عشر وقفات بعد رمضان


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

عباد الله: لقد مر ذلك الشهر الكريم وانقضى رمضان وولى عنا، فواحزناه على ذلك الشهر الذي تولى! ووا أسفاه على رمضان الذي انقضى! ولكن السعيد من كان قد استودعه الأعمال الصالحة، والشقي من ضيع حق رمضان، وبعد انقضاء الشهر لنا وقفات نقفها في هذا الموقف حول رمضان الذي انقضى.

الوقفة الأولى: من الذي استفاد من رمضان؟

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وقال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

وقال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

فمغفرة الذنوب لهذه الأسباب الثلاثة، كل واحدٌ منها مكفرٌ لما سلف من الذنوب، وهي صيام رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر، فتحصل المغفرة والتكفير بقيام ليلة القدر ولمن وقعت له وأصابها، سواء شعر بها أم لم يشعر.

أما في صيام رمضان وقيامه فيتوقف التكفير بهما على تمام الشهر، فإذا تم الشهر فقد كمل للمؤمن صيام رمضان وقيامه، فيترتب على ذلك مغفرة ما تقدم من ذنبه، ومن نقص من العمل الذي عليه نُقص له من الأجر بحسب نقصه، فلا يلومن إلا نفسه.

الصلاة مكيال، والصيام مكيال؛ فمن وفاها وفّى الله له، ومن طفف فيهما فويلٌ للمطففين، أما يستحي من يستوفي مكيال شهواته، ويطفف في مكيال صيامه وصلاته؟ إذا كان الويل لمن طفف في مكيال الدنيا: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:1-3] فكيف حال من طفف مكيال الدين؟! فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5].

وهذا الويل لمن طفف، فكيف حال الذي فرط بالكلية؟ كيف حال الذي لم يقم ولم يصم وهم أعداد ممن ينتسبون إلى الإسلام؟!

ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدركه رمضان فلم يغفر له، فأبعده الله -وقالها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم- ثم قال له: قل آمين، فقلت: آمين) دعاءٌ عليه بالإبعاد عن رحمة الله والطرد عنها؛ لأن ذلك الشهر قد مر ولم يستفد منه؛ لأن ذلك الموسم العظيم قد حصل ولم ينهل منه، لم ينتهز الفرصة فتباً له.

وإذا كان لم ينتهز الفرصة العظيمة فهو لإهمال ما هو أدنى منها من باب أولى، أي: إذا فرط في رمضان فتفريطه في غير رمضان من باب أولى، ولذلك أبعده الله؛ لأنه لا يستحق أجره، ولا يستحق الرحمة ولا المغفرة، ولا شك أيها المسلمون! أننا قد حصل منا تطفيف بالصيام والقيام، وقد حصل منا إخلالٌ بآداب الصوم الواجبة والمستحبة.

الوقفة الثانية: التوبة من التقصير في العبادة

وهذا ما يدفعنا للوقفة الثانية وهي: توبة المقصر في صيامه وصلاته، والاستغفار عما مضى من الإخلال والتفريط في حق الله تعالى، وحق ذلك الشهر الذي انقضى ولم نستفد منه كما ينبغي: الاستغفار وهو الدعاء بالمغفرة، وقد جاء في حديث أبي هريرة : (يغفر فيه إلا لمن أبى، قالوا يا أبا هريرة ! ومن يأبى؟ قال: من أبى أن يستغفر الله عز وجل) قال الحسن رحمه الله: [أكثروا من الاستغفار، فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة] وقال واحدٌ ممن مضى لولده: يا بني! عوَّد لسانك الاستغفار، فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائله.

وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار في قوله عز وجل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] فعطف هذا على هذا مبيناً أهميته.

قال إبليس: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار.

والاستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها، فتختم به الصلاة والحج وقيام الليل، وتختم به المجالس، فإن كانت مجالس ذكر كانت كالطابع عليها، وإن كانت مجالس لغوٍ كانت كفارة لها لما حصل فيها، فكذلك ينبغي أن يختم صيام رمضان بالاستغفار.

كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة -صدقة الفطر- فإن صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، والاستغفار يرفع ما حصل من الخروق في الصيام باللغو والرفث.

وقال بعض أهل العلم: إن صدقة الفطر للصائم كسجدتي السهو.

