سيرة سفيان الثوري


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعـد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

لقد ضيعت هذه الأمة فيما ضيعت حفظ سير السلف والتعرف على رجالاتها في القرون الماضية، يوم أن التفتنا إلى أسماء اللاهين واللاعبين، وسير العابثين والفاسقين، ضيعنا من ضمن ما ضيعنا سير الأجداد المصلحين، والآباء الفاتحين، والعلماء العاملين.

أيها المسلمون: إن ديناً في رقابنا أن نتعرف على سير أسلافنا، وخصوصاً رجال خير القرون الذين مضوا وخلفوا سيراً وعبراً.

إن سير أولئك الرجال لتبعث في النفس الشجاعة في الحق، والحماسة في طلب العلم، والسعي لتغيير المنكر، والقيام لله بالعبادة، وسائر الفوائد التي تنبع من دراسة سير أولئكم الأفذاذ.

ونحن مع سيرة رجل من الرجال الذين أنجبتهم هذه الأمة.. إنه عَلَم بحق، كان رأساً في العلم، ورأساً في الزهد والورع وإنكار المنكر والجهر بالحق والعبادة والحفظ.. رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه، وقل من الناس من يعرفه، فلا تكاد ترى له عند العامة ذكراً أو تسمع له عندهم حساً وخبراً.

نسبه ومولده

إنه أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري رحمه الله تعالى، من قبيلة ثور، وهي قبيلة من مضر، ولد -رحمه الله- سنة سبع وتسعين للهجرة، ودرس على أبيه سعيد بن مسروق ، الذي كان ثقة عند المحدثين، وأخرج له أصحاب الكتب الستة.

طلبه للعلم ورحلته

طلب سفيان العلم وهو حدثٌ باعتناء والده المحدث الصادق، وأمه كان لها أثر حسن في توجيهه، قالت أم سفيان لـسفيان : يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي.

كانت تعمل بالغزل وتقدم لولدها نفقة الكتب والتعلم.. وقالت له مرة: يا بني! إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك! من هذا البيت خرج هذا الرجل، فالتربية التربية يا عباد الله! فإن النشء يخرج هكذا.

أفنى عمره في طلب العلم وطلب الحديث، وقال رحمه الله: لما أردت أن أطلب العلم قلت: يا رب! لا بد لي من معيشة، ورأيت العلم يُدرس -أي: يذهب ويندثر تدريجياً- فقلت: أفرغ نفسي في طلبه، قال: وسألت الله الكفاية. وقال: أنا في هذا الحديث منذ ستين سنة. وقال: ينبغي للرجل أن يكره ولده على طلب الحديث، فإنه مسئول عنه.

وكان -رحمه الله- يقول: لا نزال نتعلم العلم ما وجدنا من يعلمنا. وقال: لو لم يأتني أصحاب الحديث ليسمعوا ويكتبوا لأتيتهم في بيوتهم.

وبلغ عدد شيوخه ستمائة شيخ، وعن المبارك بن سعيد قال: رأيت عاصم بن أبي النجود -وكان شيخاً جليلاً- يجيء إلى سفيان الثوري يستفتيه، ويقول: يا سفيان ! أتيتنا صغيراً وأتيناك كبيراً. أي: أتيتنا صغيراً تطلب العلم عندنا فتفوقت علينا فجئناك وأنت كبير.. وكان يكتب ويتعلم حتى آخر عمره يشتغل بطلب العلم.

دخلوا على سفيان في مرض موته، فحدثه رجل بحديث أعجبه، فضرب سفيان بيده إلى تحت فراشه فأخرج ألواحاً فكتبه -كتب الحديث وهو على فراش الموت- فقالوا له: على هذه الحال منك! فقال: إنه حسن! إن بقيت فقد سمعت حسناً، وإن مت فقد كتبت حسناً.

رحل إلى مكة والمدينة ، وحج ولم يخط وجهه بعد، وزار بيت المقدس ، ورحل إلى اليمن للقاء معمر ، وكانت أسفاره ما بين طلب علم وتجارة وهرب.. كان نابغة بحق.

عن الوليد بن مسلم قال: رأيت سفيان الثوري بـمكة يستفتى ولم يخط وجهه بعد.

