لقاء الباب المفتوح [113]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو اللقاء الثالث عشر بعد المائة من لقاء الباب المفتوح الذي يتم كل خميس, وهذا هو يوم الخميس 29 من شهر رجب عام (1416هـ).

ونفتتح هذا اللقاء بإكمال سورة الفاتحة حيث تكلمنا على ثلاث آيات منها وهي قوله تبارك وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4].

تفسير قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين)

قال الله عز وجل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] الجملتان فيهما حصر, فمعنى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي: لا نعبد إلا إياك, و(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أي: لا نستعين إلا إياك, وطريق الحصر أنه قدم المعمول وحقه التأخير, وكلما قُدِّم ما حقه التأخير فإنه يفيد الحصر, هذا في اللغة العربية كما نص على ذلك أهل البلاغة وأهل النحو.

فما معنى العبادة التي قال الله عنها: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)؟

العبادة: هي التذلل لله عز وجل والخضوع له, وامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, وتصديق أخباره, وتعظيمه, ومحبته, إلى غير ذلك من أنواع العبادة, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

فالطهارة عبادة, والصلاة عبادة, والصدقة عبادة, والزكاة عبادة, والصوم عبادة, والحج عبادة, والنذر عبادة, والتوكل -وهو التفويض المطلق- عبادة, إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي ذكرها أهل العلم, والإنسان العابد يشعر بأنه عبد لسيده وإلهه, إذا أمره قال: سمعنا وأطعنا.

ومن تمام العبودية: الحب في الله والبغض في الله, فإن هذا أوثق عرى الإيمان أن تحب لله وتبغض لله, وتوالي لله وتعادي لله, فمن كان من عباد الله الصالحين فهو حبيبك في أي مكان في الأرض, وفي أي زمن من الأزمنة, حتى الذين آمنوا بموسى من بني إسرائيل, والذين آمنوا بعيسى من بني إسرائيل هم أحبابنا وإخواننا.

لا تظنوا أن الحبيب أو الأخ هو من كان من هذه الأمة بل هو كل من كان مسلماً في أي زمان وفي أي مكان فإنه أخ لنا؛ لأن هذا مقتضى العبادة، فالحب في الله والبغض في الله, والولاء في الله والمعادة في الله عز وجل, هذا من تمام العبادة.

من تمام العبادة: أن الله إذا أمر بأمر تقول: سمعنا وأطعنا, بعض الناس الآن إذا قلت: أمر الله بكذا.. أو أمر الرسول بكذا.. قال: هل الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ سبحان الله! هل كان الصحابة يستفهمون مثل هذا الاستفهام إذا أمرهم الله بشيء أو أمرهم الرسول بشيء, يقولون: هل هذا للاستحباب أو للوجوب؟! لا. بل يقولون: سمعنا وأطعنا, نعم إذا وقع الإنسان في المخالفة فحينئذٍ يتوجه هذا السؤال أن يقال: هل هذا للوجوب ويحتاج إلى فدية أو كفارة أو ما أشبه ذلك..؟

إذا نهاه الله ورسوله عن شيء يقول: هل النهي للكراهة أم للتحريم؟ سبحان الله! إذا نهي عن شيء فقل: سمعنا وأطعنا, ونتجنبه.

ولهذا لا يستطيع أحد أن يأتي بحرف واحد عن الصحابة أنهم إذا أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: هل أنت تأمرنا على سبيل الوجوب أم على سبيل الاستحباب؟ وإذا نهاهم عن شيء قالوا: هل أنت تنهانا على سبيل التحريم أم على سبيل التنزيه؟ أبداً, نعم إذا حصل شيء يوجب الاستفهام استفهموا.

مثال: قضية بريرة رضي الله عنها، فإنها لما عتقت وكان زوجها رقيقاً, قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (أنت بالخيار إن شئت أن تبقي معه، وإن شئت أن تفسخي النكاح فافسخي النكاح, فقالت: أختار نفسي وأفسخ النكاح, ففسخت النكاح) وكان زوجها مغيث يحبها حباً شديداً وهي تكرهه كراهة شديدة, فكان يمشي خلفها في أسواق المدينة يسألها أن ترجع وأن تعدل عن رأيها, ولكنها تأبى, فطلب مغيث من رسول الله أن يشفع له, فشفع له لعله يرجع إليها, قالت: (يا رسول الله أتأمرني؟ فسمعاً وطاعة, أم أمر تشير به عليَّ فلا حاجة لي فيه, قال: بل أمر أشير به عليكِ, قالت: لا حاجة لي فيه).

وكذلك إذا دلت القرينة على أن الأمر ليس للوجوب مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام لـجابر بن عبد الله : (بعني الجمل بأوقية..) فجعل يماكسه حتى اشتراه الرسول عليه الصلاة والسلام, المهم أن الأمر الشرعي لا يمكن للصحابة أن يقولوا: يا رسول الله هل الأمر للاستحباب أم للوجوب.