وقال عمر بن عبد العزيز في كتابه: " قولوا كما قال أبوكم آدم: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] وقولوا كما قال نوحٌ عليه السلام: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود:47] وقولوا كما قال إبراهيم عليه السلام: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82] وقولوا كما قال موسى عليه السلام: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16] وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] صيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع وعملٍ صالح له شافع، كم نخرق من صيامنا بسهام الكلام ثم نرقعه وقد اتسع الخرق على الراقع، كم نرفو خروقه بمخيط الحسنات، ثم نقطعه بحسام السيئات القاطع ".

كان بعض السلف إذا صلى صلاةً استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه، إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم، فكيف حال المسيئين؟

أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة، والتوبة حل عقدة الإصرار على الذنب، فمن استغفر بلسانه وقلبه عن المعصية زالت، ومن كان عزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد رمضان ويعود فهذا صدقه غير موجود وباب القبول عنه مسدود، وصومه عليه مردود، يصوم ويقوم ويتابع على المعاصي كيف يكون ذلك؟!

فالمهم أيها المسلمون أن نكثر من الاستغفار بعد هذا الشهر، علَّ الله أن يتجاوز عنا إسرافنا وتفريطنا وما حصل منا من المعاصي والسيئات في ذلك الشهر الذي تعظم فيه السيئة لفضله وشرفه.

الوقفة الثالثة: (إنما يتقبل الله من المتقين)

لقد مضت الأعمال، والصيام، والقيام، والزكاة، والصدقة، وختم القرآن، والدعاء، والذكر، وتفطير الصائم، وأنواع البر التي حصلت، والعمرة التي قام بها الكثير، لكن هل تقبلت أم لا؟ هل قبل العمل أم لا؟ يقول الله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].

كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من رده، وهؤلاء الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، يعطي ويخشى ألا يقبل منه، يتصدق ويخشى أن ترد عليه، يصوم ويقوم ويخشى ألا يكتب له الأجر.

قال بعض السلف : " كانوا لقبول العمل أشد منهم اهتماماً بالعمل ذاته، ألم تسمعوا قول الله عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] " فغير المتقين ما هو حالهم؟

وعن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبةٍ من خردل، أحب إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]!

يقول بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني ركعتين لا أهتم بعدها؛ لأنه يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]!

وقال عبد العزيز بن أبي رواد رحمه الله: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا؟!

وقع عليهم الهم، وليس وقعوا في المعاصي، وكان بعض السلف يقول في آخر ليلة من رمضان: يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنئه، ومن هذا المحروم فنعزيه.

أيها المقبول! هنيئاً لك، أيها المردود جبر الله مصيبتك، فإذا فاته ما فاته من خير رمضان فأي شيء يدرك، ومن أدركه فيه الحرمان، فماذا يصيب؟ كم بين من كان حظه فيه القبول والغفران ومن كان حظه فيه الخيبة والخسران؟

أيها المسلمون: من علامات التقوى: الامتناع عن الفسق بعد رمضان؛ إن الذي يخشى على عمله ولا يدري هل قبل منه أم لا؛ يجتهد في العبادة ويواصل في الطاعة، والذي يظن أنه قد عمل حسنات أمثال الجبال، فلا يهمه بعد ذلك ويقول: عندي رصيد وساعة لربك وساعة لقلبك.

الوقفة الرابعة: المواصلة على العمل والطاعة بعد رمضان

عباد الله! إن الذي يتقي الله حق تقاته يواصل على الطاعة والعبادة، والله تعالى لما ذكر صفات المؤمنين لم يقيدها بوقت، ولم يخصها بزمان، قال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:1-3] ليس معرضين في رمضان فقط: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [المؤمنون:4] متى ما دار الحول يزكي في رمضان أو في غيره، وبعض الناس إذا حال الحول في رمضان زكى ويهمل الزكاة في الأموال التي يحول عليها الحول في غير رمضان، فانتبهوا لهذه المسألة: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المؤمنون:5] ليس في رمضان فقط، بل وفي غير رمضان.