وعن أبي المثنى قال: سمعت الناس بـمرو يقولون: قد جاء الثوري قد جاء الثوري ، فخرجت أنظر إليه فإذا هو غلام قد بقل وجهه. أي: نبت شعره من قريب، كان ينوه بذكره في صغره من فرط ذكائه وقوة حفظه.

وقال محمد بن عبيد الطنافسي : لا أذكر سفيان الثوري إلا وهو يفتي، أذكره منذ سبعين سنة، ونحن في الكتاب تمر بنا المرأة والرجل فيسترشدوننا إلى سفيان يستفتونه ويفتيهم، ولما رآه أبو إسحاق السبيعي مقبلاً في صغره تمثل بقول الله: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً [مريم:12] .

حفظه للحديث

كان ذا حافظة عجيبة، قال سفيان عن نفسه: ما استودعت قلبي شيئاً قط فخانني.

وكانوا يقدمونه في الحفظ على مالك وعلى شعبة، وقال يحيى القطان : ليس أحد أحب إليَّ من شعبة ولا يعدله أحد عندي، وإن خالفه سفيان أخذت بقول سفيان . وقد خالفه في نحو من خمسين موضعاً في حفظ الأحاديث، وكان الحق فيها مع سفيان .

وكان ليله يُقسم جزأين: جزء لقراءة القرآن وقيام الليل، وجزء لقراءة الحديث وحفظه، وكان حفظه يبلغ نحواً من ثلاثين ألفاً، وقال ابن عيينة: ما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري . وقال شعيب بن حرب : إني لأحسب أن يُجاء غداً بـسفيان حجة من الله على خلقه يقول لهم: لم تدركوا نبيكم قد أدركتم سفيان .

وقال أبو بكر بن عياش : إني لأرى الرجل يصحب سفيان فيعظم في عيني. كانت مرافقة الرجل له شرف.. وقال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: كنا نكون عند سفيان فكأنه قد أوقف للحساب من خشيته لله، فلا نجترئ أن نكلمه وهو في تلك الحال من الخشية، فنعرض بذكر الحديث، ونذكر في الكلام بيننا شيئاً عن الحديث، فيذهب ذلك الخشوع فإنما هو حدثنا وحدثنا، ويبدأ بالتحديث.

وكان يطلب سماع الحديث وهو مستخف.. لما هرب واضطر للاختفاء كان وهو مستخف يطلب العلم، قال سليمان بن المثنى : قدم علينا سفيان الثوري ، فأرسل إليَّ: إنه بلغني عنك أحاديث وأنا على ما ترى من الحال، فائتني إن خف عليك، قال: فأتيته فسمع مني، وفعل ذلك بعدد من أصحابي.

وقال ابن المبارك عن سفيان : كنت أقعد إلى سفيان الثوري فيحدث، فأقول: ما بقي شيء من علمه إلا وقد سمعته، ثم أقعد عنده مجلساً آخر فأقول: ما سمعت من علمه شيئاً.

عمله بالعلم

وقال عبد الرحمن بن مهدي : سمعت سفيان يقول: ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط إلا عملت به ولو مرة واحدة.

كان يحس بالمسئولية، ويخشى أن يقابل الله فيسأله عن كل حديث حفظه: لأي شيء حفظته؟ وهل عملت به؟ رحمه الله تعالى.

ورعه في الفتوى

ومع علمه كان ورعاً في الفتوى لا يتسرع في الإجابة، قال مروان بن معاوية : شهدت سفيان الثوري وسألوه عن مسألة في الطلاق، فسكت وقال: إنما هي الفروج أي: أخاف أن أفتي بالحل وهي محرمة عليه، فأتسبب في الوقيعة والوقوع في فرج لا تحل له.

وقال ابن أسباط: سئل الثوري وهو يشتري عن مسألة، فقال للسائل: دعني فإن قلبي عند درهمي فلست متفرغاً لأفتيك، وقد أخطئ وأنا منشغل بالبيع والشراء.

