صور من حياة المرأة في الجاهلية المعاصرة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ,ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعــد:

فلا شك أنكم جئتم وأنتم تقرءون عنوان هذه المحاضرة، ألا وهو الحديث عن (صور من حياة المرأة في الجاهلية المعاصرة) وفي بادي الرأي فإن الموضوع قد يكون بعيداً عن القضية التي تناولها أخي أبو محمد جزاه الله خيراً، ألا وهي الأحداث الأخيرة التي نعيش آلامها وهمومها ومخاوفها جميعاً، ولكنه يمت إليه بسبب أي سبب، ألا وهو الحديث عن أن مصائب الأمة وآلامها ونكباتها الذي هو أثر من آثار بعدها عن هدي الله عز وجل في جميع شؤون حياتها، وأثر من آثار اعتمادها على الأمم الأخرى في سائر شؤونها، حيث أصبحنا نستورد منهم كل شيء , وأصبحنا نعتمد عليهم في كل شيء، ونأخذ منهم كثيراً من العادات والأخلاق والنظرات والأفكار والسلع والبضائع... إلى آخره، وكما يقول المثل: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض.

فإنما أصابت الأمة هذه الضربات الموجعة، ومزقتها هذه الشعارات الجاهلية البراقة يوم اختفت القيادات الشرعية الصادقة، فأصبحت الأمة نهباً لأصوات شتى، هي في ظاهرها أصوات مخلصة، وفي حقيقتها يسمع العاقل منها فحيح الأفاعي، وأصبحت الأمة نهباً لشعارات شتى، هي في ظاهرها شعارات براقة جميلة أخَّاذة، وفي حقيقتها الموت الزؤام، ولذلك فلا غرابة أن يكون نداؤنا وإلحاحنا وإصرارنا في مثل هذه الأحداث، على أن نقول: ليس المخرج من مثل هذه الأحداث هو انفعال مؤقت نعيشه بسبب أزمة طارئة، ولا غليان حادث أو عارض بسبب الأخبار التي نسمعها في كل ساعة وفي كل حين.. كلا!

المخرج من هذه الأحداث -بل ومما ينتظر الأمة من الأحداث مما هو أشد وأعظم- هو أن تستعصم بكتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم في الكبير والصغير من أمورها، والجليل والخطير، وألا ترضى عن شريعة الله تبارك وتعالى بدلاً.

بل أقول: العاصم -بإذن الله تعالى- أن تحمل الأمة -وأخص شبابها وفتياتها- همّ إعادة الحضارة الإسلامية إلى الوجود بجميع جوانبها؛ لتكون بديلاً عن الحضارات الزائفة التي تهيمن على البشرية في مشارق الأرض ومغاربها.

وقد يتساءل بعض الإخوة وبعض الأخوات عن سِرِّ طرحي لهذا الموضوع: "صور من حياة المرأة في الجاهلية المعاصرة".

بيان عظمة الإسلام

فأقول: أتحدث -أولاً- عن هذا الموضوع لأجلَّي جانباً من عظمة الإسلام في أحكامه وتشريعاته فيما يتعلق بحياة المرأة الخاصة وعلاقتها بالمجتمع من حولها، وكما يقول الشاعر:

والضد يظهر حسنه الضد     وبضدها تتميز الأشياء

فإنما عرف الناس فضل النور، حين خيم عليهم الظلام، ولا يعرف قيمة العافية إلا من عانى المرض، ولا يدرك شأن الإسلام إلا من عرف الجاهلية، هذا أولاً.

ثم إننا ندرك من خلال ذلك عظمة الإسلام في تلك التشريعات، على سبيل المثال، وفيما يتعلق بموضوع المحاضرة، كيف أن الإسلام جاء بالتشريع الذي يسد من خلاله منافذ الحرام، فيأمر المرأة بالحجاب، وينهاها عن التبرج، ويأمرها بالقرار في البيوت، والبعد عن مخالطة الرجال أو مزاحمتهم، فنجد الإسلام وهو يسد المنافذ المحرمة، ثم يفتح المنافذ المباحة بالزواج الشرعي: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] وبذلك يقيم حياة اجتماعية سليمة، يجد الرجل فيها أن اتجاهه منصب إلى وجهة واحدة في بيته وفي منـزله، فلا تتوزع طاقاته وقوته نهباً لمظاهر يراها في المجتمع وانحرافات وأشياء تثيره، وقد تكون سبباً في بعده وفي عزوفه عما أحل الله تعالى له.