أيضاً: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] دائماً هكذا مشيهم: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63] هكذا هم في العادة: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً [الفرقان:64] هم باستمرار يفعلون ذلك، وليس قيام رمضان فقط، وهكذا من سائر صفات المؤمنين، والسبب أننا مطالبون بالعمل إلى الموت بأمرٍ من الله تعالى، مرسومٌ رسمه الرب، وأمرٌ صدر من الرب، قال الله عز وجل: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] واليقين هو الموت، وقال الله تعالى: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ [مريم:65] فلابد من الصبر والمصابرة على الطاعة.

وهذه وقفةٌ مهمة جداً في قضية الاستمرار على الطاعة، ولعله لهذا السبب شرع لنا صيام الست من شوال بعد رمضان، حتى لا تنقطع العبادة الجميلة وهي عبادة الصيام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام ستة أيامٍ بعد الفطر كان تمام السنة) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160] هكذا يقول الله تعالى، وفي رواية: (جعل الله الحسنة بعشر أمثالها) وفي رواية: (فشهرٌ بعشر ذي أشهر) وفي رواية: (صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام السنة) ستة في عشرة بستين، ستون يوماً هي شهران مع الشهر الذي صمناه في عشرة بعشرة أشهر، فتمت السنة وفضل الله عظيم، وكرمه واسع، وهباته مستمرة، وعطاؤه لا ينقطع، لكن أين العاملون؟ فمن فعل هذا دائماً فكأنما صام عمره، من كان كلما صام رمضان صام ستاً من شوال، فإنه يكون قد صام العمر وله أجر صيام الدهر.

الوقفة الخامسة: عدم الاغترار بما حصل من طاعات

بعض الناس اجتهدوا فعلاً، صاموا وحفظوا جوارحهم، وختموا القرآن وبعضهم أكثر من مرة، وعملوا عمرة في رمضان، وصلوا قيام رمضان كله من أوله إلى آخره، لم يخرموا منه يوماً أو ليلة، وفعلوا ما فعلوا من الصدقات وقدموا ما قدموا، وجلسوا في المساجد من بعد الفجر إلى ارتفاع الشمس، وبعد الصلاة يقرءون القرآن، وقبل الصلاة ينتظرون الصلاة، حصلت عبادات كثيرة، لكن إذا كانت النفس سيئة، إذا كان الطبع متعفن فإن كثرة العبادة لا تنفع، بل إن الشيطان يوسوس ويقول: لقد فعلت أشياء كثيرة وطاعاتٍ عظيمة، خرجت من رمضان بحسنات أمثال الجبال، رصيدك في غاية الارتفاع، صحائف حسناتك مملوءة وكثيرة فلا عليك بعد ذلك ما عملت، ويصاب بالغرور وبالعجب، وتمتلئ نفسه تيهاً وفخراً، ولكن آية من كتاب الله تمحو ذلك كله، وتوقفه عند حده، وتبين له حقيقة الأمر وهي قول الله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6] أتمن على الله؟ أتظن أنك عندما فعلت له هذه الأشياء تكون قد قدمت له أشياء عظيمة؟ تظنها كخدمة من خدمة البشر؟ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6] لا تمن على الله بعملك، لا تفخر، لا تغتر، لا تصاب بالعجب وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6] وتتخيل أن أعمالك كثيرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الحسن: (لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضات الله تعالى لحقره يوم القيامة) لجاء يوم القيامة فرآه قليلاً ضعيفاً، لرأى عمله لا يساوي شيئاً، فإنه لو قارنه بنعمة واحدةٍ من النعم كنعمة البصر أو غيره، لصار هذا قليلاً لا يساوي شيئاً.

ولذلك فإن الناس لا يدخلون الجنة بأعمالهم، وإنما يدخلونها برحمة الله تعالى، ليست الأعمال ثمناً للجنة، لكنها سببٌ لدخول الجنة، لا ندخل الجنة إلا بالأعمال الصالحة، الذي لا يعمل صالحاً لا يدخل الجنة، فهي سبب لكنها ليست الثمن، فبدون رحمة الله الأعمال لا تؤهل لدخول الجنة، بل ولا تسديد حق نعمة واحدة من النعم.

الوقفة السادسة: عدم تكليف النفس ما لا تطيق

أيها المسلمون: ونُذكر أيضاً بأن الاستمرار في العبادة والطاعة وهضم النفس مع وجوبهما، فإن ذلك لا يعني أن يكلف الإنسان نفسه فوق ما يطيق (خذوا من العبادة ما تطيقون، فإن الله لا يسأم حتى تسأموا) حديث صحيح.