دقته في الاستنباط

وكان له دقة عجيبة في الاستنباط والفقه، فعن الفريابي قال: رأينا سفيان الثوري بـالكوفة ، وكنا جماعة من أهل الحديث، فنزل في دار، فلما حضرت صلاة الظهر دلونا دلواً من بئر في الدار، فإذا الماء متغير -متغير بشيء من النجاسة- فقال: ما بال مائكم هذا؟ قلنا: هو كذا منذ نزلنا هذه الدار، فقال: ادلوا دلواً من ماء البئر التي قبلكم، فإذا ماء أبيض، فقال: ادلوا دلواً من بئر الدار التي شرقيكم، فإذا ماء أبيض، ثم قال: ادلوا دلواً من بئر الماء التي غربيكم، فإذا هو ماء أبيض، فقال: ادلوا دلواً من ماء البئر التي شأمكم، فدلوا دلواً فإذا هو ماء أبيض، فقال: إن لبئركم هذه شأناً، كل ما حولها من الآبار نظيفة إلا هذه التي أنتم فيها، فحفرنا فأصبنا عرق كنيف ينزل فيها -عرق من مرحاض ينزل إلى هذه البئر فينجسها- فقال: منذ كم نزلتم هذه الدار؟ فقلنا: منذ أربع سنين، فأمر بإعادة صلاة أربع سنين.

وكان -رحمه الله تعالى- حكيماً في تعليمه، وكان يقول: إذا كنت في الشام فاذكر مناقب علي ؛ لأن بعضهم في تلك البلد كانوا يشتمون علياً ، وإذا كنت في الكوفة فاذكر مناقب أبي بكر وعمر ؛ لأن بعض المتشيعين في الكوفة كان يقع في أبي بكر وعمر .

وقال ابن المبارك رحمه الله: تعجبني مجالس سفيان الثوري ، كنت إذا شئت رأيته في الحديث، وإذا شئت رأيته في الفروع، وإذا شئت رأيته مصلياً، وإذا شئت رأيته غائصاً في الفقه.

عبادته وخشيته لله

وكانت عبادته عظيمة -رحمة الله عليه- قال يوسف بن أسباط : قال لي سفيان بعد العشاء: ناولني المطهرة أتوضأ، فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده، فبقي مفكراً، فنمت ثم قمت وقت الفجر فإذا المطهرة في يده كما هي، فقلت: هذا الفجر قد طلع! قال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة حتى هذه الساعة.

وكان عجيباً في قيامه لليل، كان يقوم الليل حتى الصبح في أيام كثيرة، وكان يرفع رجليه على الجدار بعد قيام الليل حتى يعود الدم إلى رأسه، وكان إذا أكل اجتهد في القيام بزيادة، أكل مرة طعاماً ولحماً ثم تمراً وزبداً، ثم قال: أحسن إلى الزنجي -أي: العبد- أحسن إلى الزنجي وكده.

ومرة قدم على عبد الرزاق، فقال عبد الرزاق : طبخت له قدر سكباج -لحم مع خل- فأكل، ثم أتيته بزبيب الطائف فأكل، ثم قال: يا عبد الرزاق ! اعلف الحمار ثم كده، وقام يصلي حتى الصباح.

وقال علي بن الفضيل : رأيت الثوري ساجداً، فطفت سبعة أسابيع -سبعة أشواط حول الكعبة- قبل أن يرفع رأسه وقال ابن وهب : رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نودي للعشاء.

وكانت خشيته لله أبلغ من أن توصف، قال قبيصة : ما جلست مع سفيان مجلساً إلا ذكرت الموت، وما رأيت أحداً أكثر ذكراً للموت منه.

وقال يوسف بن أسباط : كان سفيان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم من خشيته لله عز وجل. وقال سفيان : البكاء عشرة أجزاء: جزء لله، وتسعة لغير الله، فإذا جاء الذي لله في العام مرة فهو كثير.

زهده وورعه وتواضعه

وكان زاهداً.. أقبلت عليه الدنيا فتركها وأخذ كفايته حتى لا يحتاج إلى الناس، وربما اشتغل ببيع وشراء لأجل ألا يحتاج إلى الناس ولا يمد يده، وكان له وصايا في الزهد، فكان يقول: ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكن قصر الأمل وارتقاب الموت.

وكان يوصي من يخرج في سفر ألا يخرج مع من هو أغنى منه، فيكون إن ساويته بالنفقة أضر بك، إذا أنفقت مثله وهو أغنى منك أضر بك، وإن أنفقت أقل منه ظهرت كأنك بخيل، فاخرج مع من هو مثلك.

