خطب ومحاضرات
العدل في العطية بين الأولاد
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
الحمد لله الذي جعل العدل الميزان بين الخلق، والحمد لله الذي قامت السماوات والأرض بالعدل بحكمته عز وجل، والعدل أساس مصالح البشر، والشريعة مبنية على العدل، وهو من أحكم الحاكمين، وهو العدل اللطيف الخبير العليم الحكيم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والنسائي : (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم).
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الطبراني : (اعدلوا بين أولادكم في النحل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف) والنحل: هو ما ينحله الوالد لولده من العطايا والهدايا.
وقد أخرج أبو داود في سننه باب في الرجل يفضل بعض ولده في النحل، عن النعمان بن بشير قال: (أنحلني أبي نحلة غلاماً له -عنده عبد أعطاه لولده- قال: فقالت له أمي -
وزعم بعض أهل العلم أن التفضيل مكروه، ولكن المتأمل في الحديث ورواياته وألفاظه يعلم علماً بأن التفضيل محرم، وأن المساواة بين الأولاد في الأعطيات واجبة، وأن الذي يخالف في ذلك فهو آثم، واستدل من قال بالكراهية بقوله: ( أشهد على هذا غيري ) وهذا اللفظ تهديد، وليس إذناً أبداً لتسميته عليه الصلاة والسلام بذلك الأمر جوراً، وهذه الألفاظ التي سقناها كما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله صحيحة صريحة في التحريم والبطلان من عشرة أوجه، تؤخذ من الحديث، وقد ألف في ذلك مصنفاً مستقلاً.
وقوله: ( أشهد على هذا غيري ) فإنه ليس إذناً منه قطعاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في الجور ولا فيما لا يصلح ولا في الباطل، فإنه قال: (إني لا أشهد إلا على حق) فدل ذلك على أن الذي فعله والد النعمان لم يكن حقاً بل باطلاً، فقوله إذاً: ( أشهد على هذا غيري ) حجة على التحريم كما قال تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40] وكما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) هل يعني هذا: أن الذي لا يستحي يجوز أن يصنع ما يشاء؟ كلا. بل هو توبيخ وتقريع وتهديد.
وقال رحمه الله في إغاثة اللهفان تحت مبحث سد الذريعة، وأمر صلى الله عليه وسلم بالتسوية بين الأولاد في العطية وأخبر أن تخصيص بعضهم بها جور لا يصلح، ولا تنبغي الشهادة عليه، ولا يجوز أن تشهد لو قال لك أب: اشهد يا جاري على أن هذه الأعطية لأحد أولادي دون الآخرين قل له: لا أشهد: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [الطلاق:2].
إن كانت شهادة زور وظلم فلا تشهد، قال تعالى: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الأنعام:150] وأمر فاعله برده، ووعظه وأمره بتقوى الله تعالى، وأمره بالعدل لكون ذلك ذريعة إلى وقوع العداوة والبغضاء بين الأولاد، وقطيعة الرحم كما هو مشاهد عياناً، فلو لم تأت السنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بالمنع منه، لكانت أصول الشريعة والقياس يقتضيان العدل ووجوبه بين الأولاد.
وتأمل قوله عليه الصلاة والسلام لـأبي النعمان بن بشير ، وقد خص ابنه بالنحل: (أتحب أن يكونوا في البر سواء؟) كيف تجد كلامه عليه الصلاة والسلام؟ مبيناً الوصف الداعي إلى شرع التسوية بين الأولاد، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات، فكما أنك تحب أن يكونوا سواء في برك وألا ينفرد أحدهم في برك دون الآخرين، فكيف ينبغي أن تفرد أحدهم بالعطية وتحرم الآخر؟.
وقال في إعلام الموقعين في علة النهي في الفتوى: ينبغي للمفتي أن يذكر الحكم بدليله، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لـأبي النعمان بن بشير : (أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) وفي لفظ: (إن هذا لا يصلح.. إني لا أشهد على جور).
وقال رحمه الله في الإعلام في ذكر طرف من تخبط المقلدين في الأخذ ببعض السنة وترك البعض الآخر، واحتجوا على جواز تفضيل الأولاد على بعض بحديث النعمان بن بشير وفيه: ( أشهد على هذا غيري ) ثم خالفوه صريحاً، فإن في الحديث نفسه: ( إن هذا لا يصلح ) وفي لفظ: ( إني لا أشهد على جور ) وقال: فقالوا: بل هذا يصلح وليس بجور، ولكل أحد أن يشهد عليه.
