أهمية الإيمان باليوم الآخر


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون )َ)[آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

إخواني: جعل الله اليوم الآخر بعقابه وثوابه نهايةً لهذا العالم الذين نعيش فيه، والله عز وجل حكمٌ عدلٌ لا يظلم أحداً، جعل الجنة أهلاً لمن أطاعه، وجعل النار عقاباً لمن عصاه، وأخذ العهد على نفسه أن يثيب من أطاعه وألا يظلمه شيئاً، وأخذ العهد على نفسه أن يجعل الكفار المشركين في النار خالدين مخلدين، فقال سبحانه وتعالى: فَحَقَّ وَعِيدِ [ق:14].

أيها الإخوة: واليوم الآخر نعمة عظيمة من نعم الله، والإيمان به ركن من أركان الإيمان، وهو أن تؤمن بالله واليوم الآخر وبالرسل والكتب والنبيين وبالقدر خيره وشره، والذي لا يؤمن باليوم الآخر عاقبته سوداء، ومصيره إلى جهنم -والعياذ بالله- وقد كابر في هذه المسألة المشركون كثيراً، وناقشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها طويلاً، وكان أحدهم يأتي بالعظم البالي فيفته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: أتزعم أن ربك يعيد هذا؟ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24] .. وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام:29] فأنكر الكفار اليوم الآخر.

إن الكفرة العصاة لا يستطيعون أن يتحملوا التفكير في أن هناك يوماً آخر، وأن هذه الأعمال التي تعمل في الدنيا لا بد من الجزاء والحساب عليها، وأهل الشهوات لا يستطيعون أن يتحملوا في أدمغتهم وأذهانهم شيئاً اسمه اليوم الآخر؛ ولذلك فهم يسارعون إلى نفيه ويتكبرون ويستكبرون في الاعتراف به، وبعضهم يتناساه ويتغافل عنه ولا يفكر به نهائياً؛ لأن التفكير في المصير أمر مؤلم خصوصاً بالنسبة لأولئك العصاة الذين حادوا عن منهج الله عز وجل، والله الحكيم العليم يعلم أن البشر لا تسمح حواسهم أبداً على هذه الأرض، ولا يستقيم لهم نظام، ولا تحكم أمورهم وعلاقاتهم وأعمالهم إلا باليوم الآخر الذي يكون وراء هذه الحياة الدنيا.

وبدون اليوم الآخر فإن هؤلاء البشر -كما هو حادث الآن- سينطلقون في شهواتهم في كل اتجاه، ويتكالبون على المتاع المحدود -متاع الحياة الدنيا- وترى المصارعة والتصارع بين الأفراد والأنظمة، والأجناس والطبقات يغير بعضهم على بعض، وينطلق الكل في الغابة كالوحوش الكاسرة يأكل القوي الضعيف، والظالم يأكل المظلوم وهكذا، لشيء واحد وهو أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، والله عز وجل يبتلي البشر ليعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو في شك.

أيها الإخوة: إن الإيمان باليوم الآخر له انعكاساته وآثاره في حياة المسلم، الإيمان باليوم الآخر هو الذي يهيئ الاهتمامات، ويجعل التعلق بالدنيا أمراً لا مجال له عندما يعلم الإنسان أن هذه الدنيا زائلة، وأن الآخرة مقبلة، وأن هذه الأيام والأنفاس ستنقضي لا محالة، وأنه سيقدم على الله في يوم يعرض فيه على ربه لا تخفى منه خافية؛ فنتيجة للإيمان بهذا اليوم، وبأن هناك حشراً وحساباً وصراطاً وجنةً وناراً، عذاباً وجزاءً، نتيجةً لهذا ستنشأ سلوكيات لم تكن لتنشأ لولا الإيمان باليوم الآخر، وستنشأ هناك أعمال لله عز وجل لم تنشأ لو لم يكن هناك إيمان بالله واليوم الآخر.