وأما إنكاره للمنكر فكان شائعاً كثيراً، قال شجاع بن الوليد : كنت أحج مع سفيان فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهباً وراجعاً. وكان استشعاره لمسئولية إنكار المنكر عظيمة، وخصوصاً الشيء الذي لا يستطيع تغييره، فعن سفيان قال: إني لأرى الشيء يجب عليَّ أن أتكلم فيه فلا أفعل فأبول الدم.

وعن ابن مهدي قال: كنا مع الثوري جلوساً بـمكة ، فوثب وقال: النهار يعمل عمله قوموا نعمل، الجلوس إذا كان مضيعة للوقت لا خير فيه.

وتواضعه كان عجيباً، وإزراؤه على نفسه كان كثيراً، قال ابن مهدي : بت عنده فجعل يبكي فقيل له عن سبب بكائه، فقال: لذنوبي عندي أهون من ذا -ورفع شيئاً من الأرض- ولكني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت! كان يخشى الله عز وجل في علمه وعمله، وهذه صور من التقوى والورع، وما خفي علينا ولم ينقل إلينا أعظم بكثير.

منزلته بين العلماء

وكذلك فإنه من أئمة الدنيا وطلاب العلم الكبار والعلماء الأفذاذ.. بقي بن مخلد -رحمه الله- كان من علماء الأندلس ، رحل من الأندلس إلى بغداد لملاقاة الإمام أحمد رحمه الله، وحصلت له قصة عجيبة مع الإمام أحمد .. قال فيما يروى عنه: لما قربت من بغداد اتصل بي خبر المحنة التي دارت على أحمد بن حنبل .. المحنة التي جرت على الإمام أحمد معروفة، وكان مما حصل على الإمام أحمد سجن وضرب، وحصل عليه إقامة جبرية، وحصل عليه منع من التحديث والتدريس.

بقي بن مخلد رجل من الأندلس جاء إلى بغداد لملاقاة أحمد بن حنبل ، فوجده مضروباً عليه الإقامة الجبرية والمنع من التدريس، ولا أحد يستطيع أن يقترب من بيت الإمام أحمد ، فماذا فعل؟ قال: فاغتممت لذلك غماً شديداً، فلم أعرج على شيء بعد إنزالي متاعي في بيت اشتريته في بعض الفنادق أن أتيت المسجد الجامع الكبير -أنزل العفش في الفندق وجاء إلى الجامع الكبير- قال: وأنا أريد أن أجلس إلى الحلق وأسمع ما يتذاكرون، فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يكشف عن الرجل فيضعف ويقوي.. فلان ثقة فلان ضعيف، وهكذا.. فقلت لمن كان بقربي: من هذا؟ قالوا: هذا العالم يحيى بن معين ، فرأيت فرجة قد انفرجت قربه -قرب الشيخ- فقمت إليه فقلت له: يا أبا زكريا رحمك الله! رجل غريب نائي الدار، أردت السؤال فلا تستخفني، فقال لي: قل، فسألت عن بعض من لقيته من أهل الحديث، فبعضاً زكى وبعضاً جرح، فسألته في آخر السؤال عن هشام بن عمار فقال: صاحب صلاة، دمشقي ثقة وفوق الثقة... إلخ.

ابتعاده عن الأمراء والسلاطين ونصحه لهم

ولما استخلف المهدي بعث إلى سفيان فلما دخل عليه خلع خاتمه -الخليفة يخلع خاتمه لـسفيان - فرمى به إلى سفيان وقال: يا أبا عبد الله ! هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة. فأخذ الخاتم بيده وقال: تأذن بالكلام يا أمير المؤمنين! قال السامع للراوي: قال له: يا أمير المؤمنين! قال: نعم. فقال الخليفة: نعم. يأذن له بالكلام. قال: أتكلم على أني آمن؟ قال: نعم. قال سفيان : لا تبعث إليَّ حتى آتيك، ولا تعطني حتى أسألك. قال: فغضب الخليفة وهمَّ به، فقال له كاتبه: أليس قد آمنته؟ قال: بلى. فلما خرج سفيان حس به أصحابه، فقالوا: ما منعك وقد أمرك أن تعمل في الأمة بالكتاب والسنة؟! فاستصغر عقولهم وخرج هارباً إلى البصرة ، وكان يقول: ليس أخاف إهانتهم، إنما أخاف كرامتهم فلا أرى سيئتهم سيئة. أي: إذا أكرموني تغاضيت عن الحق ولا أرى سيئتهم سيئة.