فانظر كيف خالف المقلدة المتعصبون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدلوا على الإباحة على أن أبا بكر قد أعطى أحد أولاده عشرين وسقاً دون سائر أولاده، والجواب: أن أهل العلم قد ذكروا ضعف هذا الحديث في طريقين، وأنه يُحتمل أنه خصها لحاجة، وإذا حصل الاحتمال بطل الاستدلال، وافرض أنه صحيح ولا احتمال هناك، فهل تعارض بفعل صحابي حديثاً صحيحاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وممن قال بوجوب التسوية من أهل العلم الإمام البخاري رحمه الله، وطاوس والثوري وأحمد وإسحاق وبعض المالكية، قال الشوكاني : فالحق أن التسوية واجبة، وقال الإمام أحمد في دخول الأم مع الأب في وجوب التسوية، قال: إن حج بها ولدها دون أخويه، تعطيه أجرته وتسوي بين أولادها -تعطيه الأجرة فقط، وتسوي بين أولادها- ولا يجوز لها أن تخص أحداً من أولادها دون أحد، فإن فعلت أثمت كما يأثم الأب، ووجب عليها أخذ الزائد كما يجب على الأب، أو زيادة الأولاد الآخرين، إذا أعطيت واحداً زيادة دون سبب إما أن تعطي الآخرين مثله أو أن تسحبها من الولد الذي أعطيته، وحديث النعمان دليل على جواز رجوع الأب في عطيته وهبته للولد إذا كان ظالماً.
والعطية والهبة لا يجوز الرجوع فيها على القول المختار لحديث: (ليس لنا مثل السوء.. العائد في هبته كالكلب في يعود في قيئه بعد إلقائه) لكن الأب يجوز له أن يرجع في العطية والهبة، ولو لم يساو ومات قال الإمام أحمد : يرد على بقية الأولاد ويوزع بينهم بالتساوي، ولا وصية لوارث، لا يجوز أن يكتب في الوصية لأحد الأولاد، لأن الله قسم بينهم في القرآن والسنة، فلا وصية لوارث، لا يكتب لأحد الورثة في الوصية شيئاً أبداً، ويجوز للأب أن يرجع إلا إذا تغيرت الهبة عند الولد، مثل أن سمن الغنم، أو أعطاه مالاً ثم نماه الولد، فلا يجوز له أن يأخذه بعد التنمية، وبعد أن زاد بمجهود الولد.
ويسأل الناس فيقولون: لقد عرفنا أن العدل بين الأولاد واجب، وهم ذكور وإناث، فكيف نعدل بينهم؟ قال بعض أهل العلم: يجب العدل بينهم (الذكر مثل الأنثى) وقال بعضهم: يجب العدل بينهم كما عدل الله في كتابه، فالله عدل بينهم، لأن للذكر مثل حظ الأنثيين، وعلى ذلك لو أعطيت الولد مائة تعطي البنت خمسين، وهذه هي طريقة الشريعة في الدية وفي الإرث وفي العقيقة وغير ذلك، ولأن الذكر صاحب حاجة أكثر من الأنثى، ولذلك لما سأل بعض الإخوان فقال: إني آخذ من راتبي مائة ريال -مثلاً- وأسجله باسم ولدي فلان، أوفره له وآخذ خمسين وأسجلها باسم ابنتي فلانة، فنقول: لقد جوز بعض أهل العلم هذا، ولك أن تفعل هذا في التوفير لأولادك إذا أردت.
ومن عمق هذه المسألة قال أهل العلم: يعدل بين الأولاد حتى في البشاشة والترحيب والتقبيل، قال إبراهيم رحمه الله: كانوا يستحبون أن يسوى بينهم حتى في القُبَل، ولا يخص أحداً بطعام دون آخرين لغير سبب، وقد تدعو الحاجة لتخصيص أحد الأولاد بنوع من الشفقة، كما إذا كان مريضاً، أو زيادة في الترحيب كما إذا قدم من السفر، وهذا لا بأس به لقيام السبب الموجب لذلك، وفي الأشياء التافهة تسامح أهل العلم في عدم العدل فيها كقطعة -مثلاً- من الحلاوة ليس عنده غيرها، أعطاها للصغير -مثلاً- ولكن الأصل أن يعدل بينهم لو استطاع.
