لقاء الباب المفتوح [156]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

هذا هو اللقاء السادس والخمسون بعد المائة من لقاءات الباب المفتوح الذي يتم كل يوم خميس، وهذا هو الخميس الثالث والعشرون من شهر محرم عام 1418هـ.

تفسير قوله تعالى: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول ...)

نستدرك فيه بعض الآيات بل كل الآيات التي نسيناها في الدرس السابق وهي قوله تبارك وتعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52] أي: أن الأمر الذي حصل لك يا محمد! حصل لمن قبلك، فقوله: (كذلك) خبر مبتدأ محذوف التقدير: الأمر كذلك، يعني: أن أمر الأمم السابقة كأمر هؤلاء الذين كذبوك يا محمد! وفسر هذه الكذبة بقوله: مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي: ما أتاهم رسول إلا قالوا كذا، (ومن) في قوله: (من رسول) زائدة من حيث الإعراب في قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [المائدة:19] المعنى: ما جاءنا بشير ونذير، لكن تزاد الحروف في بعض الجمل للتأكيد.

فـ(ما أتى الذين من قبلهم من رسول) أي: ما أتاهم رسول إلا وصفوه بهذين الوصفين: (إلا قالوا ساحر أو مجنون) ساحر باعتبار تأثيره وبيانه وبلاغته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من البيان لسحراً).

(أو مجنون) أي: أو قالوا مجنون باعتبار تصرفاته؛ لأن هذا التصرف في نظر هؤلاء المكذبين جنون نسأل الله العافية، وفي هذا تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الإنسان إذا علم أن غيره أصابه ما أصابه تسلى بذلك وهان عليه الأمر، ولهذا قالت الخنساء وهي ترثي أخاها صخراً قالت في رثاءٍ لها:

ولولا كثرة الباكين حـولي     على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكـن     أسلي النفس عنه بالتأسي

وقد دل لذلك قول الله تبارك وتعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39] لأن الإنسان إذا شاركه غيره في العذاب هان عليه، لكن يوم القيامة لا ينفع الإنسان أن يشاركه غيره في عقوبته، المهم أن في هذه الجملة بالنسبة للرسول عليه الصلاة والسلام تسلية لـه حتى لا يحزن، فإن ما أصابه قد أصاب غيره، وفيها أيضاً دليل على أن المكذبين للرسل طريقتهم واحدة ولو تباعدت أزمانهم وأقطارهم، لأن المجرم أخو المجرم فالطريقة واحدة.

تفسير قوله تعالى: (أتواصوا به بل هم قوم طاغون)

قال الله تعالى: أَتَوَاصَوْا بِهِ [الذاريات:53] أي: بهذا القول: أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الطور:32] أي: هل هؤلاء المكذبين للرسل الذين اتفقوا على وصفهم الرسل بأنهم سحرة ومجانين هل هم تواصوا بذلك؟ أي: هل كل واحد من هذه الأمم كتب وصية إلى الأمم اللاحقة أن قولوا لأنبيائكم: إنكم سحرة ومجانين؟

الجواب: لا، ولهذا قال: بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:53] وهذا إضراب إبطال، أي: ما حصل تواصل، ولكن تواردت الخواطر؛ لأن الهدف واحد وهو تكذيب الرسل فاتفقت الكلمة، وفي قوله: (طاغون) وصف بأن هؤلاء طغاة معتدون، وهذا من أعظم الطغيان -والعياذ بالله- أن يصفوا دعاة الحق بأنهم سحرة ومجانين.

تفسير قوله تعالى: (فتول عنهم فما أنت بملوم)

قال الله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ [الذاريات:54] أي: أعرض عن هؤلاء ولا تهتم بهم.

فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات:54] أي: لا أحد يلومك؛ لأنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، وصبرت وصابرت، فلقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم وصابر على أذى قريش وامتهانهم إياه، ولكنه كانت لـه العاقبة ولله الحمد، ولهذا قال: (تول عنهم) بمعنى: أنك لا تتعب نفسك فيهم، ولا تهلك نفسك فيهم، فأنت في هذه الحال لا تلام على ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قام بما يجب عليه.

وفي قوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذريات:54] فيها أمران: الأمر الأول: عذر النبي عليه الصلاة والسلام وإقامة العذر له، والأمر الثاني: تهديد هؤلاء المكذبين أن الله تعالى يهددهم بتولي الرسول عنهم؛ لأنهم لا خير فيهم.

تفسير قوله تعالى: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)

ثم قال: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55] (ذكر) أي: ذكر الناس بآيات الله بشرائعه بأيامه، شرائعه: ما أوجب الله على العباد، أيامه: عقابه تبارك وتعالى للمكذبين وإثابته للطائعين، لكن أطلق الله الذكر وقال: (ذكر) ولم يقل: ذكر المؤمنين، لكن بين أن الذي ينتفع بالذكرى هم المؤمنون قال: فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ لأن المؤمن إذا ذكر فهو كما وصفه الله عز وجل، إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً [الفرقان:73] بل يقبلونها بكل رحابة صدر وبكل طمأنينة، وفي الآية دليل على وجوب التذكير على كل حال، وفيها أن الذي ينتفع بالذكرى هم المؤمنون، وأن من لا ينتفع بالذكرى فهو ليس بمؤمن، إما فاقد الإيمان وإما ناقص الإيمان، وهنا فتش عن نفسك إذا ذُكِّرْتَ بآيات الله وخُوِّفْتَ من الله عز وجل هل أنت تتذكر أو يبقى قلبك كما هو قاسياً؟

إن كانت الأولى فاحمد الله فإنك من المؤمنين، وإن كانت الثانية فحاسب نفسك ولا تلومن إلا نفسك، عليك أن ترجع إلى الله عز وجل حتى تنتفع بالذكرى.

