جنة الدنيا [2]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعـد:

فإنه لعظيم حقاً أثر الإيمان في حياة الإنسان، وكيف يغير الإيمان مسار الإنسان ليخرجه خلقاً آخر متمتعاً بصفات عالية وأخلاق سامية، إنه يحتوي على مواصفات عظيمة وقد سبق أن ذكرنا -أيها الإخوة- بعضاً من هذه الصفات التي يتصف بها المؤمن عند إيمانه وماذا يفعل الإيمان للإنسان، ومن ذلك الأمن النفسي الذي قال الله تعالى فيه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] فكما لا يتحسر المؤمن على الماضي باكياً حزيناً، ولا يلقى الحاضر جزوعاً ساخطاً، ولا يواجه المستقبل خائفاً وجلاً، ولا يعيش في فزع ورهبة وغموض وتوجس من المستقبل كأنه عدو شرير، بل إنه يعيش آمن النفس مطمئناً؛ لأن الإيمان مصدر أمنه.

والأمن من ثمرات الطمأنينة والسكينة التي وهبها الله للمؤمنين، ولا عجب أن جعل الله الجنة دار أمن وسلام، فأهلها في الغرفات آمنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، تتلقاهم الملائكة منذ دخولهم قائلة لهم: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:46].

إن أهل الجاهلية البعيدين عن الدين يعيشون في خوف وقلق وهم لازم، إنهم يخافون من المستقبل خوفاً عظيماً، فلا ترى أحدهم مرتاحاً في عيشته ولا آمناً باله، ولا مطمئنة نفسه، كما يقول الواحد منهم معبراً عن نفسه: إنني أعيش في خوف دائم.. في رعب من الناس والأشياء ورعب من نفسي.. لا أغنت عني الثروة التي أملكها، ولا المركز الممتاز الذي أتبوءه، ولا السهرات الحمراء ولا غير ذلك من مباهج الدنيا الحلال والحرام؛ فإنني أرى الأشباح من حولي وأرى الخوف فاتحاً فاه ليلتهمني، إنني تائه في الحياة مع أنني بلغت قمتها، إنها صارت عدوي رغم كل ما أملكه فيها، إنني أخاف من الحياة ذاتها... هكذا يعيش الواحد من البعيدين عن الدين في ضيق الصدر، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:124].

فهذا الضنك في المعيشة والضيق في العيش يذيقه الله للبعيد عن دينه المعرض عن شرعه، رغم كثرة ماله وفسحة بيته إلا أن الفسحة الحقيقية في الصدر -أيها الإخوة- لا في البيوت ولا في السيارات الفارهة.

ولذلك يعيش المؤمن آمناً مطمئناً في سلام وسكينة وأمن نفسي رغم أن بيته ضيق، ورغم أن سيارته قديمة، ورغم أن ملابسه بالية؛ لأن السعادة الحقيقية ليست في المظاهر وإنما هي في الحقائق.

وهذا الأمن الذي يوفره الإيمان للإنسان، فقد ضرب لنا القرآن الكريم نموذجاً حياً لأم مؤمنة صار إيمانها مصدر أمنها رغم أنها في حال خوف وقلق، ولكنها لم تخف؛ لأن الله ثبتها: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص:7] إذا خافت؛ ألقته في اليم مع أن إلقاءه في اليم بحد ذاته مصدر خوف عظيم وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص:7] ألقيه في البحر .. امرأة تلقي ولدها في البحر! وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ [القصص:7-8] هذا المؤمن النبي ليكون لهم في المستقبل عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص:8] واستجابة الأم لصدق موعود الله الذي وعدها، والله لا يخلف الميعاد: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:13].

إن الناس -أيها الإخوة- يخافون من أشياء كثيرة وأمور شتى، ولكن المؤمن سدت أبواب الخوف عنده فلم يعد يخاف إلا الله وحده؛ يخافه أن يكون فرط في حقه، أو اعتدى على خلقه، أما الناس فإنه لا يخافهم؛ لأنهم لا يملكون له ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].