واعلموا -أيها الإخوة- أن كثيراً من الناس لا يتقون الله، كثير من الآباء يظلمون أولادهم، فتجد الواحد منهم يميل إلى أحد الأولاد لسبب تافه، كأن يكون هذا الولد أوسم من إخوانه وأجمل في الشكل والصورة فيميل إليه، أو أن الولد يشبه أباه، والولد الآخر يشبه أمه، فيقول: أنت منا ويعطيه، ويقول للآخر: أنت لأخوالك فاذهب، هذا من الأسباب التافهة التي يتركب عليها الظلم بالأولاد، وكذلك أن يدخل بعض الآباء أولاد الزوجة الأولى في مدارس خاصة، وأولاد الزوجة الثانية في مدارس عادية، هذا من الظلم أيضاً، يجب أن يساوي بينهم، وهذا الظلم وعدم التسوية تولد الغيرة والحسد بين الأولاد بعضهم على بعض، تربية سيئة، ولنا في قصة يوسف عبرة: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا [يوسف:8].
مع أن يعقوب عادل، لكن محبته القلبية سببت هذا، فكيف بالظلمة: يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً [يوسف:5] فكيف بمن يتعمد الظلم بين الأولاد، ويسأل بعض الإخوان فيقول: لي أولاد يعطونني من رواتبهم، وأولاد آخرون لا يسألون عني فماذا أفعل؟ وأنا أريد أن أعطي هؤلاء شيئاً؟ وقد أجاب الشيخ/ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن هذا السؤال بما ملخصه: لو كان الأولاد يعطونك من رواتبهم لك لتتملكه براً بك، فيجب العدل ولا تعطيهم شيئاً بعد أن تملكته زيادة على إخوانهم، أما لو أعطوك المال لتحفظه لهم، ولتوفره لهم، أي أن بعض الأولاد يعطي راتبه كاملاً للأب ليحفظه له، وهو ينوي أن أباه سوف يعطيه إياه في المستقبل أو جزءاً منه على الأقل، فعند ذلك يجوز للأب أن يعطي الولد ما لا يزيد عما أعطاه الولد في البداية، وكذلك بعض الآباء من أصحاب الشركات والمؤسسات والدكاكين مثلاً يشتغل معه ولده في الدكان أو الشركة، والأولاد الآخرون موظفون بوظائف مستقلة، فما هو الحكم؟
الجواب: له طريقتان:
إما أن يعطي الولد الذي يشتغل معه أجرة بنفس ما إذا كان العامل غير ابنه، أو أن يدخل الولد شريكاً معه، فيقول: يا بني! تريد أن تعمل معي وتفرغ لي وقتك، وتنشط أعمالاً فادخل معي شراكة في الربع مثلاً؟ فإن اتفقا على هذا كانت شركة، دون أن يظلم بقية الأولاد.
كونه يشتغل معك لا يعني أن تظلم بقية الأولاد، وكذلك إذا خلص الولد قطعة أرض لأبيه وجرت المعاملة حتى أنهاها، فإن الوالد يجوز أن يعطيه أتعابه، كما يعطي المحامي وكما يعطي المخلص.
وكذلك إذا اضطر أن يعطي الولد راتباً لئلا يتركه كما تركه بقية الأولاد، فهذا جائز، وإذا بلغ الولد سن الزواج فإنه يجب على الأب أن يزوجه إذا كان قد زوج إخوانه الكبار، مثلما زوجهم يزوجه لو كان عنده قدرة وطاقة، وإذا مات الأب وأوصى للولد الذي لم يتزوج بمقدار مثلما زوج به إخوانه يجوز هذا، لكن لو مات وهو صغير، فلا يجوز له بشيء وإنما حظه مثل حظ إخوانه في التركة.
وكذلك يجب العدل بين الأولاد، وأن يراعي ذلك ولا يفضل أحداً على أحد إلا لمسوغ شرعي بالزيادة، فمثلاً لو كان أحد الأولاد فقيراً والآخرون أغنياء، كان يكون أحد الأولاد عنده عائلة كبيرة والآخرون ليس عندهم ذلك، فيجوز أن يدعم الأب ابنه في هذه الحالة لوجود السبب، ليسوا سواء الآن، كذلك لو أرادت إحدى بناته أن تتزوج يعطيها بمناسبة الزواج ذهباً ونحوه، فإذا تزوجت البنات الباقيات يعطيهن مثلما أعطى ابنته، وقال أحمد : يعوض البنات الباقيات، وكذلك ما يتفاضل به بعضهم على بعض من الطعام والكسوة -مثلاً- فلا شك أن الولد الكبير يحتاج إلى ثياب أكثر مما يحتاج الولد الصغير مثلاً.