وكان ينكر عليهم الإسراف في الولائم في مواسم الحج، فعن محمد بن يوسف الفريابي : سمعت سفيان يقول: أُدخلت على أبي جعفر بـمنى فقلت له: اتق الله، فإنما أنزلت في هذه المنزلة وصرت في هذا الموضع بسيوف المهاجرين والأنصار وأبنائهم وهم يموتون جوعاً، حج عمر فما أنفق إلا خمسة عشر ديناراً وكان ينزل تحت الشجر. فقال الخليفة لـسفيان : أتريد أن أكون مثلك؟ قلت: لا. ولكن دون ما أنت فيه وفوق ما أنا فيه. فقال: اخرج.

ولما أُدخل على المهدي بـمنى وسلم عليه بالإمرة، فقال الخليفة: أيها الرجل! طلبناك فأعجزتنا، فالحمد لله الذي جاء بك، فارفع إلينا حاجتك. قال: وما أرفع؟ حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال: حج عمر فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهماً، قال عمر: أسرفنا! وإني أرى هنا أموراً لا تطيقها الجبال.

تنقله في البلاد هارباً ودفنه لكتبه

أما هرب سفيان وتنقله في البلاد هارباً فترة من عمره ودفنه لكتبه، فكان بسبب أن الخليفة أبا جعفر أراده على القضاء، فأبى أن يتولاه، فأراد أن يلزمه به، وكان يسجن ويضرب حتى يرضخ القاضي للقضاء، فهرب سفيان ، ولا زال هارباً متخفياً، وهو مع هربه يطلب الحديث ويطلب العلم ويعبد الله.. قال أبو أحمد الزبيري : كنت في مسجد الخيف مع سفيان والمنادي ينادي: من جاء بـسفيان فله عشرة آلاف. وقيل: إنه من أجل الطلب والملاحقة هرب إلى اليمن، فاتهموه -وهم لا يعرفونه في اليمن - بأنه سرق شيئاً؛ فأتوا به والي اليمن معن بن زائدة ، وكان عنده خبر من الخليفة بشأن طلب سفيان، فقيل للأمير: هذا قد سرق منا، فقال: لم سرقت متاعهم؟ قال سفيان : ما سرقت شيئاً.

فقال لهم الأمير: تنحوا حتى نسائله -حتى أحقق معه- ثم أقبل على سفيان فقال: ما اسمك؟ فقال: عبد الله بن عبد الرحمن، وأراد ألا يكذب ولا يذكر اسمه لأنه مطلوب عند الخليفة، فقال الأمير: نشدتك بالله لما انتسبت سأله بالله، فكان لا بد أن يجيب، قال: فقلت: أنا سفيان بن سعيد بن مسروق ، قال: الثوري ؟ فقلت: الثوري ، قال: أنت بغية أمير المؤمنين؟ قلت: أجل! فأطرق ساعة يفكر ثم قال: ما شئت أقم ومتى شئت فارحل، فوالله لو كنت تحت قدمي ما رفعتها. أي: أحميك وأدافع عنك، وكان معن بن زائدة فيه خير كثير.

وهرب إلى البصرة أيضاً، قال ابن مهدي : قدم سفيان البصرة والسلطان يطلبه، فصار إلى بستان، فأجر نفسه لحفظ الثمار، صار ناقوراً حارساً يحفظ الثمار، فمر به بعض العشارين الذين يأخذون أجزاء الثمار للوالي، فقال: من أنت يا شيخ؟ قال: من أهل الكوفة . فقال: أرطب البصرة أحلى من رطب الكوفة؟ قال: لم أذق رطب البصرة . قال: ما أكذبك! البر والفاجر والكلاب يأكلون الرطب الساعة. فرجع العامل إلى الوالي فأخبره ليعجبه بهذا الخبر العجيب، فقال الوالي: ثكلتك أمك! أدركه فإن كنت صادقاً فإنه سفيان الثوري ، فخذه لنتقرب به إلى أمير المؤمنين. فرجع في طلبه فما قدر عليه.