ولما دعا أبو الأنبياء إلى توحيد الله وقام بتحطيم الأصنام وخوفه قومه من آلهتهم قال لهم متعجباً: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81] وقرر الله الحقيقة بنفسه قائلاً الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم بالشرك، ففسره بقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

فيتبين لنا أن أساس الأمن، ومنبع الأمن هو التوحيد والإيمان الخالص لله تعالى، وأن الشرك هو مصدر الخوف ومصدر القلق ومصدر الهم بكل نوع من أنواعه، والكفر بالله تعالى هو القلق والهم والغم والصعاب النفسية، وهو أهم أسباب الخوف والاضطراب والرعب، ولذلك قال الله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً [آل عمران:151] أي: بسبب شركهم سنلقي في قلوبهم الرعب.

الفرق بين المؤمن والكافر في مسألة الرزق

أيها المسلمون: إن الناس يتكلمون عن الرزق، وعن الرواتب، وعن الوظائف، وعن التجارات، وعن الأرباح، وعن الأسهم، وعن المشاريع، وعن الخاسر منها وغير الخاسر، إن الناس في قلق في القضية المادية.. في قضية الدخل.. الطرد من الوظيفة.. إيجاد وظيفة؛ ولكن المؤمن آمن حتى من جهة رزقه؛ فهو يعلم أن رزقه لن يفوت، وأن الأرزاق في ضمان الله الذي لا يخلف وعده، ولا يضيع عبده، وقد خلق الأرض مهاداً، وفراشاً وبساطاً، وبارك فيها، وقدر أقواتها وجعل فيها معايش، وتكفل بأرزاق العباد، وكرر وأقسم ووعد سبحانه وتعالى، وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ [الروم:6] قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58] وقال تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الذاريات:22-23] فهو يحلف بنفسه سبحانه: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات:23].

إن المؤمن يعلم أنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وإن المؤمن يعلم أن الله يرزق كل أحد وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60] وأنه مهما كان له رزق فسيأتيه ولا ينافي ذلك سعيه، فهو من الأسباب، والأسباب من التوحيد، ولكن مع الإيمان بالمسبب وخالقها، والاعتماد على خالق الأسباب، وأن الإنسان سيأتيه رزقه قل أو كثر؛ لكنه إذا قل لا يسخط من ربه، وإذا كثر لا يطغى على شريعة ربه.

إن المؤمن يعيش بالضمانات التي ذكرها الله تعالى في كتابه من أنه هو الرزاق.. والعالم اليوم يريدون في اتفاقياتهم ضمانات ويبحثون عن ضمانات وهم دائماً يطلبون الضمانات؛ لأنهم خائفون من نقض العهود والمواثيق والمستقبل.

فإذا كان المؤمن عنده الضمانات في هذه الآيات من ربه؛ فمم يخاف؟ وعلى أي شيء في رزقه يخشى وهو يعلم أن الله رزق الطير في أوكارها، والسباع في فلواتها، والأسماك في البحار، والديدان في الصخور؟

ولذلك كان المؤمن يذهب إلى ساحات الجهاد حاملاً رأسه على كفه متمنياً الموت في سبيل عقيدته، من خلفه ذرية ضعافاً يخشى عليهم..

.........................وأفراخ     زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

ومع ذلك هو يوقن أنه تركهم في رعاية رب كريم حقاً.

أيها الإخوة! إنه لموقف صعب أن يطلب من أحدنا أن يذهب إلى ساحات الجهاد وعنده أطفال صغار!! فمن الذي يفعل ذلك ويضحي ويقدم؟!

إنه الإنسان الذي يوقن بأن هناك رباً رحيماً أمره بالجهاد فهو يطيع، وتكفل له برعاية أولاده ورزقهم فهو لأجل ذلك يغادرهم، وإلا ما غادر مؤمن أولاده إلى ساحات الجهاد قط، وتقول الزوجة عن زوجها وهو ذاهب في سبيل الله: إني عرفته أكالاً وما عرفته رزاقاً، ولئن ذهب الأكال لقد بقي الرزاق.

الفرق بين المؤمن والكافر في مسألة الأجل

والمؤمن آمن على أجله، فإن الله قدر له ميقاتاً مسمى، وأياماً معدودة، وأنفاساً محدودة لا تملك قوة في الأرض أن تنقص منها، قال تعالى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:11].. إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [نوح:4].. وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [فاطر:11].