هذا الاختلاف لا بأس به، والولد الأكبر يأكل أكثر من الولد الأصغر فلا بأس، والبنت تنفق على ملبوسها أكثر مما ينفق الذكر لا بأس بذلك، وتحتاج إلى حلي والولد لا يحتاج لا بأس بذلك، فهذا سبب تفاوت الطبيعة بينهم، الولد قد يحتاج إلى سيارة والبنت لا تحتاج، وكذلك إذا وقع أحد الأولاد في مصيبة مثل ما إذا ترتب عليه دية بسبب حادث فيجوز للأب أن يسدد عن ولده، أو لحقه فقر أو دين يسدد عنه والده، وكذلك ألعاب الأطفال، فإنه لا شك أن الولد الصغير حاجته للألعاب ليس مثل الذي أكبر منه، ولو أنه اشترى لهم دراجات فلا شك أن دراجة الولد الأكبر ستكون أغلى من دراجة الولد الأصغر فمثل هذا لا بأس به، لأنه شيء موجود في أصل خلقتهم وفي طبيعتهم مختلفون.
وكذلك إذا أعطى لأحدهم في ظرف من الظروف مالاً، فينبغي أن ينوي أن الأولاد الآخرين لو مروا بنفس الظرف فإنه سيعطيهم مثلما أعطى أخاهم أو أختهم، ينوي أن يعطيهم في المستقبل، وكذلك فإذا أراد أن يعطي ولده الأكبر سيارة مثلاً، وليس عنده ما يعطي إخوانه الآخرين سيارات، والسيارة لقضاء أغراض البيت أو يذهب بها الولد إلى الجامعة ونحو ذلك، فإنه يجعلها عند ولده عارية، ولا يجعلها هبة للولد، تبقى باسم الأب، يقضي فيها الولد الكبير حاجاته، ويقضي حاجات البيت، وإلا فينبغي أن يساويهم في الأعطيات، نبهنا على هذا شيخنا عبد العزيز حفظه الله.
أيها الإخوة: العدل من شريعة الله، بنيت شريعة الله على العدل، فينبغي على المسلمين أن ينتبهوا لهذه الأمور، وإلا فإن الظلم مرتعه وخيم وعاقبته سيئة، والله لا يهمل الظالم، وإنما يمهله حتى إذا أخذه لم يفلته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وهو أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين سبحانه وتعالى، حرم الظلم على نفسه وجعله محرماً بين عباده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الذي حكم بشريعة ربه وبالقسطاس المستقيم.
أيها الإخوة: ومن المسوغات الشرعية لتفضيل بعض الأولاد على بعض؛ أن يكون أحدهم طالب علم متفرغاً لطلب العلم، فيجوز لأبيه أن يعطيه راتباً لتفرغه، أو يشتري له كتب العلم؛ لأنه أنبغ من إخوانه في طلب العلم، وكذلك لو أن أحدهم -مثلاً- حفظ شيئاً من القرآن، فأعطاه الأب مكافأة لأنه حفظ من القرآن ما لم يحفظ إخوانه؛ فإن هذا أمر جيد ومستحب ومشجع لبقية الأولاد أن يحذوا حذو أخيهم الذي نبغ في العلم أو في حفظ القرآن مثلاً، أو لتفوقه العلمي، وجديته في الدراسة، وأنتم تعلمون بأن إعطاء أحد الأولاد زيادة لسبب شرعي على إخوانه لا بأس به، والمحرم أن يعطي أحدهم بلا سبب، وأن يميز أحداً منهم بلا سبب شرعي.
وكذلك يجوز للأب بل يجب عليه أن يمنع الأعطية عن الولد الفاسق، أو المبتدع، أو الذي سوف يستعملها في معصية الله عز وجل، أو ينفقها في معصية الله ومحادته سبحانه وتعالى، وكثيرٌ من الآباء عندهم اعوجاج فكري في هذه المسألة، فتراه يعطي الولد العاصي الفاسق، يقول أنت تحتاج إلى بنطلونات وأنت تحتاج إلى ثياب السهرات والحفلات، وأنت تحتاج أن تأكل في المطاعم الراقية، وأنت تحتاج أن تصرف على شلة الفساد، ويعطيه.