وفي مقابل ذلك فإننا نجد الغرب باسم الحرية الشخصية المزعومة، استجاز التعري وافتضاح المرأة في قارعة الطريق، وفي الشارع، وفي أماكن اللهو، وفي أجهزة الإعلام، فهانت المرأة: أماً وأختاً وقريبة، وكذلك عزف عنها الزوج؛ لأن الرجل يجد في المجتمع من المظاهر الجذابة، ومن الصور الجميلة في كثير من الأحيان ما لا يجده في منـزله ومع أهله، وهكذا ساهمت هذه الحرية الشخصية المزعومة في تدمير البيوت، وكانت سبباً في اضطراب الأوضاع الاجتماعية وشيوع الرذائل، وعلى رأسها جريمة الزنا وما يتبعه من فساد عريض في أمور الاجتماع والصحة والاقتصاد وغيرها.

مواجهة التقليد

سبب آخر يستدعي طرح هذا الموضوع، ألا وهو مواجهة التقليد الذي أصبح سارياً في مجتمعنا عبر الشاشة وعبر المشاهدة الشخصية المباشرة، فلا شك أن مجتمعنا لم يعد الآن جزيرة معزولة في هذه الدنيا، بل أصبحت الفتاة ترى في الشاشة صوراً كثيرة، وقد تسافر مع أهلها، أو مع زوجها إلى بلاد غربية، فكثيراً ما نقتبس تلك العادات والأخلاق والتقاليد، حيث أصبحت الموضات التي تنتشر عند فتياتنا هي الموضات الغربية، وتسريحات الشعر منقولة عن فرنسا أو غيرها، والأخلاق هي الأخلاق، بل حتى أمورنا الخاصة، أصبحنا نستحلي ونستملح ونستطيب ما جاءنا من عند أعدائنا.

وأذكر أن إحدى الأخوات المهتديات تقول: إنها كانت تحتفظ في زمن جاهليتها وضلالها بألبوم فيه أكوام وأعداد من الصور لـديانا ولـتشارلز ولبقية الفئة، التي أصبحت كثير من فتياتنا تتعلق بهم وتتابع أخبارهم، وقد تعرف الفتاة -أو يعرف الفتى- من أخبار هؤلاء التائهين الضائعين الضالين الحائرين ما لا يعرفه عن أخبار الصحابة والتابعين، وما لا يعرفه عن أخبار آبائه وأجداده، بل وما لا يعرفه عن أخبار علمائه الذين يعيشون في عصره وفي وقته! وقد سئل أحدهم عن جماعة من العلماء المعاصرين المرموقين في هذه الجزيرة، فكان يقول: من فلان؟ من هو فلان؟

وليس قولك من هذا بضائره     العرب تعرف من أنكرت والعجم

َأتَذَكَّر أني قرأت كتاباً هو عبارة عن مراسلة تخص امرأة أمريكية مهتدية، كانت يهودية ثم أسلمت، ولا تزال تعيش على قيد الحياة في بلاد الهند، اسمها بعد إسلامها مريم جميل، وكانت تراسل وتكاتب الشيخ الداعية أبا الأعلى المودودي رحمه الله تعالى، أمير الجماعة الإسلامية في باكستان، ففي هذا الكتاب صورة عجيبة عن الرفض الفطري عند تلك المرأة لهذه العادات والتقاليد الموجودة في الغرب، فكانت تكتب له قبل أن تسلم عن امتعاضها وانـزعاجها من مبالغة الغرب في العناية بالملابس والثياب والأزياء، وتفننهم في إظهار زينة المرأة بكافة الصور والأشكال، وتلاعبهم بجسد المرأة حيث جعلوه سلعة تباع وتشترى وتروج البضائع من خلالها، وتستغل أبشع استغلال في الإعلانات عبر التلفزيون وغيره، فكانت -وهي المرأة الكافرة وقتها- تعرب عن امتعاضها من هذه الصورة التي تستغل المرأة من خلالها، وكان ذلك من أسباب رفضها لدينها وحضارتها الغربية، وإقبالها على الإسلام، حيث آمنت وأسلمت، وأصبحت في عصمة أحد الدعاة المسلمين في الباكستان كما أسلفت.