أيقن المؤمن أن الله فرغ من الآجال والأعمار وكتب ذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فما الذي يغيرها الآن؟ ومن الذي يغيرها؟ وكتب على كل نفس متى تموت، وأين تموت.

ومن كانت منيته بأرض     فليس يموت في أرض سواها

وبهذه الحقيقة ألقى المؤمن عن كاهله هم التفكير في الموت والخوف على الحياة.

وبعض الناس يحتاطون لأجل الموت، يشترون القبر، ويعمرونه، ويزينونه، ويفعلون ويفعلون .. ثم يموتون بأرض أخرى!

إن التجهز للموت حق ولكن بالحق، باليقين بأن الإنسان ربما يموت في غير البقعة التي توقع أن يموت فيها، وأن علم ذلك مما انفرد به الله تعالى.

لما هدد الحجاج سعيد بن جبير بالقتل قال له سعيد: "لو علمت أن الموت والحياة في يدك ما عبدت إلهاً غيرك".

المؤمن لا يخاف الموت فهو يعلم أنه زائر لا بد من لقائه، وقادم لا ريب فيه، لا يرده الخوف منه ولا يثنيه الجزع: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8].. أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78].. قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:54] أي: إلى الموضع الذي قدر الله أن يقتلوا فيه.

ويهون الموت على المؤمن إذا عرف أنه سبيل أفضل الناس من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فلا عليه إذن إذا اقتفى أثرهم وسار في دربهم.

إن الموت خطبٌ قد عظم حتى هان، وخشن حتى لان، إنه بلية عمت والبلايا إذا عمت هانت إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] هذا من جهة الحس في المؤمن.

أما من جهة الاستعداد له فالموت خطب عظيم في نفسه، فهو يستعد له، ولكن هل يخاف من الموت خوفاً سلبياً يقعد به عن العمل كما يشتكي عدد من الناس؟ يقول: إن زوجتي تخاف من الموت ولا تنام بالليل، ولا لها طعام، ولا ذاقت شيئاً، وإنها قد مرضت ونحل عودها، فإذا كان الخوف من الموت خوف سلبي قعد بالإنسان عن ممارسة أي شيء.

وهناك خوف إيجابي: وهو الذي يدفع للاستعداد للموت، ونحن نريد الخوف الثاني فنعظمه في أنفسنا، وأما الخوف الأول فنهونه في أنفسنا؛ لأن الموت طريق لا بد أنه مسلوك.

ومتاع الدنيا أهون عند المؤمن أن يأسى على فواته، لماذا يخاف أهل الدنيا الموت؟ لماذا إذا قلت لأحدهم: فلان مات قال: أعوذ بالله؟! تعوذ بالله من الموت وهو آتيه آتيه.

لماذا يخافون الموت؟ لأنه سيحرمهم من المخططات، والأرباح، والنعيم، وكل الآمال التي يأملونها سيحرمون منها، ولذلك يكرهونه ويخافونه، والمؤمن يود أن يفسح له في الحياة .. لا لأجل أن يعمر قصراً، أو يشتري سيارة، لكن لأجل أن يستكثر من الأعمال الصالحة، وأن يتوب توبة أخرى.

الموت -أيها الإخوة- ليس عدماً محضاً ولا فناءً صرفاً، بل هو انتقال من حياة إلى حياة، ومن طور إلى طور.

وما الموت إلا رحلة غير أنـها     من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي

إنها انطلاقة من قفص الجسد لتعود إليه يوم الدين، وقد كتب أحد الصالحين في وصيته أبياتاً يبين هذه الحقيقة لإخوانه بعد موته:

قل لإخوان رأوني ميتاً     فبكوني ورثوني حزنا

أتظنون بأني ميتكـم     ليس هذا الميت والله أنا

أنا في الصور وهذا جسدي     كان ثوبي وقميصي زمنا

أنا عصفور وهذا قفصي     طرت عنه وبقي مرتهنا

أنا عصفور وهذا قفصي: الجسد الذي ترونه ممتداً أمامكم على الفراش.