فمن تمام التعبد أنك إذا سمعت بأمر الله ورسوله فلا تتردد, ولا تقول: للوجوب أم للاستحباب، بل قل: سمعنا وأطعنا، وافعل وستؤجر, كذلك إذا سمعت النهي فلا تتردد ولا تقول: هل هو للتحريم فأجتنبه وجوباً, أو للكراهة فأجتنبه تنزهاً, بل قل: سمعنا وأطعنا, إلا إذا وقع الإنسان في المخالفة, فحينئذٍ يسأل: هل هو واجب أم محرم من أجل أن يستدرك ما فاته, المهم أن من تمام العبادة تمام الامتثال, بفعل الأوامر واجتناب النواهي.

(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) معنى نستعين, أي: نطلب العون من الله, والاستعانة تقع على وجهين:

الوجه الأول: استعانة عبادة, بمعنى: أن الإنسان يفوض أمره إلى الله, ويعلم أنه لا قدرة له على شيء إلا بمعونة الله, هذه لا تكون إلا لله.

الوجه الثاني: استعانة بأمر يقدر عليه المعين, والإنسان لا يرى أنه يفوض أمره إلى هذا المستعان به، ولكنه يرى أنه من باب المساعدة, فهذا جائز، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها, أو ترفع له عليها متاعه صدقة) تعينه, فأثبت الإعانة من المخلوق للمخلوق.

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ما المراد بالاستعانة هنا؟ الاستعانة التي لا تصلح إلا لله أم التي تصلح لله وللمخلوق؟

المراد الأول، الاستعانة التي فيها التفويض المطلق وأنه لا قدرة للمستعين على أي شيء إلا بمعونة، هذه الاستعانة به وهذه لا تكون إلا لله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)

قال تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] الهداية تكون بمعنى الدلالة, وتكون بمعنى التوفيق, فأي المعنيين هناك يريد الداعي: هداية التوفيق أم هداية الدلالة، أو كلتيهما؟ كلتيهما, يريد هداية الدلالة أي: العلم, هداية التوفيق أي: التزام الصراط المستقيم, ومعلوم أن الإنسان لا يستطيع أن يلتزم الصراط المستقيم إلا بعلم, كيف يعبد الله على جهل؟ لا يمكن! لا بد أن يهديه الله, يدله أولاً ثم يوفقه ثانياً.

قول الله عز وجل: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم, ما المراد بالهداية هنا؟ هداية الدلالة والإرشاد والبيان, وقوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] هداية التوفيق, يعني: لا تستطيع أن توفق أحد للهدى أبداً, لا يستطيع ذلك إلا الله وحده, وقوله: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17] هداية الدلالة, دلهم الله على الحق, وبين لهم رسولهم الحق ولكنهم: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ [فصلت:17].

المهم أن الهداية نوعان: هداية الدلالة, وهداية التوفيق.

هداية الدلالة تكون بالعلم, وهداية التوفيق تكون بالسير على الصراط المستقيم.

وقول المصلي أو الداعي بهذه الآية الكريمة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي: هداية الدلالة والتوفيق, فيكون هذا الدعاء شاملاً للعلم بالحق, والعمل بالحق.

وقوله: (الصِّرَاطَ) يقول أهل اللغة: إن الصراط لا يطلق على الطريق إلا إذا كان واسعاً, أما الطريق الضيق فليس بصراط, ووجه ذلك في المعنى: أن الصراط والزراط والسراط كلها تدل على سعة وسهولة النفوذ, يقال: زرط الرجل اللقمة. أي: ابتلعها بسرعة وسهولة, هنا الصراط أي: الطريق الواسع الذي يمضي به الإنسان من غير تعب ولا مشقة.

لكن الصراط قد يكون مائلاً, وقد تكون فيه مرتفعات ومنخفضات, ولهذا قال: (الْمُسْتَقِيمَ) أي: الذي لا اعوجاج فيه وليس فيه منخفض ولا مرتفع, لأن الطريق المعوج يعوق.

مثلاً: إذا كان بينك وبين البلدة في خط مستقيم 20 كيلو, يكون بينك وبينها في خط معوج 30 كيلو أو أكثر حسب كثرة الاعوجاج, كذلك في المنخفضات والمرتفعات, إذا كانت الطريق سوياً فإنك تصل إلى ما تريد بسرعة, لكن إذا كان مرة في الأعلى ومرة في الأسفل زاد عليك الطريق, فالمستقيم إذاً هو المستوي المعتدل, فخرج المعوج وما فيه من انخفاض وارتفاع.