وسيتسع تصور المسلم للحياة وللكون عندما يؤمن ويوقن بأن هناك يوماً آخر، وسيعلم بأن الموت في هذه الحياة ليس نهاية كل شيء، وأن هناك أشياء أخرى أعظم مما يجري الآن بكثير، ولا يمكن المقارنة أبداً، ستنفتح عيناه عليها في اليوم الآخر.

وأما أولئك الكفرة الذين لا يؤمنون باليوم الآخر فإنهم يحشرون تصوراتهم وأنفسهم وقيمهم في جحر ضئيل ذليل حقير هو الحياة الدنيا، فالكفار -الآن- يعملون وينشطون ويجدون ويخترعون، ويبنون ويعمرون، ويعملون متناوبين آناء الليل وأطراف النهار؛ لأنهم يظنون أن هذه الحياة هي الحياة فقط، وأنه لا شيء بعد ذلك، وأن هذا العمر هو العمر فقط، وأنه لا عمر بعد ذلك، فلأجل ذلك هم يستغلون كل لحظة من هذه الحياة وهذه الأيام وهذا العمر؛ لكي يتمتعوا ويتقدموا، ولكي يأخذوا حظهم من هذه الحياة الدنيا، ولذلك ليس عندهم أي تفسيرٍ فيما وراء هذه الحياة الدنيا: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64] لهي الحياة الحقيقة كما أخبر الله عز وجل، وهي الحياة الدائمة، وحياتنا هذه لا تساوي شيئاً بالنسبة للحياة في اليوم الآخر.

هذا اليوم الذي يبدأ بانقلابات في هذا الكون إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق:1] .. إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:1-6].

وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً [طـه:105].

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ [الرحمن:37].

كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً [الفجر:21].

ولما تقع الواقعة: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً [الواقعة:2-6] وفي ذلك اليوم: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً [الفجر:22]فيقدم الله سبحانه وتعالى ويجيء مجيئاً يليق بجلاله وعظمته إلى ساحة القضاء للفصل بين العباد، فيُحاكمون بين يدي الجبار، والملائكة صفوفاً صفوفاً في عظم خلقتهم التي خلقهم الله عليها، فيكون الموقف عظيماً، ويكون المشهد جسيماً، وتكون العاقبة هناك فعلاً لأهل الإيمان وأهل الكفران.

أيها الإخوة: نحن لم نر الجنة ولا النار، ولا الصراط، ولا الشمس وهي تدنو من رءوس الخلائق، لم نر هذه الأشياء؛ فهي لذلك بعيدة عن الحس، ولكن حس من؟ حس الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر، أما حس المؤمن فهو عندما يقرأ هذه الآيات في القرآن، وعندما تتلى على مسامعه أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يحس أن الجنة والنار فعلاً أقرب إليه من شراك نعله، يحس أنها قريبة جداً وأن الآزفة قد أزفت، وأن الموعد قد اقترب؛ فهو لأجل ذلك يعمل لآخرته ويكدح ويجد أكثر مما يعمل أهل الدنيا لدنياهم، فإذا كان أهل الدنيا يجعلون هذا اليوم الأربعة والعشرين ساعة يجعلونه على مراحل ومراتب؛ لكي لا يخلو يوم من العمل ولا ساعة من الساعات، حتى في الليل فهم يعملون في نوبات متواصلة لأجل البناء والتعمير كما يزعمون في الدنيا.

بالمقارنة أهل الآخرة يقول الله عز وجل في شأنهم، هم يعملون -أيضاً- في نوبات ليلية: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ [الزمر:9] ساجداً وقائماً لأي شيء؟ يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] والله مدح المؤمنين بأنهم يصدقون بيوم الدين، ومدحهم فقال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [النمل:3].