الوقفة السابعة: الحال بعد رمضان لا يكون كرمضان

وهنا وقفة سابعة وهي: أنه لا يشترط أن نكون بعد رمضان كما كنا في رمضان، فنحن نعلم أن ذلك موسمٌ عظيم، لا يأتي بعده مثله إلا رمضان الذي بعده، لا يأتي شهرٌ فيه خيرات ومغفرة ورحمة وعتق كما في هذا الشهر الذي انصرم، فنحن لا نقول: كونوا كما كنتم في رمضان من الاجتهاد، النفس لا تطيق ذلك، لكن لا للانقطاع عن الأعمال، الخطورة في الانقطاع يا عباد الله! لابد من أخذ الأمور بواقعية، ليس من المطلوب أن نكون بعد رمضان مثل رمضان، كان ذلك شهر اجتهاد له وضعٌ وظرفٌ خاص، لكن الانقطاع عن الأعمال لا. ترك الصيام بالكلية لا. ترك القيام بالكلية لا. ترك ختم القرآن بالكلية لا. ترك الدعاء والذكر والصدقة والعمرة لا. استمروا على العمل وإن كان أقل مما كان في رمضان، ثم إن الله سبحانه وتعالى إذا كان العبد مواصلاً على عمله، لو أصابه عارض؛ لو مرض، لو سافر، يكتب له من الأجر مثلما كان يعمل صحيحاً مقيماً، وجاء في الحديث: (إذا مرض العبد قال الله للكرام الكاتبين: اكتبوا لعبدي مثل الذي كان يعمل حتى أقبضه أو أعافيه) حديث صحيح.

إذاً هذه من فوائد المواصلة على الطاعة والعبادة.

أيها المسلمون! من الوقفات المهمة أن الاستمرار على الطاعة والعبادة سببٌ لحسن الخاتمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله، قيل: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعملٍ قبل الموت ثم يقبضه عليه) فإذا كان من الصالحين كانت عبادته حسنة، وكذلك فإن عبادتنا لله تعالى في جميع الأوقات والأحيان سواءً في السراء أو الضراء في رمضان أو في غير رمضان، في أوقات الرخاء والشدة، في أوقات المحنة والنعمة، إذا كانت مستمرة فإن الأجر يعظم: (عبادة في الهرج والفتنة كهجرة إليه) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، العبادة في وقت الفتن واختلاط الأمور أجرها كأجر المجاهد في سبيل الله تعالى، عندما لا يشجع الجو على العبادة، عندما يرجع كثير من الناس إلى فتورهم بعد رمضان، عندما تقوم أنت بالعبادة لا شك أن لك أجراً عظيماً، عندما فتر الناس أنت نشطت، عندما تقاعس الناس أنت قدمت، عندما تخلفوا أنت تقدمت.

أيها المسلمون: إن هنا مفهوماً عظيماً، وهي أن العبادة هي أصلٌ في حياتنا، إنها ليست قضية طارئة، إنها ليست قضية مؤقتة، إنها ليست قضية محددة بزمانٍ أو مكان، إنها مستمرة، من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله شابٌ نشأ على طاعة الله تعالى.

الوقفة الثامنة: إلى كل من دخل وخرج بالمعاصي من رمضان

أيها المسلمون: من الوقفات العظيمة التي نقفها الوقفة الثامنة: للذين دخلوا رمضان بالمعاصي وخرجوا بالمعاصي إنهم لم يستفيدوا شيئاً، قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ [المائدة:61] قال ابن كثير رحمه الله: هذه صفة المنافقين، وقد دخلوا، أي: عندك يا محمد! بالكفر، يعني: مستصحبين بالكفر في قلوبهم، ثم خرجوا من عندك والكفر كامنٌ فيها، لم ينتفعوا بما سمعوا، لم يفد فيهم العلم، لم تنجح فيهم المواعظ والزواجر.