وفي الآية دليل على أنه كلما كان الإيمان أقوى كان الانتفاع بالذكرى أعظم وأشد، وذلك من قاعدة معروفة عند العلماء وهي: أن الحكم إذا علق بوصف ازداد بزيادته ونقص بنقصانه.

أما قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:57] * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58] فقد سبق الكلام عليها في اللقاء السابق.

تفسير قوله تعالى: (فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم ...)

ثم قال الله تعالى: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ [الذاريات:59] الذين ظلموا بالكفر لهم ذنوب مثل ذنوب أصحابهم، والذنوب في الأصل هو الدلو أو ما يستقى به، وشاهد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أريقوا على بوله ذنوباً من ماء) والمعنى: هؤلاء الظالمون لهم نصيب مثل نصيب من سبقهم: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ أي: نصيباً من العذاب مثل نصيب أصحابهم.

وانظر كيف سمى الله تعالى السابقين بأزمان بعيدة أصحاباً لهؤلاء؛ وذلك لاتفاقهم في التكذيب، ورمي الرسل بما لا يستحقون، فهم أصحاب في الواقع وإن تباعدت الأزمان والأماكن، (فلا يستعجلون) النون هنا مكسورة على أنها نون الوقاية، وحذف الضمير الياء وأصله: فلا يستعجلوني، فحذفت الياء تخفيفاً، ولهذا لا يشكل على الإنسان فيقول: كيف كانت النون مع (لا) ناهية؟

والجواب: أن نقول: إن هذه النون ليست نون الإعراب ولكنها نون الوقاية، فالفعل -إذاً- مجزوم، والنون للوقاية والياء التي هي المفعول به محذوفة، وفي قوله: (فلا يستعجلون) تهديد واضح أن هؤلاء سيأتيهم العذاب لا محالة ولكن لا يستعجلون الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يملي للظالم ويمهله حتى إذا أخذه لم يفلته، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته وتلا قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]).

تفسير قوله تعالى: (فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون)

قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [الذاريات:60] (ويل) بمعنى الوعيد والعذاب، يعني: أنه يتوعدهم عز وجل من هذا اليوم الذي يوعدون وهو يوم القيامة؛ لأنهم سيجدون ما أرسل إليهم حقاً وسيجدون الذل والعار، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه:102] فيكون من بين هذا العالم نسأل الله العافية على هذا الوجه، ولهذا قال: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [الذاريات:60] وسيكون هذا اليوم يوماً عسيراً عليهم؛ لأنهم كفرة والعياذ بالله.

نستدرك فيه بعض الآيات بل كل الآيات التي نسيناها في الدرس السابق وهي قوله تبارك وتعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52] أي: أن الأمر الذي حصل لك يا محمد! حصل لمن قبلك، فقوله: (كذلك) خبر مبتدأ محذوف التقدير: الأمر كذلك، يعني: أن أمر الأمم السابقة كأمر هؤلاء الذين كذبوك يا محمد! وفسر هذه الكذبة بقوله: مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي: ما أتاهم رسول إلا قالوا كذا، (ومن) في قوله: (من رسول) زائدة من حيث الإعراب في قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [المائدة:19] المعنى: ما جاءنا بشير ونذير، لكن تزاد الحروف في بعض الجمل للتأكيد.

فـ(ما أتى الذين من قبلهم من رسول) أي: ما أتاهم رسول إلا وصفوه بهذين الوصفين: (إلا قالوا ساحر أو مجنون) ساحر باعتبار تأثيره وبيانه وبلاغته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من البيان لسحراً).

(أو مجنون) أي: أو قالوا مجنون باعتبار تصرفاته؛ لأن هذا التصرف في نظر هؤلاء المكذبين جنون نسأل الله العافية، وفي هذا تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الإنسان إذا علم أن غيره أصابه ما أصابه تسلى بذلك وهان عليه الأمر، ولهذا قالت الخنساء وهي ترثي أخاها صخراً قالت في رثاءٍ لها:

ولولا كثرة الباكين حـولي     على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكـن     أسلي النفس عنه بالتأسي

وقد دل لذلك قول الله تبارك وتعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39] لأن الإنسان إذا شاركه غيره في العذاب هان عليه، لكن يوم القيامة لا ينفع الإنسان أن يشاركه غيره في عقوبته، المهم أن في هذه الجملة بالنسبة للرسول عليه الصلاة والسلام تسلية لـه حتى لا يحزن، فإن ما أصابه قد أصاب غيره، وفيها أيضاً دليل على أن المكذبين للرسل طريقتهم واحدة ولو تباعدت أزمانهم وأقطارهم، لأن المجرم أخو المجرم فالطريقة واحدة.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
لقاء الباب المفتوح [63] 3391 استماع
لقاء الباب المفتوح [146] 3347 استماع
لقاء الباب المفتوح [85] 3310 استماع
لقاء الباب المفتوح [132] 3288 استماع
لقاء الباب المفتوح [8] 3271 استماع
لقاء الباب المفتوح [13] 3255 استماع
لقاء الباب المفتوح [127] 3114 استماع
لقاء الباب المفتوح [172] 3087 استماع
لقاء الباب المفتوح [150] 3034 استماع
لقاء الباب المفتوح [47] 3029 استماع