ولاحقه أبو جعفر ملاحقة شديدة وجدَّ في طلبه، فاختفى الثوري بـمكة عند بعض المحدثين.. قال عبد الرزاق : بعث أبو جعفر الخشابين حين خرج إلى مكة وقال: إن رأيتم الثوري فاصلبوه. فجاء النجارون ونصبوا الخشب ونودي عليه ورأسه في حجر الفضيل مختفٍ بالبيت، ورجلاه في حجر ابن عيينة ، فقيل له: يا أبا عبد الله ! اتق الله لا تشمت بنا الأعداء.. كان مختفياً في الحرم ورأسه في حجر الفضيل ورجلاه في حجر ابن عيينة ، فتقدم إلى الأستار ثم أخذه وقال: برئت منه إن دخلها أبو جعفر، قال: فمات أبو جعفر قبل أن يدخل مكة، فأخبر سفيان فما قال شيئاً، قال الذهبي رحمه الله: هذه كرامة ثابتة.

وفاته رحمه الله وثناء العلماء عليه

واستمر هذا الرجل على العطاء، وكان قد دفن كتبه فلما أمن استخرجها مع صاحب له، فقال صاحبه: في الركاز الخمس يا أبا عبد الله ! فقال: انتق منها ما شئت، فانتقيت منها أجزاء فحدثني بها.

استمر -رحمه الله- عابداً لربه مستمراً على العهد الذي بينه وبين الله علماً وتعليماً وعبادة حتى جاءه الأجل ووافاه قدر الله سبحانه وتعالى بالموت في البصرة ، في شعبان سنة إحدى وستين ومائة للهجرة، وقد غسله عبد الله بن إسحاق الكناني .

قال يزيد بن إبراهيم: رأيت ليلة مات سفيان قيل لي في المنام: مات أمير المؤمنين -أي: في الحديث. ولم يتمكن إخوانه وأصحابه من الاجتماع للصلاة عليه، فجعلوا يفدون إلى قبره يوم وفاته، ودفن وقت العشاء، وعن بعض أصحاب سفيان قال: مات سفيان بـالبصرة ودفن ليلاً ولم نشهد الصلاة عليه، وغدونا على قبره ومعنا جرير بن حازم وسلام بن مسكين من أئمة العلم، فتقدم جرير وصلى على قبره ثم بكى وقال:

إذا بكيت على ميت لمكرمة     فابك غداة على الثوري سفيان

وسكت، فقال عبد الله بن الصرباح :

أبكي عليه وقد ولى وسؤدده     وفضله ناظر كالغسل ريان

وقال سعيد : رأيت سفيان في المنام يطير من نخلة إلى نخلة وهو يقول: الحمد لله الذي صدقنا وعده. وهذا مما روي له من المنامات الصالحة بعد وفاته.

وقال إبراهيم بن أعين : رأيت سفيان بن سعيد بعد موته في المنام، فقلت: ما صنعت؟ فقال: أنا مع السفرة الكرام البررة.

قال أحمد بن حنبل رحمه الله: قال لي ابن عيينة : لن ترى بعينك مثل سفيان الثوري حتى تموت.

وقال الأوزاعي : لو قيل لي اختر لهذه الأمة رجلاً يقوم فيها بكتاب الله وسنة نبيه لاخترت لهم سفيان الثوري .

وقال ابن المبارك : كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان .

وقال ابن أبي ذئب : ما رأيت أشبه بالتابعين من سفيان الثوري .

وقال ابن المبارك : ما نُعت إلي أحد فرأيته إلا كان دون نعته -دون الوصف- إلا سفيان الثوري ، رحمه الله رحمة واسعة.

إنه أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري رحمه الله تعالى، من قبيلة ثور، وهي قبيلة من مضر، ولد -رحمه الله- سنة سبع وتسعين للهجرة، ودرس على أبيه سعيد بن مسروق ، الذي كان ثقة عند المحدثين، وأخرج له أصحاب الكتب الستة.