فالذين دخلوا رمضان ثم خرجوا مثلما كانوا قبل رمضان، أو أسوأ تنطبق عليهم هذه الآية، دخلوا بالمعاصي وخرجوا بالمعاصي، بعد رمضان رجعوا إلى ما كانوا فيه من المنكرات، لم يستفيدوا من رمضان، رمضان لم يورث توبةً عندهم، ولا استغفاراً ولا إقلاعاً عن المعاصي، ولا ندماً على ما فات، لقد كانت محطةً مؤقتة ثم رجعوا إلى ما كانوا فيها.

هذه النفسية السيئة هل عبدت الله حق عبادته؟ هل وفت حق الله؟ هل أطاعت الله أصلاً؟ هذه مصيبة كبيرة أن يعود شراب الخمور إلى خمورهم، ومتعاطو المخدرات إلى مخدراتهم، وأصحاب الزنا إلى الزنا، وأصحاب الربا إلى الربا، وأصحاب الفسق ومجالس اللغو إلى اللغو، أن يعود أصحاب السفريات المحرمة إلى السفريات المحرمة، هذه مصيبة والله وكارثة، دخلوا بالمعاصي وخرجوا بالمعاصي، لم يستفيدوا شيئاً أبداً!

أيها المسلمون: بعض الناس يتصور أن ما حصل في رمضان كافٍ للتكفير عن سيئات الإحدى عشر شهراً القادمة، ولذلك فهو يحمل على ما مضى، ويعول على ما مضى، وكأن هذا باعتباره ونظره ما حصل منه كافٍ، مستند يستند عليه، ومتكئ يتكئ عليه لمعصية الله تعالى وهو ما درى، ربما رد على أعقابه ولم يقبل منه عملٌ واحدٌ في رمضان.

الوقفة التاسعة: مآسي ما بعد رمضان

لقد حصل كثير من البلايا في رمضان، هذا أكل مجاملة لكفار، دخل عليهم المكتب وهم يأكلون أكل معهم وهذه حصلت، وهذا وقع على زوجته في نهار رمضان، وانتهك حرمة الشهر الكريم بأسوأ مفطر من المفطرات، وعليه الكفارة المغلظة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع لمرضٍ وعذرٍ حقيقي لا تلاعب فإنه يطعم ستين مسكيناً، فكيف بمن زنا في رمضان، وفعل الفاحشة في رمضان، من وطئ في قبلٍ أو دبرٍ حلالٍ أو حرامٍ أو بهيمةٍ لزمته الكفارة المغلظة، هذا كلام العلماء فيمن حصل له ذلك في نهار رمضان، قتلى حوادث السيارات في العيد الذين يخرجون متهورين لا تسعهم الفرحة، الفرحة بالمعصية، الفرحة بانقضاء موسم الطاعة، ماذا يكون حالهم؟

الوقفة العاشرة: الفائزون في رمضان

يقول الناس لبعضهم البعض في العيد من العبارات التي يقولها العامة: من العايدين ومن الفايزين، هل تعلمون منهم الفائزون؟ قال الله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].. لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:20] وقال الله عن أهل الجنة: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].. جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [البروج:11] فالفوز الحقيقي الفوز في الجنة.

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل الجنة، نسأل الله أن يجعلنا ممن قبل أعمالهم في رمضان، اللهم تقبل ما حصل من العمل، واغفر لنا الخطأ والتقصير والزلل، اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تلم بها شعثنا، وتغفر بها ذنبنا، وترحم بها ميتنا، وتشفي بها مريضنا، وتقضي بها ديننا، اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تجعلنا فيها بعد هذا الشهر الكريم خيراً مما كنا قبله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وقال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

وقال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

فمغفرة الذنوب لهذه الأسباب الثلاثة، كل واحدٌ منها مكفرٌ لما سلف من الذنوب، وهي صيام رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر، فتحصل المغفرة والتكفير بقيام ليلة القدر ولمن وقعت له وأصابها، سواء شعر بها أم لم يشعر.

أما في صيام رمضان وقيامه فيتوقف التكفير بهما على تمام الشهر، فإذا تم الشهر فقد كمل للمؤمن صيام رمضان وقيامه، فيترتب على ذلك مغفرة ما تقدم من ذنبه، ومن نقص من العمل الذي عليه نُقص له من الأجر بحسب نقصه، فلا يلومن إلا نفسه.