والمؤسف -أيها الإخوة- أن يقوم إعلامنا بدور فعال في نقل تعاسة الغرب إلى عقول أبنائنا وبناتنا، فإن كثيراً من الشباب يعكفون على الشاشة، وربما يقضون أمامها وقتاً طويلاً، ومن خلال هذه المشاهد التي تعرض في قنوات التلفاز، يقتبسون أشكالهم وأزياءهم وتسريحاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعلاقاتهم، حتى أفلحت أجهزة الإعلام في قلب مجتمعنا، وجعل ما كان ممقوتاً مذموماً بالأمس مستحسناً لدى كثير من الشباب اليوم، وأوجد التناقض في نفوس الشباب والفتيات، فالفتاة التي تقرأ -مثلاً- في مدارسها وفي مقرراتها أن المرأة كلها عورة في الصلاة إلا وجهها، وأنه يجب أن تستر جسدها كله عن الرجال الأجانب، وألا تختلط بهم، وألا تخلو مع غير ذي محرم، أصبحت تشاهد في التلفاز امرأة مثلها وقد نشرت شعرها وكشفت صدرها وذراعيها وساقيها، وأصبحت تضاحك رجالاً أجانب وتمازحهم وتركب معهم، وتذهب وتجيء، وتخلو وتختلط، ويحدث ما هو أكثر من ذلك من الصور التي لا تحتاج مني إلى تفصيل وبيان.

ومن الطبيعي لفتاة مراهقة -مثلاً- لم تجد التوجيه السليم أن تنطبع في ذهنها هذه الصورة، وأن تعمل على تطبيقها في حياتها العملية، أو تتطلع إلى ذلك إذا لم يتح لها المجتمع أن تطبقها.

على أننا نجد أن إعلام الغرب على ما فيه، إذا أردنا أن نقارنه بالإعلام الموجه الهادف في البلاد الإسلامية، لوجدنا أن إعلام الغرب أهون من الإعلام الموجود في بلاد الإسلام؛ وذلك بسبب أن إعلام الغرب يحكي واقعهم الاجتماعي، ولا تكاد تجد في إعلامهم صورة بعيدة عما هو واقع في مجتمعهم، بل ربما نقول العكس أنك تجد في مجتمعاتهم صوراً لا تنشر في إعلامهم أحياناً، فإعلامهم هين بالقياس إلى مجتمعهم، وليس يسعى إلى جر مجتمعهم إلى هوة سحيقة أسوأ مما هم فيه.

أما الإعلام في البلاد الإسلامية فهو على النقيض من ذلك، فهو مسلط على شعوب مؤمنة، الإسلام دينها وعقيدتها، والشريعة منهجها، والحشمة ديدنها وميراثها، فيتسلط هذا الإعلام ليخرج العذراء من خدرها، ويلقي بها في قارعة الطريق، يتسلط على عقول فتياتنا، حتى يقنع الفتاة بأن هذه الأشياء أفكار قديمة، وأنها يجب أن تواكب العصر، وتتحرر مما يسميه بالتقاليد القديمة، وهذا صحيح أنه قد لا يقال بهذه الحروف، لكنه يقال بلغة هي أفصح من هذه الحروف، ألا وهي لغة الصورة المعبرة، التي يكون تأثيرها أحسن من خطبة أو كلمة تقال أو تسمع.

مواجهة دعاة التغريب

والحاجة أيضاً ماسة لطرح هذا الموضوع -ثالثاً- من أجل مواجهة دعاة التغريب الذين يريدون أن تكون المرأة أَمَة (قَيْنة) يعبثون بها، ويستمتعون بها كيف شاءوا، ثم يلقون بها كما يلقي أحدهم بأعقاب السيجارة في القمامة، فكذلك يريدون أن يستمتعوا بهذه المرأة.

وأذكر أنني قرأت في بعض المجلات كلمة لفتاة من إحدى دول المغرب العربي، تذكر كيف أنها وقعت ضحية لجماعة من الشيوعيين الذين خدعوها بالشعارات البراقة، باسم البروليتاريا، وحقوق العمال، والأخوة الأيديولوجية وغير ذلك من الشعارات حتى عبثوا بها وأهدروا كرامتها، واستلوا منها أنوثتها، ثم ألقوا بها جثة بعد أن عبثوا بحسدها، فشعرت بالخطورة، وحينئذ لم يفدها هذا الأمر إلا أن تعلن توبتها ورفضها لهؤلاء، بل أعلنت في الصحف أنها سوف تنتقم من هذا المجتمع، ومن مثل تلك الشخصيات التي قادتها إلى هذه الهوة السحيقة.