لا تظنوا الموت موتاً إنه     ليس إلا نقلة من هاهنا

أيها الإخوة: إذا نظرنا إلى جسد الشيخ الكبير الذي تقدمت به السن، ونظرنا إلى تجاعيده وترهل هذا الجسد ولين العظام، إذا نظرت جيداً إلى جسد العجوز الفاني لعلمت أن خلقان الثوب الذي بداخله الروح لا بد أن يعنيه أن هناك انتقالاً؛ لأن هذا الثوب وهذا الجسد بعد هذا الترهل والتجاعيد لا بد أن ينتقل؛ لا بد أن يكون هناك انتقال فإذا رأيت بيتاً يهدم ويخرب فاعلم أن هناك تصميماً جديداً وبناء جديداً.

ولعل من حكمة الله أن يجعل جسد الإنسان يهترئ ويذبل؛ ليتمعن المتمعنون بأن هذا الجسد الآن بعد اهترائه في سن الشيخوخة لم يعد يصلح أن يستمر ثوباً للبدن، وأن هناك تغيراً واضحاً من حال العجوز الفاني والشيخ الكبير، وأن هذا الجسد لم يعد يتحمل الاستمرار؛ فلا بد من التغيير والتغيير بالموت، ولكن الموت ليس هو الفناء وإنما تنتقل الروح من عالم إلى عالم آخر.

أيها المسلمون: إن الناس يتكلمون عن الرزق، وعن الرواتب، وعن الوظائف، وعن التجارات، وعن الأرباح، وعن الأسهم، وعن المشاريع، وعن الخاسر منها وغير الخاسر، إن الناس في قلق في القضية المادية.. في قضية الدخل.. الطرد من الوظيفة.. إيجاد وظيفة؛ ولكن المؤمن آمن حتى من جهة رزقه؛ فهو يعلم أن رزقه لن يفوت، وأن الأرزاق في ضمان الله الذي لا يخلف وعده، ولا يضيع عبده، وقد خلق الأرض مهاداً، وفراشاً وبساطاً، وبارك فيها، وقدر أقواتها وجعل فيها معايش، وتكفل بأرزاق العباد، وكرر وأقسم ووعد سبحانه وتعالى، وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ [الروم:6] قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58] وقال تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الذاريات:22-23] فهو يحلف بنفسه سبحانه: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات:23].

إن المؤمن يعلم أنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وإن المؤمن يعلم أن الله يرزق كل أحد وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60] وأنه مهما كان له رزق فسيأتيه ولا ينافي ذلك سعيه، فهو من الأسباب، والأسباب من التوحيد، ولكن مع الإيمان بالمسبب وخالقها، والاعتماد على خالق الأسباب، وأن الإنسان سيأتيه رزقه قل أو كثر؛ لكنه إذا قل لا يسخط من ربه، وإذا كثر لا يطغى على شريعة ربه.

إن المؤمن يعيش بالضمانات التي ذكرها الله تعالى في كتابه من أنه هو الرزاق.. والعالم اليوم يريدون في اتفاقياتهم ضمانات ويبحثون عن ضمانات وهم دائماً يطلبون الضمانات؛ لأنهم خائفون من نقض العهود والمواثيق والمستقبل.

فإذا كان المؤمن عنده الضمانات في هذه الآيات من ربه؛ فمم يخاف؟ وعلى أي شيء في رزقه يخشى وهو يعلم أن الله رزق الطير في أوكارها، والسباع في فلواتها، والأسماك في البحار، والديدان في الصخور؟

ولذلك كان المؤمن يذهب إلى ساحات الجهاد حاملاً رأسه على كفه متمنياً الموت في سبيل عقيدته، من خلفه ذرية ضعافاً يخشى عليهم..

.........................وأفراخ     زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

ومع ذلك هو يوقن أنه تركهم في رعاية رب كريم حقاً.

أيها الإخوة! إنه لموقف صعب أن يطلب من أحدنا أن يذهب إلى ساحات الجهاد وعنده أطفال صغار!! فمن الذي يفعل ذلك ويضحي ويقدم؟!