الصلاة مكيال، والصيام مكيال؛ فمن وفاها وفّى الله له، ومن طفف فيهما فويلٌ للمطففين، أما يستحي من يستوفي مكيال شهواته، ويطفف في مكيال صيامه وصلاته؟ إذا كان الويل لمن طفف في مكيال الدنيا: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:1-3] فكيف حال من طفف مكيال الدين؟! فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5].

وهذا الويل لمن طفف، فكيف حال الذي فرط بالكلية؟ كيف حال الذي لم يقم ولم يصم وهم أعداد ممن ينتسبون إلى الإسلام؟!

ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدركه رمضان فلم يغفر له، فأبعده الله -وقالها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم- ثم قال له: قل آمين، فقلت: آمين) دعاءٌ عليه بالإبعاد عن رحمة الله والطرد عنها؛ لأن ذلك الشهر قد مر ولم يستفد منه؛ لأن ذلك الموسم العظيم قد حصل ولم ينهل منه، لم ينتهز الفرصة فتباً له.

وإذا كان لم ينتهز الفرصة العظيمة فهو لإهمال ما هو أدنى منها من باب أولى، أي: إذا فرط في رمضان فتفريطه في غير رمضان من باب أولى، ولذلك أبعده الله؛ لأنه لا يستحق أجره، ولا يستحق الرحمة ولا المغفرة، ولا شك أيها المسلمون! أننا قد حصل منا تطفيف بالصيام والقيام، وقد حصل منا إخلالٌ بآداب الصوم الواجبة والمستحبة.

وهذا ما يدفعنا للوقفة الثانية وهي: توبة المقصر في صيامه وصلاته، والاستغفار عما مضى من الإخلال والتفريط في حق الله تعالى، وحق ذلك الشهر الذي انقضى ولم نستفد منه كما ينبغي: الاستغفار وهو الدعاء بالمغفرة، وقد جاء في حديث أبي هريرة : (يغفر فيه إلا لمن أبى، قالوا يا أبا هريرة ! ومن يأبى؟ قال: من أبى أن يستغفر الله عز وجل) قال الحسن رحمه الله: [أكثروا من الاستغفار، فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة] وقال واحدٌ ممن مضى لولده: يا بني! عوَّد لسانك الاستغفار، فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائله.

وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار في قوله عز وجل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] فعطف هذا على هذا مبيناً أهميته.

قال إبليس: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار.

والاستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها، فتختم به الصلاة والحج وقيام الليل، وتختم به المجالس، فإن كانت مجالس ذكر كانت كالطابع عليها، وإن كانت مجالس لغوٍ كانت كفارة لها لما حصل فيها، فكذلك ينبغي أن يختم صيام رمضان بالاستغفار.

كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة -صدقة الفطر- فإن صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، والاستغفار يرفع ما حصل من الخروق في الصيام باللغو والرفث.

وقال بعض أهل العلم: إن صدقة الفطر للصائم كسجدتي السهو.

وقال عمر بن عبد العزيز في كتابه: " قولوا كما قال أبوكم آدم: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] وقولوا كما قال نوحٌ عليه السلام: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود:47] وقولوا كما قال إبراهيم عليه السلام: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82] وقولوا كما قال موسى عليه السلام: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16] وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] صيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع وعملٍ صالح له شافع، كم نخرق من صيامنا بسهام الكلام ثم نرقعه وقد اتسع الخرق على الراقع، كم نرفو خروقه بمخيط الحسنات، ثم نقطعه بحسام السيئات القاطع ".

كان بعض السلف إذا صلى صلاةً استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه، إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم، فكيف حال المسيئين؟

أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة، والتوبة حل عقدة الإصرار على الذنب، فمن استغفر بلسانه وقلبه عن المعصية زالت، ومن كان عزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد رمضان ويعود فهذا صدقه غير موجود وباب القبول عنه مسدود، وصومه عليه مردود، يصوم ويقوم ويتابع على المعاصي كيف يكون ذلك؟!

فالمهم أيها المسلمون أن نكثر من الاستغفار بعد هذا الشهر، علَّ الله أن يتجاوز عنا إسرافنا وتفريطنا وما حصل منا من المعاصي والسيئات في ذلك الشهر الذي تعظم فيه السيئة لفضله وشرفه.