فنحن حين نبطل الأصل الذي يتمسك به دعاة التغريب، نستطيع أن نبطل الفرع، ونقول لهم: قد تبين زيف الحضارة التي تنادون بها وتدعون إليها، فعليكم أن تسكتوا وتدخلوا في جحوركم، أو تسلموا وتؤمنوا وتعودوا إلى ربكم.

طمأنة قلوب المؤمنين والمؤمنات

وأخيراً.. فإن طرح مثل هذا الموضوع هو سبب تطمئن به قلوب المؤمنين والمؤمنات، على أنه مهما كثرت الشعارات والانحرافات، وكثر في أوساط الفتيات: التقليد والتشبث بعادات الأمم الأخرى وأخلاقها وأزيائها وتسريحاتها وأخلاقها ومُثلها، إلا أن مثل هذه الأمة لا بد أن تعود إلى أصالتها.

يحدثني أحد الشباب -وهو ثقة- أنه ذهب إلى بريطانيا يدرس فيها، وأقام هناك عند أسرة أو عائلة مكونة من امرأة عجوز كبيرة السن وزوج، ومجموعة من الفتيات خارج البيت يزرن أمهن بين الفينة والأخرى، فيقول لي: إنه كان يتحدث مع هذه المرأة عن الإسلام، وعن أخلاقيات الإسلام، وعن مثل الإسلام وقيمه، فكانت تقول له: إن هذه الصورة التي تتحدث عنها صورة رائعة، وأننا نفتقدها في بلادنا، فيقول لي هذا الشاب ذهبت تودعني إلى المطار لما أردت أن أسافر، وكانت تتحدث معي بلهجة حزينة، وتكاد أن تبكي؛ لأنها فقدت الحنان، وتشعر أن زوجها يريد أن يتخلى عنها، لأنه شاب وهي أكبر منه سناً، وبناتها يركضن وراء الحياة بعيداً عنها، وتتمنى أن تعيش في بلاد الإسلام، فقالت: نحن لن نراكَ بعد الآن؟ فقال لها مازحاً: لقد ذكرتِ لي أنك إذا مت فإنك تريدين أن تحرق جثتك، فإذا مت فأنا سوف آتي لأشارك في مراسم العزاء، وأشارك في حرق هذه الجثة، وهو يضحك عليها، فيقول: فدمعت عيناها، وقالت لي: أريد أن أعيش في مثل مجتمعكم ولو سنة واحدة، ثم أحرقوني بعد ذلك! وتقول: والله إن خمسة وخمسين سنة قضيتها، ومع ذلك إنني أشعر أنني لم أدخل إلى الحياة حتى الآن..!

صيحات الخطر تتعالى في بلاد الغرب، والنذر تتوالى عندهم، والدراسات تعلن النفير وأن حضارة الغرب آيلة إلى الفناء والسقوط، ولذلك فإن البديل هو الإسلام، فلتطمئن نفوس المؤمنين والمؤمنات، وليعلموا أن هذة الأمة -أمة الإسلام- لا بد لها من الرجوع إلى دينها والعودة إلى مصادرها الحقيقية، ومظاهر ذلك ظاهرة الآن.

فنحن الآن نجد كثيراً من الفتيات والحمد لله قد عدن إلى الالتزام في عاداتهن وفي أزيائهن وأخلاقهن وأفكارهن، وهذه بوادر نرجو أن تكون بداية لعودة حقيقية عامة شاملة عند بنات هذا الجيل إلى دين الله وشرعه.

فأقول: أتحدث -أولاً- عن هذا الموضوع لأجلَّي جانباً من عظمة الإسلام في أحكامه وتشريعاته فيما يتعلق بحياة المرأة الخاصة وعلاقتها بالمجتمع من حولها، وكما يقول الشاعر:

والضد يظهر حسنه الضد     وبضدها تتميز الأشياء

فإنما عرف الناس فضل النور، حين خيم عليهم الظلام، ولا يعرف قيمة العافية إلا من عانى المرض، ولا يدرك شأن الإسلام إلا من عرف الجاهلية، هذا أولاً.