يعطيه ويدعمه ويعينه على المعصية وعلى الإثم وعلى الفسق، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد يكون عنده ولد آخر متدين، لا يسأل أباه شيئاً، هو بارٌ بأبيه، لم يفتح فمه، ولم يتطاول على الأب، فينتهز الأب الفرصة ويقول: هذا المسكين الدين القنوع لا يحتاج، ويعطي ذلك الفاسق بدلاً من العكس، وهو أن يمنع المال عن الفاسق الذي سوف يستخدم المال في السفريات المحرمة، وشراء المخدرات والمعاصي والإنفاق على أصدقاء السوء ونحو ذلك.
والمفروض أن يدعم الولد المتدين الملتزم بدينه؛ لأنه عنده نفقات لطلب العلم، ولإخوانه، ويتصدق، والفاجر يضعها على ظهرك يوم القيامة.
ومن الأمور السيئة أيها الإخوة: أن يعاون بعض الآباء أبناءهم على الإثم والعدوان وأن يمدوهم بالأموال.
يحدث أحد رجال الأمن في مطار من المطارات، يقول: جاءنا ولد عمره خمسة عشر عاماً يريد أن يسافر إلى بانكوك ، معه تذكرة، قال له: النظام لا يسمح، لا بد من موافقة أبيك، قال: أبي موافق، هذا تلفون السيار اتصل على أبي، يتصل على أبيه: فلان؟ نعم، ابنك فلان؟ نعم، هو عندنا في المطار يريد أن يذهب إلى بانكوك ، قال: نعم. أنا أذنت له، أنا أعطيته ثمن التذكرة، أذنت ليلحقنا بعد ذلك إلى باريس ، قاتلهم الله.
كم يجني الآباء على أبنائهم -أيها الإخوة- كم يجنون على أبنائهم في مثل هذه الأمور، كيف وقع كثير من الأبناء في المعاصي؟ كيف وقعوا في المحرمات إلا بسبب أن الأب لا يبالي بإعطاء ولده، يعطيه ويعطيه وهو يعلم أنه ينفقها في الفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وعلى الأب العاقل ألا يستجيب لضغط الأم، فالأم أحياناً تلين بعاطفتها، تعلم أن الولد ينفق في المحرمات لكن مع الضغط والإلحاح تقول للأب: أعطه، أعطه، الأب العاقل لا يستجيب، ويعلم أن مصلحة الولد بعدم إعطائه ليستعين بها على المحرمات.
وتنبيه أخير أقوله للأبناء: افرض أن والدك قد ظلمك وفضل عليك إخواناً لك، فلا تقع في خطأ المقابل فتعق أباك، فترتكب جريمة أعظم من التي فعلها أبوك، أبوك ظلم بإعطائه لأحد إخوانك شيئاً أكثر مما أعطاك، لا تقابله بجريمة أكبر وهي عقوق الوالدين، انصحه واصبر عليه والله يحكم بينه وبينك وهو خير الحاكمين.
اللهم إنا نسألك السداد في الأمر، اللهم إنا نسألك أن توجهنا الوجهة الصحيحة، وأن تجعلنا ممن يكسبون أموالهم من الحلال وينفقونها في الحلال، اللهم ارزقنا العدل بين أبنائنا والصبر على آبائنا، اللهم ارحمنا وارحم آباءنا وأجدادنا، اللهم واغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نسألك العون على الدَين، ونعوذ بك من الدَين وقهر الرجال، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم أنت أكرم الأكرمين، أنت الغني ونحن الفقراء أغننا من فضلك، اللهم إنا نعوذ بك من الغنى المطغي ومن الفقر المنسي، اللهم أغننا ولا تطغنا، واجعل بلدنا هذا رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا فيه، وأطعمنا من خيراته، اللهم لا تجعلنا ممن يظلمون أنفسهم ويظلمون الناس.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
اقتضاء العلم العمل | 3615 استماع |
التوسم والفراسة | 3614 استماع |
مجزرة بيت حانون | 3544 استماع |
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] | 3500 استماع |
اليهودية والإرهابي | 3429 استماع |
إن أكرمكم عند الله أتقاكم | 3429 استماع |
حتى يستجاب لك | 3396 استماع |
المحفزات إلى عمل الخيرات | 3376 استماع |
ازدد فقهاً بفروض الشريعة | 3350 استماع |
الزينة والجمال | 3340 استماع |