الإيمان باليوم الآخر -أيها الإخوة- له فوائد عظيمة جداً ونتائج باهرة، فمن فوائده:

من فوائد اليوم الآخر: أن النفس إذا علمت العوض استعدت للبذل

النفس عندما تعلم ضخامة العوض، وأن طاعة الله عاقبتها جنة عرضها السماوات والأرض، نعيمها لا يفنى، وعيشها دائم، أكلها وظلها دائمان، وما فيها من أنواع النعيم، فإن هذا الجزاء العظيم ينسي المسلم تعب العمل وكده لله عز وجل؛ لأنه يتطلع إلى الأمام، يتطلع إلى الآخرة، فنعيم الجنة ينسيه ما في طاعة الله من المشقة والتعب.

والعبادة لله تكاليف فيها مشقة على العبد، في الصيام، أو في الحج، وحتى في إخراج زكاة المال فيها تكاليف شاقة لكن العباد يستطيعونها، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، لكن هل فيها مشقة؟ نعم، هل فيها جهد؟نعم، هل فيها عمل؟ نعم، لا جنة بلا عمل أو تعب أو جهد أو مشقة يقوم بها العبد.. فكيف إذاً سيتحمل العباد المشقة والجهد في طاعة الله؟ وكيف سيتخلون عن هذا النعيم؟ كيف سيقوم المصلي لصلاة الفجر من دفئ الفراش والنوم الهانئ؟ كيف سيقوم منه إلى صلاة الفجر بتلك المشقة والتعب؟ إذا لم يكن هناك عوض ولم يكن هناك جزاء هل كان سيهجر مضجعه ليقوم إلى المسجد لصلاة الفجر؟ وقل مثل ذلك في جميع الأعمال التي يقوم بها العباد لرب العالمين، فاليوم الآخر إذاً هو المتنفس.. هو الأمل.. هو النعيم الحقيقي الذي ينسي المسلم التعب الذي يتعبه في الدنيا، وهو النعيم الذي يعوض المؤمن عما يفوته الآن من نعيم الدنيا؛ لأنه يعمل لله رب العالمين.

إن النفس إذا علمت عظم العوض استعدت للبذل، ما الذي يجعل المقاتل المجاهد في سبيل الله يدفع روحه ونفسه وماله لله رب العالمين؟ إذا لم يكن هناك عوض أكبر من التضحية بالنفس والمال هل كان سيضحي بنفسه وماله؟

والكفار على النقيض من المؤمنين لا يفكرون في اليوم الآخر مطلقاً، ولا يحسبون له أي حساب: إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ [الإنسان:27] الدنيا، ولكنهم: وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً [الإنسان:27] ثقيلاً عليهم بطوله، كان مقداره خمسين ألف سنة، ثقيلاً عليهم بتبعاتهم لأنهم سيحملون أوزارهم على ظهورهم وينتظرون في ذلك الموقف العظيم تحت الشمس الدانية من رءوسهم والعطش الكبير، ثم يقولون: عطشنا ربنا فاسقنا؛ فإذا جهنم يحطم بعضها بعضاً، فيساقون بالسلاسل والأغلال إلى النار فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:72] فهو يوم: وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً [الإنسان:27]هؤلاء الكفرة الذين لم يكونوا في الدنيا يفكرون بهذا اليوم، سيصبح هذا النسيان وبالاً عليهم يوم القيامة.

من فوائد اليوم الآخر: ظهور آثار أسماء الله وصفاته

ومن أعظم فوائد هذا اليوم: ظهور آثار أسماء الله وصفاته؛ فإن الله عز وجل رحيم، غفور، شديد العقاب، جبار، يوم القيامة ينادي الجبار في السماوات عندما يقبضها بيمينه والأرض معها، فيقول: (أنا الجبار، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) فلا يجيبه أحد، فيظهر عند ذلك أثر عظيم من آثار أسماء الله وصفاته، عندما يفنى كل شيء: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27] فيظهر ذلك الأثر ويعلن في السماوات والأرض أن لا إله إلا الله، وأن كل من عليها فان، وأن الباقي وجه ربك سبحانه وتعالى.