ثم إننا ندرك من خلال ذلك عظمة الإسلام في تلك التشريعات، على سبيل المثال، وفيما يتعلق بموضوع المحاضرة، كيف أن الإسلام جاء بالتشريع الذي يسد من خلاله منافذ الحرام، فيأمر المرأة بالحجاب، وينهاها عن التبرج، ويأمرها بالقرار في البيوت، والبعد عن مخالطة الرجال أو مزاحمتهم، فنجد الإسلام وهو يسد المنافذ المحرمة، ثم يفتح المنافذ المباحة بالزواج الشرعي: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] وبذلك يقيم حياة اجتماعية سليمة، يجد الرجل فيها أن اتجاهه منصب إلى وجهة واحدة في بيته وفي منـزله، فلا تتوزع طاقاته وقوته نهباً لمظاهر يراها في المجتمع وانحرافات وأشياء تثيره، وقد تكون سبباً في بعده وفي عزوفه عما أحل الله تعالى له.

وفي مقابل ذلك فإننا نجد الغرب باسم الحرية الشخصية المزعومة، استجاز التعري وافتضاح المرأة في قارعة الطريق، وفي الشارع، وفي أماكن اللهو، وفي أجهزة الإعلام، فهانت المرأة: أماً وأختاً وقريبة، وكذلك عزف عنها الزوج؛ لأن الرجل يجد في المجتمع من المظاهر الجذابة، ومن الصور الجميلة في كثير من الأحيان ما لا يجده في منـزله ومع أهله، وهكذا ساهمت هذه الحرية الشخصية المزعومة في تدمير البيوت، وكانت سبباً في اضطراب الأوضاع الاجتماعية وشيوع الرذائل، وعلى رأسها جريمة الزنا وما يتبعه من فساد عريض في أمور الاجتماع والصحة والاقتصاد وغيرها.

سبب آخر يستدعي طرح هذا الموضوع، ألا وهو مواجهة التقليد الذي أصبح سارياً في مجتمعنا عبر الشاشة وعبر المشاهدة الشخصية المباشرة، فلا شك أن مجتمعنا لم يعد الآن جزيرة معزولة في هذه الدنيا، بل أصبحت الفتاة ترى في الشاشة صوراً كثيرة، وقد تسافر مع أهلها، أو مع زوجها إلى بلاد غربية، فكثيراً ما نقتبس تلك العادات والأخلاق والتقاليد، حيث أصبحت الموضات التي تنتشر عند فتياتنا هي الموضات الغربية، وتسريحات الشعر منقولة عن فرنسا أو غيرها، والأخلاق هي الأخلاق، بل حتى أمورنا الخاصة، أصبحنا نستحلي ونستملح ونستطيب ما جاءنا من عند أعدائنا.

وأذكر أن إحدى الأخوات المهتديات تقول: إنها كانت تحتفظ في زمن جاهليتها وضلالها بألبوم فيه أكوام وأعداد من الصور لـديانا ولـتشارلز ولبقية الفئة، التي أصبحت كثير من فتياتنا تتعلق بهم وتتابع أخبارهم، وقد تعرف الفتاة -أو يعرف الفتى- من أخبار هؤلاء التائهين الضائعين الضالين الحائرين ما لا يعرفه عن أخبار الصحابة والتابعين، وما لا يعرفه عن أخبار آبائه وأجداده، بل وما لا يعرفه عن أخبار علمائه الذين يعيشون في عصره وفي وقته! وقد سئل أحدهم عن جماعة من العلماء المعاصرين المرموقين في هذه الجزيرة، فكان يقول: من فلان؟ من هو فلان؟