إنه الإنسان الذي يوقن بأن هناك رباً رحيماً أمره بالجهاد فهو يطيع، وتكفل له برعاية أولاده ورزقهم فهو لأجل ذلك يغادرهم، وإلا ما غادر مؤمن أولاده إلى ساحات الجهاد قط، وتقول الزوجة عن زوجها وهو ذاهب في سبيل الله: إني عرفته أكالاً وما عرفته رزاقاً، ولئن ذهب الأكال لقد بقي الرزاق.

والمؤمن آمن على أجله، فإن الله قدر له ميقاتاً مسمى، وأياماً معدودة، وأنفاساً محدودة لا تملك قوة في الأرض أن تنقص منها، قال تعالى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:11].. إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [نوح:4].. وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [فاطر:11].

أيقن المؤمن أن الله فرغ من الآجال والأعمار وكتب ذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فما الذي يغيرها الآن؟ ومن الذي يغيرها؟ وكتب على كل نفس متى تموت، وأين تموت.

ومن كانت منيته بأرض     فليس يموت في أرض سواها

وبهذه الحقيقة ألقى المؤمن عن كاهله هم التفكير في الموت والخوف على الحياة.

وبعض الناس يحتاطون لأجل الموت، يشترون القبر، ويعمرونه، ويزينونه، ويفعلون ويفعلون .. ثم يموتون بأرض أخرى!

إن التجهز للموت حق ولكن بالحق، باليقين بأن الإنسان ربما يموت في غير البقعة التي توقع أن يموت فيها، وأن علم ذلك مما انفرد به الله تعالى.

لما هدد الحجاج سعيد بن جبير بالقتل قال له سعيد: "لو علمت أن الموت والحياة في يدك ما عبدت إلهاً غيرك".

المؤمن لا يخاف الموت فهو يعلم أنه زائر لا بد من لقائه، وقادم لا ريب فيه، لا يرده الخوف منه ولا يثنيه الجزع: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8].. أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78].. قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:54] أي: إلى الموضع الذي قدر الله أن يقتلوا فيه.

ويهون الموت على المؤمن إذا عرف أنه سبيل أفضل الناس من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فلا عليه إذن إذا اقتفى أثرهم وسار في دربهم.

إن الموت خطبٌ قد عظم حتى هان، وخشن حتى لان، إنه بلية عمت والبلايا إذا عمت هانت إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] هذا من جهة الحس في المؤمن.

أما من جهة الاستعداد له فالموت خطب عظيم في نفسه، فهو يستعد له، ولكن هل يخاف من الموت خوفاً سلبياً يقعد به عن العمل كما يشتكي عدد من الناس؟ يقول: إن زوجتي تخاف من الموت ولا تنام بالليل، ولا لها طعام، ولا ذاقت شيئاً، وإنها قد مرضت ونحل عودها، فإذا كان الخوف من الموت خوف سلبي قعد بالإنسان عن ممارسة أي شيء.

وهناك خوف إيجابي: وهو الذي يدفع للاستعداد للموت، ونحن نريد الخوف الثاني فنعظمه في أنفسنا، وأما الخوف الأول فنهونه في أنفسنا؛ لأن الموت طريق لا بد أنه مسلوك.

ومتاع الدنيا أهون عند المؤمن أن يأسى على فواته، لماذا يخاف أهل الدنيا الموت؟ لماذا إذا قلت لأحدهم: فلان مات قال: أعوذ بالله؟! تعوذ بالله من الموت وهو آتيه آتيه.

لماذا يخافون الموت؟ لأنه سيحرمهم من المخططات، والأرباح، والنعيم، وكل الآمال التي يأملونها سيحرمون منها، ولذلك يكرهونه ويخافونه، والمؤمن يود أن يفسح له في الحياة .. لا لأجل أن يعمر قصراً، أو يشتري سيارة، لكن لأجل أن يستكثر من الأعمال الصالحة، وأن يتوب توبة أخرى.

الموت -أيها الإخوة- ليس عدماً محضاً ولا فناءً صرفاً، بل هو انتقال من حياة إلى حياة، ومن طور إلى طور.

وما الموت إلا رحلة غير أنـها     من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي

إنها انطلاقة من قفص الجسد لتعود إليه يوم الدين، وقد كتب أحد الصالحين في وصيته أبياتاً يبين هذه الحقيقة لإخوانه بعد موته:

قل لإخوان رأوني ميتاً     فبكوني ورثوني حزنا

أتظنون بأني ميتكـم     ليس هذا الميت والله أنا

أنا في الصور وهذا جسدي     كان ثوبي وقميصي زمنا

أنا عصفور وهذا قفصي     طرت عنه وبقي مرتهنا

أنا عصفور وهذا قفصي: الجسد الذي ترونه ممتداً أمامكم على الفراش.

لا تظنوا الموت موتاً إنه     ليس إلا نقلة من هاهنا

أيها الإخوة: إذا نظرنا إلى جسد الشيخ الكبير الذي تقدمت به السن، ونظرنا إلى تجاعيده وترهل هذا الجسد ولين العظام، إذا نظرت جيداً إلى جسد العجوز الفاني لعلمت أن خلقان الثوب الذي بداخله الروح لا بد أن يعنيه أن هناك انتقالاً؛ لأن هذا الثوب وهذا الجسد بعد هذا الترهل والتجاعيد لا بد أن ينتقل؛ لا بد أن يكون هناك انتقال فإذا رأيت بيتاً يهدم ويخرب فاعلم أن هناك تصميماً جديداً وبناء جديداً.

ولعل من حكمة الله أن يجعل جسد الإنسان يهترئ ويذبل؛ ليتمعن المتمعنون بأن هذا الجسد الآن بعد اهترائه في سن الشيخوخة لم يعد يصلح أن يستمر ثوباً للبدن، وأن هناك تغيراً واضحاً من حال العجوز الفاني والشيخ الكبير، وأن هذا الجسد لم يعد يتحمل الاستمرار؛ فلا بد من التغيير والتغيير بالموت، ولكن الموت ليس هو الفناء وإنما تنتقل الروح من عالم إلى عالم آخر.

أيها الإخوة: إن من مصادر الأمن والسكينة لدى المؤمن الأمل الذي يضيء له الظلمات، وينير له المعالم، ويهديه السبيل وتنمو به شجرة الحياة، ويرتفع به صرح العمران، فهو قوة دافعة تشرح للعمل وتخلق دواعي الكفاح من أجل الواجب وتبعث النشاط في الروح والبدن.

فالإيمان يولد الأمل والأمل مهم في الحياة .. ما الذي يدفع الزارع إلى الكدح والعرق إلا أمله في الحصاد؟

وما الذي يغري التاجر بالأسفار والمخاطر إلا الأمل في الربح؟

وما الذي يبعث الطالب على الجد والمثابرة إلا الأمل في النجاح؟

وما الذي يحبب إلى المريض الدواء المر إلا الأمل في الشفاء؟ وما الذي يدعو المؤمن إلى أن يخالف طبيعته وهواه ويتحمل المشاق في هذه الدنيا؟

إنه الأمل في جنة الفردوس، فهذا الأمل هو الذي يهون هذه الصعاب، فهو دافع النشاط ومخفف الويلات وباعث البهجة:

.....................     ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

إذا يأس التلميذ من النجاح -أيها الإخوة- نفر من الكتاب والقلم، وضاق بالبيت والمدرسة، ولم يعد ينفعه درس خاص ولا عام، ولا نصح يسدى ولا تهيئة المكان ولا الجو المناسب ولا.. ولا .. إلا أن يعود إليه شيء واحد يحل له كل هذه المشكلة، ألا وهو الأمل، فإذا رجع الأمل انحلت المشكلة.

وإذا يأس المريض من الشفاء كره الدواء، وكره الطبيب، والعيادة، والصيدلية، وضاق بالحياة والأحياء، ولم يعد يجديه العلاج إلا أن يعود إليه الأمل، وهكذا إذا تغلب اليأس على إنسان اسودت الدنيا في وجهه، وأظلمت في عينيه، وأغلقت أمامه أبوابها، وتقطعت دونه أسبابها، وضاقت عليه بما رحبت.

اليأس سم بطيء لروح الإنسان، وإعصار مدمر لنشاطه، ولا إنتاج ولا إحساس حينئذٍ.

واعلموا أن اليأس ملازم للكفر، كما أن الأمل ملازم للإيمان، وليس بعجيب أن تجد أصناف اليائسين بغزارة وكثرة بين الجاحدين لله البعيدين عن شرع الله، إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87].. وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56] يتجلى هذا اليأس في الشدة ونزول الشر كما ذكر الله: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ [هود:9].. وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً [الإسراء:83].. وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ [فصلت:49] لكن استثنى الله صنفاً واحداً فقال: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [هود:11] فلو خسر في تجارة، أو رسب في مدرسة، أو حصل له فشل في شيء فإنه لا ييئس ولا يقنط؛ لأن أمله مستمر برب رءوف رحيم، ليس اليأس فقط من الدنيا وإنما -أيضاً- السخط على الرب كما قال المعري:

هذا ما جناه أبي عليَّ     وما جنيت على أحد

ولكن المؤمن أوسع الناس أملاً.

لماذا أيها الإخوة؟ ما هو السر في أن المؤمن عنده أمل والكافر والضال يائس وقانط؟

السبب: أن المؤمن يؤمن بأن هناك إلهاً رحيماً قديراً يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويمنح الجزيل، ويغفر الذنوب، ويقبل التوبة، ويعفو عن السيئات، أرحم من الوالدة بولدها، وأبر بخلقه من أنفسهم، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، يفرح بتوبة عبده أشد من فرحة من أضل شيئاً إذا وجد ضالته، والغائب إذا وفد، والظمآن إذا ورد. إله يجزي الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ويزيد، ويجزي السيئة بمثلها أو يعفو، إله يدعو المعرض عنه من قريب، ويتلقى المقبل عليه من بعيد، ويقول: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) إله يداول الأيام بين الناس؛ فيبدل من بعد الخوف أمناً ومن بعد الضعف قوة، ويجعل من كل ضيق فرجاً، ومن كل هم مخرجاً .. ومع كل عسر يسراً، فلذلك يأمل المؤمن فيه.

هذا مبعث الأمل وهذا هو السر: الاعتصام بالإله البر الرءوف الرحيم العزيز الكريم الفعال لما يريد، يعيش المؤمن على أمل لا حد له، ورجاء لا تنفصم عراه، إنه دائماً متفائل، ينظر إلى الحياة بوجه غير الذي ينظر إليها الكافر، لا ينظر إلى الحياة بوجه عبوس قمطرير، فهو إذا حارب فهو واثق بالله أنه سينصره؛ لأنه مع الله والله معه إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ [الصافات:172-173].

إذا مرض لم ينقطع أمل المؤمن أبداً من العافية الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:78-80].

إذا اقترف ذنباً أو جرماً المؤمن لم ييئس من المغفرة، ومهما كان الذنب عظيماً فإن عفو الله أعظم قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

والمؤمن إذا أعسر وضاقت ذات يده أمل في الله ولم يزل إيمانه فيه عظيماً لقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5-6] ولن يغلب عسرٌ يسرين ولو دخل العسر جحراً لدخل اليسر حتى يخرجه.

والمؤمن إذا انتابته كارثة من كوارث الزمن ووقعت به المصيبة؛ فإن أمله في الله مازال موجوداً، كيف يكون موجوداً والولد قد مات؟ كيف يكون موجوداً والبيت قد احترق، والمال قد ذهب؟ إنه موجود في رجاء الأجر على احتساب المصيبة بالصبر الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156].

نسأل الله تعالى أن يجعلنا بإيماننا آمنين مطمئنين وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين, وأن يتوب علينا إنه هو البر الرءوف الرحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.




استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
اقتضاء العلم العمل 3611 استماع
التوسم والفراسة 3608 استماع
مجزرة بيت حانون 3529 استماع
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] 3496 استماع
اليهودية والإرهابي 3424 استماع
إن أكرمكم عند الله أتقاكم 3424 استماع
حتى يستجاب لك 3393 استماع
المحفزات إلى عمل الخيرات 3370 استماع
ازدد فقهاً بفروض الشريعة 3347 استماع
الزينة والجمال 3335 استماع