ويظهر أثر اسم الله (الرحيم) عندما يدخل الجنة أناساً برحمته، وعندما يستر على المؤمنين ذنوباً كانوا يخافونها ويتوقعون أن يشاهدوها في سجلات أعمالهم.

ويظهر أثر صفة الله بأنه (شديد العقاب) عندما يلقي الكفار والعصاة في النار فيحترقون فيها فيكونون هم حصب جهنم، وهم وقود النار.

ويظهر كذلك أثر اسم الله (الجبار المتكبر) عندما يحشر المتكبرون كأمثال الذر -مثل النمل على صورة الرجال- يطؤهم الناس بأقدامهم.

من فوائد اليوم الآخر: شفاء صدور المؤمنين والمظلومين

وفي هذا اليوم شفاء صدور المؤمنين.. شفاء صدور المظلومين، يأتي المقتول يجر القاتل، فيقول: يا رب! انظر هذا فيمَ قتلني؟ يأتي الذين قد عذبوا في الدنيا من المؤمنين فينتقم الله لهم من الكفرة الذين عذبوهم فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:34-36].

وهذا اليوم يقام فيه ميزان العدل: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الأنبياء:47] وتوزن الأعمال بالدقة، بالشعرة، لا يخفى شيء ولا يفوت منها شيء، فيكون العدل الحقيقي، الآن في الدنيا المحاكم أكثرها على شريعة لم ينزلها الله عز وجل ولم يأذن بها، فهي تحكم بغير ما أنزل الله، وقد يوجد محاكم على الشريعة ولكن القاضي جائر لا يحكم بما أنزل الله، ويأتيه الهوى وتأتيه الرشاوي فتجعله يحيد عن شرع الله.. أما يوم القيامة فسيعاد الحق إلى نصابه، وسيقام العدل في أرض المحشر في أرض الحساب، فلا يفوت شيء أبداً، وتظهر عزة المؤمنين وذلة الكفار.

في الدنيا قد يسام المؤمنون أنواع العذاب، وقد يظهر المتمسكون في أعين العامة أنهم أذلاء، وأن السيطرة والقوة للجبابرة العتاة المسيئين، ويوم القيامة يوم تبيض فيه وجوه وتسود وجوه، تبيض فيه وجوه أهل السنة، وتسود فيه وجوه أهل البدعة؛ فيرى الناس جميعاً أهل المعاصي والكفر والشرك والبدعة والظلم وجوههم قد اسودت، فينادى على رءوس الأشهاد أن لعنة الله على الظالمين، فيظهر عند ذلك العز الحقيقي والذل الحقيقي في ذلك اليوم الذي يكسي الله به وجوه أهل السنة ويذل وجوه أهل البدعة.

وإن كان المسلمون المؤمنون الصادقون في الدنيا فقراء محتاجون، لكن قد لا يعطف عليهم أحد، فإن الله يجعل الكفار في الآخرة يمدون أيديهم يناشدون المؤمنين: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50] هذا من فوائد اليوم الآخر.

من فوائد اليوم الآخر: أن المسلم لا يندم على كل عمل عمله ولم ير ثمرته في الدنيا

ومن فوائده: أن المسلم العامل لدين الله لا يندم على كل عمل عمله ولو لم ير ثمرة عمله في الدنيا.

إن الذين يريدون إقامة منهج الله في الأرض، ويشتغلون بالدعوة إلى الله والتربية على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الناس الذين اصطفاهم الله من بين البشر للقيام بهذه المهمة قد لا يأتي عليهم اليوم الذي يرون فيه ثمرات أعمالهم يانعة، أو يرون فيه قيام المنهج الصحيح كما أراده رب العالمين على الأرض، وقد لا يأتي عليهم اليوم الذي يرون فيه سراج الدين وهاجاً، وقد لا يأتي عليهم اليوم الذي يرون الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، ولكنهم بسبب إيمانهم أن هذه الأعمال لن تضيع، وأن أجرها عند رب العالمين فهم لذلك يعملون مع طول الليل الحالك، ولو لم يروا بزوغ الفجر؛ لأنهم يعلمون أين الفجر الحقيقي، ولأنهم يعلمون أن كل هذه الأعمال لن تذهب سدىً أبداً، وأنهم سيجزون بها عند الله الجزاء الأوفى؛ فيهون على هذا المسلم الصادق طول الطريق والمشقات والعقبات الموجودة في هذا الطريق؛ لأنه يعلم متى وأين سيلقى هذا الجزاء عند رب العالمين.

ولا يقلق على الأجر وإن كان العمل صغيراً، فهو يعلم أن هناك رجلاً دخل الجنة بسبب جذع أزاحه من الطريق كان يؤذي المسلمين، يعلم هذا فهو لا يتهاون بأي عمل: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) وعندما يعلم الإنسان أنه حتى شق التمرة يأخذ عليها أجراً؛ فإنه لن يتهاون بالأعمال الصالحة ولو كانت قليلة، بعكس المتهاونين المفرطين الذين يقولون: وماذا ستغني عنا هذه الأمور؟ ولماذا نتمسك بهذه القشور؟ وما تغني عنا هذه التوافه؟ وليس لنا شأن بالمظاهر، علينا باللب والجوهر؛ فيضيع عليهم هذا الأجر العظيم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).

من فوائد اليوم الآخر: أن الحساب فردي

ومن فوائد هذا اليوم: أن الحساب فيه فردي وليس جماعي، والله عز وجل لا يحاسب بالقوائم وإنما يحاسب كل فرد بما كسبت يداه: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا [النحل:111]: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] مرتهنة، مقيدة، محاطة بما كسبته.

بعض الناس يقول: الموت مع الجماعة رحمة، وما دام الناس يعصون أنا مثلي مثلهم، فيكون إمعةً، ويزين له الشيطان اجتماع الناس على المعاصي، فيقول: أنا واحد مثل هؤلاء، فيعصي مثلهم وكأنه يظن أن هؤلاء الناس سيشفعون له عند الله، وأن الناس ما دام أنهم تابعوا فلاناً وفلاناً؛ فإنهم عند الله معذورون بهذه المتابعة، ولكن إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:166-167].

بعض الناس يقول: أسأل شيخ علم أو إمام مسجد وآخذ بفتواه وأنا أعلم أنها مخالفة للشرع، وهو يكون ستراً بيني وبين النار، أجعل بيني وبين النار شيخاً أو مطوعاً كما يقولون، كل هذه الهراءات تنسفها هذه الآية من كتاب الله عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33].

وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر:18].

لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:94-95].

بعض الناس الذين يقولون: نحن نقلد تقليداً أعمى، يقلد من يثق به تقليداً أعمى، ما دام يأمرنا فنحن نطيع، وهو يقول وليس علينا شيء، التبعة عليه إن أساء.

نقول لهم: إن الله سيحاسب التابع والمتبوع، ولن يعذر الله التابع بسبب ضلال المتبوع، لماذا لم تفكر؟ لماذا لم تتدبر وتقول في نفسك: هل هذا الذي أمرني به فلان طاعة لله أم لا؟ لماذا التقليد الأعمى؟ إن الذين يحملون قياداتهم مسئوليات أنفسهم في الخير والشر هؤلاء لا يعذرون أمام الله أبداً، وسوف يقف القائد والمقود، والتابع والمتبوع، والمقلَّد والمقلِّد عند الله فيحاسبهم سبحانه وتعالى حساباً فردياً، كل واحد يحاسب بما فعل وبما عمل، فليست المسألة -أيها الإخوة- تقليداً أعمى وأننا نجري وراء فلان وفلان والإثم عليهم.. كلا.