وليس قولك من هذا بضائره     العرب تعرف من أنكرت والعجم

َأتَذَكَّر أني قرأت كتاباً هو عبارة عن مراسلة تخص امرأة أمريكية مهتدية، كانت يهودية ثم أسلمت، ولا تزال تعيش على قيد الحياة في بلاد الهند، اسمها بعد إسلامها مريم جميل، وكانت تراسل وتكاتب الشيخ الداعية أبا الأعلى المودودي رحمه الله تعالى، أمير الجماعة الإسلامية في باكستان، ففي هذا الكتاب صورة عجيبة عن الرفض الفطري عند تلك المرأة لهذه العادات والتقاليد الموجودة في الغرب، فكانت تكتب له قبل أن تسلم عن امتعاضها وانـزعاجها من مبالغة الغرب في العناية بالملابس والثياب والأزياء، وتفننهم في إظهار زينة المرأة بكافة الصور والأشكال، وتلاعبهم بجسد المرأة حيث جعلوه سلعة تباع وتشترى وتروج البضائع من خلالها، وتستغل أبشع استغلال في الإعلانات عبر التلفزيون وغيره، فكانت -وهي المرأة الكافرة وقتها- تعرب عن امتعاضها من هذه الصورة التي تستغل المرأة من خلالها، وكان ذلك من أسباب رفضها لدينها وحضارتها الغربية، وإقبالها على الإسلام، حيث آمنت وأسلمت، وأصبحت في عصمة أحد الدعاة المسلمين في الباكستان كما أسلفت.

والمؤسف -أيها الإخوة- أن يقوم إعلامنا بدور فعال في نقل تعاسة الغرب إلى عقول أبنائنا وبناتنا، فإن كثيراً من الشباب يعكفون على الشاشة، وربما يقضون أمامها وقتاً طويلاً، ومن خلال هذه المشاهد التي تعرض في قنوات التلفاز، يقتبسون أشكالهم وأزياءهم وتسريحاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعلاقاتهم، حتى أفلحت أجهزة الإعلام في قلب مجتمعنا، وجعل ما كان ممقوتاً مذموماً بالأمس مستحسناً لدى كثير من الشباب اليوم، وأوجد التناقض في نفوس الشباب والفتيات، فالفتاة التي تقرأ -مثلاً- في مدارسها وفي مقرراتها أن المرأة كلها عورة في الصلاة إلا وجهها، وأنه يجب أن تستر جسدها كله عن الرجال الأجانب، وألا تختلط بهم، وألا تخلو مع غير ذي محرم، أصبحت تشاهد في التلفاز امرأة مثلها وقد نشرت شعرها وكشفت صدرها وذراعيها وساقيها، وأصبحت تضاحك رجالاً أجانب وتمازحهم وتركب معهم، وتذهب وتجيء، وتخلو وتختلط، ويحدث ما هو أكثر من ذلك من الصور التي لا تحتاج مني إلى تفصيل وبيان.

ومن الطبيعي لفتاة مراهقة -مثلاً- لم تجد التوجيه السليم أن تنطبع في ذهنها هذه الصورة، وأن تعمل على تطبيقها في حياتها العملية، أو تتطلع إلى ذلك إذا لم يتح لها المجتمع أن تطبقها.

على أننا نجد أن إعلام الغرب على ما فيه، إذا أردنا أن نقارنه بالإعلام الموجه الهادف في البلاد الإسلامية، لوجدنا أن إعلام الغرب أهون من الإعلام الموجود في بلاد الإسلام؛ وذلك بسبب أن إعلام الغرب يحكي واقعهم الاجتماعي، ولا تكاد تجد في إعلامهم صورة بعيدة عما هو واقع في مجتمعهم، بل ربما نقول العكس أنك تجد في مجتمعاتهم صوراً لا تنشر في إعلامهم أحياناً، فإعلامهم هين بالقياس إلى مجتمعهم، وليس يسعى إلى جر مجتمعهم إلى هوة سحيقة أسوأ مما هم فيه.

أما الإعلام في البلاد الإسلامية فهو على النقيض من ذلك، فهو مسلط على شعوب مؤمنة، الإسلام دينها وعقيدتها، والشريعة منهجها، والحشمة ديدنها وميراثها، فيتسلط هذا الإعلام ليخرج العذراء من خدرها، ويلقي بها في قارعة الطريق، يتسلط على عقول فتياتنا، حتى يقنع الفتاة بأن هذه الأشياء أفكار قديمة، وأنها يجب أن تواكب العصر، وتتحرر مما يسميه بالتقاليد القديمة، وهذا صحيح أنه قد لا يقال بهذه الحروف، لكنه يقال بلغة هي أفصح من هذه الحروف، ألا وهي لغة الصورة المعبرة، التي يكون تأثيرها أحسن من خطبة أو كلمة تقال أو تسمع.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع