا يوقع الطلاق حينئذٍ، وهنا يكون الطلاق حلاً لمشكلة قائمة، لا صبر لهما أو لأحدهما عليها.

قال الأصمعي: كنت أغدو إلى رجل من الأعراب؛ أقتبس منه بعض الغريب، وأسأله عن بعض الكلمات التي لا أعرف معناها، قال: وكان كثيراً ما يذكر عندي أمامة وهو اسم زوجته، فدخلت عليه مرات فوجدته لا يذكرها، فقلت له: رأيتك لا تذكر أمامة، فأنشأ يقول:

ظعنتأمامة بالطلاقِ     ونجوت من غل الوثاقِ

بانت فلم يألم لها      قلبي ولم تدمع مآق

ودواء ما لا تشتهيـه      النفس تعجيل الفراق

والعيش ليس يطيب بين      اثنين من غير اتفاق

لو لم أُرَحْ بفراقها      لأرحت نفسي بالإباق

أي: لو لم أطلقها؛ لهربت من البلاد؛ لأن الحياة بينهما كانت أمراً صعب الاحتمال.

ومما يذكر في أخبار العجم: أن رجلاً منهم يقال له بولس طلق زوجته، وأراد بعض أصدقائه رده عن ذلك، وأثنوا عليها بأنها امرأة جميلة عاقلة ولود، فقال لهم: حذائي جديد، جيد الصنع، ومع ذلك فأنا مضطر إلى تغييره، ليس هناك أحد سواي يعلم أين يؤلمني.. بغض النظر عن هذه الكلمة، لأنها كلمة من رجل جاهلي، فلهذا لا غرابة أن يشبه المرأة بالحذاء، ولكنه أشار إلى معنى قد يوجد عند الكثيرين، وهو أنه يقول: هناك مشكلة قائمة بيني وبين زوجتي، هذه المشكلة من الصعب أن يدركها الناس؛ لأنها قضية دقيقة خفية، لا أحد يعرف من أين يأتيني الألم!

وفي كثير من البلاد لا أقول البلاد الغربية؛ بل حتى الإسلامية قد حرموا الطلاق ومنعوه، وجعلوا الطلاق إلى القاضي، فلا يملك الرجل إيقاع الطلاق إلا عند القاضي، بعد ما يثبت أن هناك ما يدعو إليه، وهذا الأمر يفضي إلى المضارة والمضايقة والمكايدة بين الزوجين، فالمرأة قد تضايق الزوج وتكايده، والزوج أيضاً يضايق المرأة ويكايدها، بل يصل الأمر في كثير من الأحيان إلى الضرب، بل إلى القتل، وعندي كثير من القصاصات الصحفية في بلاد الغرب، بل في بلاد العرب في مصر وفي غيرها، تتكلم عن رجال قتلوا أزواجهم، أو عن نساء قتلن أزواجهن؛ لأنه لم يكن هناك حل لفصم عرى الزوجية إلا القتل!

ولعله من المعروف الموافق للفطرة وللشريعة أيضاً، أن يكون الطلاق بيد من بيده عقدة النكاح وهو الرجل، فهو الطالب أصلاً، وهو الخاطب، وهو الباذل، وهو المنفق؛ ولذلك كان أمر الطلاق إليه في شريعة الله عز وجل، قال الحسن بن علي بن الحسين لزوجته يوماً من الأيام، وهي عائشة بنت طلحة، قال لها: [[أمرك بيدك. -أي إن شئت أن تطلقي فاطلقي- فقالت له: قد كان أمري بيدك عشرين سنة، فأحسنت حفظه، فلماذا أضيعه الآن إن وضعته بيدي ساعة من نهار؟ أنا قد صرفته إليك الآن وأرجعته إليك]] فأعجب بهذا العمل وأمسكها، وكان قد سخط عليها.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5118 استماع
حديث الهجرة 5007 استماع
تلك الرسل 4155 استماع
الصومال الجريح 4146 استماع
مصير المترفين 4123 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4052 استماع
وقفات مع سورة ق 3976 استماع
مقياس الربح والخسارة 3929 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3872 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3833 استماع