أسأل الله العلي القدير أن يجعلنا وإياكم ممن يخشى هذا اليوم، ويعمل له الأعمال الصالحة، وأن يجعلنا سبحانه وتعالى ممن يخشاه في الغيب والشهادة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

من فوائد اليوم الآخر: إرجاع الحق إلى نصابه

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، وله الملك وإليه ترجعون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله دعانا إلى كتاب ربنا وبيَّن لنا الحلال والحرام، وبيَّن لنا سبيل الهدى وسبل الضلال حتى نجتنبها، فصلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.

أيها الإخوة: من فوائد اليوم الآخر إرجاع الحق إلى نصابه، وقد ذكرنا هذا قبل قليل، ولكن لأهمية هذه المسألة لا بد أن نركز عليها -أيضاً- الناس اليوم كما يصف الكثيرون -حتى من العامة- في غابة يأكل القوي الضعيف؛ بسبب البعد عن منهج الله عز وجل، ولكن هذا المقبور وهذا المظلوم المغلوب الذي يقع تحت نيل الظلم والغلبة بأولئك الجبارين المتكبرين في الأرض، هذا الرجل أو هذه المرأة سيتكفل الله بإرجاع الحق له يوم القيامة، وربما يكون من الخير له أن ظلم الآن حتى يأخذها يوم القيامة بالحسنات والسيئات، يأخذ من حسنات ظالمه فإذا فنيت حسنات الظالم أخذ من سيئات المظلوم فطرحت على الظالم ثم طرح في النار.

هذا الظلم لا يرضاه الله عز وجل: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) ينهى سبحانه وتعالى عن الظلم، وهذه قصة مما حدث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين لنا كيف كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأثرون بهذا المفهوم.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاء رجل فقعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم. فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك في كفة وعقابك إياهم في الكفة الأخرى، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم -عاقبتهم أكثر مما يستحقون- اقتص لهم منك الفضل -أخذوا منك الفرق- فتنحى الرجل وجعل يهتف ويبكي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تقرأ قول الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] فقال الرجل: يا رسول الله! ما أجد لي ولهؤلاء شيئاً خيراً من مفارقتهم، أشهدك أنهم كلهم أحرار..) رواه أحمد والترمذي وهو حديث صحيح.

فالصحابة رضي الله عنهم كانت عندهم شفافية في النفس تجاه الظلم، كانوا يتحرون أشد التحري في قضية الظلم، فهذا الصحابي أعتق العبيد كلهم؛ لأنه خشي أن يكون قد ظلمهم أو عاقبهم أكثر مما أساءوا إليه.. كل هذا يوم القيامة: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].

أيها الإخوة: ما الذي يضمن عدم ظلم الزوج لزوجته أو العكس؟ ما الذي يضمن عدم ظلم المدرس لطلابه؟ ما الذي يضمن عدم ظلم المدير لمن تحته من الموظفين والعمال؟ وقس على ذلك، ما الذي يضمن لنا في النظام الإسلامي هذا الأمر؟ قد تقول: المحكمة. المحكمة قد يوجد في الأرض محاكم تحكم بشريعة الله، وهذا نادر الآن، وقد يوجد محاكم تحكم بالظلم، وقد يكون القاضي صاحب ذمة وضمير متصل بالله عز وجل وقد لا يكون، قد يقبل الرشوة، قد يكون المشتكى عليه قريباً له فيحكم له ويزور القضية، قد يكون المدرس له واسطة عند المدير فلو جاء الطالب يشتكي عند مدير المدرسة لبرأ سماحة المدرس وربما عاقب الطالب، وقد يكون للمدير الفلاني واسطة ونحو ذلك.. إذاً: ما الذي يضمن؟ ما هو الضمان الحقيقي؟ إنه اليوم الآخر أيها الإخوة!!

بعض العمال قد لا يعلم أن من مستحقاته كذا وكذا فيصفي له صاحب العمل حساباته ويعطيه إياها دون أن ينبهه على أن من حقه كذا وكذا، فهو أصلاً لم يشعر أنه مظلوم حتى يشتكي، هذه الدريهمات التي أكلها صاحب العمل عليه أين ستذهب؟ والذين أكلوا حقوق الأجراء والعمال ولم يعطوهم إياها، أو أعطوهم نصفها أو ربعها أين سيذهب الباقي؟ قد لا يجد العامل المسكين مجالاً ليحصل على حقه، أين الضمان الحقيقي في أرجاء الأرض كلها مشارقها ومغاربها؟ أين سيكون هذا؟

قد يوجد ظلمة يحكمون الناس فيقتلون ويسجنون ويعيثون في الأرض فساداً ثم يموتون وهم على عظمتهم وعلى كراسيهم، هل ستنتهي القضية بهذه السهولة؟ بعض أرباب الأعمال يموت وهو غني ثري وقد أكل أموال كثير من الناس ويموت وهو في أوج غناه وثرائه، أليس كذلك؟ بلى. هل ستنتهي المسألة بهذه البساطة؟ إذاً: هناك لا بد أن يأتي يوم يرجع فيه الحق إلى نصابه، ويقتص للمظلوم من الظالم.

اليوم الآخر مهم ليحجم أهل الكبائر عن كبائرهم، عندما يعلم الزاني أن هناك فرناً في جهنم للزناة فقط، ويعلم المرابي أنه سيسبح في بحر من الدم ويلقم حجراً في فمه، ثم يعود ويسبح ثم يأتي ويلقم أحجاراً، وعندما يعلم الغادر أن له لواءً ينصب يوم القيامة، وعندما يعلم ويعلم ويعلم... إلى آخر أصحاب الكبائر، أليس هذا رادعاً لهم، ما الذي سيحل القضية حلاً جذرياً مثل اليوم الآخر؟!!

ويوم القيامة يرفع أهل الحديث أعناقهم؛ لأن الله يقول: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71] فيأتي الإمام ووراءه المأمومون الذين يأتمون به، فيكون أسعد الناس حالاً هم أهل الحديث؛ لأنهم تابعوا قدوتهم وإمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من فوائد اليوم الآخر: أن المسلم يعمل بجد لهذا اليوم

ومن فوائد هذا اليوم أيضاً: أن الصالح عندما يعلم أن النعيم لا حدود له وأنه سيثاب ويثاب فإنه سيعمل ويعمل، يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: (اقرأ وارتق ورتل فإن منـزلتك عند آخر آية تقرؤها) عندما يعلم أنه كلما قرأ تزداد مرتبته في الجنة، وكلما قرأ سيعلو ويعلو، أليس هذا حافزاً له؟

هناك كثير من أصحاب المصائب حتى في الأبدان، هناك كثير من أصحاب العاهات المستمرة، من الناس الذين أصابهم سرطانات -عافانا الله وإياكم- أو أمراض خبيثة لا علاج لها، وهم يعيشون في غرف الإنعاش أو يعيشون على سرر جثة هامدة يسحب منه الأذى ويعطى له الطعام بهذا الشراق الذي يوضع في أفواههم، لا يستطيعون حركة، أولئك المشلولون أصحاب العاهات، اليوم الآخر مهم بالنسبة لهم، ما الذي يصبرهم؟ إنه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم أهل العافية في الدنيا ما لأهل البلاء في الآخرة عند الله لتمنوا أن جلودهم قرضت بالمقاريض) فانظر كيف يدخل الإيمان باليوم الآخر حلاً لجميع المشكلات! هذا -أيها الإخوة- دين عظيم، لكن نحن المسلمين قد يخفى علينا جوانب من عظمة هذا الدين.

اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم واجعلنا ممن يخافك ويتقيك، ويتبع منهجك الذي أنزلت يا رب العالمين.