فما المراد بالصراط المستقيم هنا: هل المراد الصراط المستقيم الحسي أم المعنوي؟

المراد المعنوي ليس الحسي, أما في قول موسى عليه الصلاة والسلام: عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:22] فالمراد به الحسي، ولهذا هداه الله عز وجل إلى سواء السبيل, لكن هنا الصراط المعنوي, والصراط المعنوي بينه بقوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7].

تفسير قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم)

قال تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] أي: أنعمت عليهم النعمة التامة التي يكون فيها نعمة الدين والدنيا, فمن هؤلاء؟

قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69] أربعة أصناف هم الذين أنعم الله عليهم, وهم على مراتبهم هذه:

المرتبة الأولى: قال: (مِنَ النَّبِيِّينَ) والنبيون هنا يشمل المرسلين؛ لأن الرسول نبي, والرسل أعلى طبقة من الأنبياء, وأولو العزم أعلى طبقة من غيرهم, ومحمد أعلى أولي العزم طبقة.

فإذاً: النبيون تشمل طبقاتهم المرسلون فهم أعلى من النبيين, وأولو العزم أعلى من بقية الرسل, ومحمد أعلى طبقة في أولي العزم.

هل أنت تستحضر وأنت تقرأ هذه الآية هؤلاء السادة؟

لا بد أن يكون في قلبك ذكر لهؤلاء السادة.

المرتبة الثانية: الصديقون, هم الذين بلغوا في الصدق غايته، في تصديق ما أنزل الله على رسله, وقاموا بذلك وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه, كيف عرفنا أنه على رأس الصديقين؟ لأن هناك حواريين وأنصاراً من الرسل السابقين, فكيف عرفنا أن أبا بكر هو أفضلهم؟

عرفنا ذلك لأن هذه الأمة أفضل الأمم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] وأن أفضل هذه الأمة هو أبو بكر باتفاق الصحابة, فقد كان الصحابة يقولون على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم: [خير هذه الأمة أبو بكر ثم عمر] حتى علي بن أبي طالب كان يعلن على منبر الكوفة بعد أن كان خليفة يقول: [خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر] وبذلك نعرف كذب الرافضة الذين يدعون أن أبا بكر ليس خليفة وأنه ظالم لـعلي؛ لأن علي عندهم هو الخليفة, فيقال: لماذا لم يعلن علي بن أبي طالب حين كان خليفة أنه مظلوم؟ بل أعلن أن ما جرى هو العدل؛ لأنه أقر واعترف بأن خير هذه الأمة أبو بكر , وهذا إقرار بفضله وبأحقيته للخلافة؛ لأنه لا يولى على القوم إلا أفضلهم وخيرهم.

على كل حال: نحن نقول: الطبقة الثانية من الخلق هم الصديقون.

المرتبة الثالثة: الشهداء, الشهداء يشمل شهداء المعركة, وهم الذين قتلوا في سبيل الله, ومن الذي قتل في سبيل الله؟ هو الذي قاتل لتكون كلمة الله هي العليا, فمن قاتل للقومية فهو خاسر, ومن قاتل للوطنية فهو خاسر, ومن قاتل ليرى مكانه فهو خاسر, ومن قاتل رياءً فهو خاسر, المقاتل الذي إذا قتل فهو شهيد هو الذي قاتل من أجل هذا الغرض لتكون كلمة الله هي العليا, هذا هو المقاتل في سبيل الله وهو الشهيد, وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياءً أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) أي: أن هؤلاء ليسوا في سبيل الله, ولهذا جاء في الحديث: (ما من مكلوم يكلم -أي: ما من مجروح يجرح- في الجهاد والله أعلم بمن يكلم في سبيله) هذه الجملة مهمة, ليس كل من قتل في الجهاد يكون عند الله شهيداً, قد يكون في رأينا شهيداً, ولكنه عند الله ليس بشهيد؛ لأنه قال: (والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة لون دمه لون الدم, وريحه ريح المسك).

الشهداء يشمل أيضاً أهل العلم, فإن العلماء من الشهداء قال الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] لكن من هم أولي العلم الذين يكونون من الشهداء؟

هم أولي العلم الذين يطلبون العلم لله, والذين إذا بان لهم الحق تبعوه, والذين لا يخرجون عن طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ليس العالم القارئ ولهذا قال عبد الله بن مسعود : [كيف بكم إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم] يعني: لو وجدنا شخصاً بحراً في العلم, إن جئته في التفسير فإذا هو بحر, في الحديث بحر, وفي الفقه بحر, في كل فن هو بحر، لكنه لا يعمل بعلمه, ولا يتبع طريق السلف فهذا ليس من أولي العلم, يقول الله عز وجل في المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] لماذا تسمع لقولهم؟ لأن لهم فصاحة وبيان, وهم في مظهر يعجبك, لكنهم لا خير فيهم: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4] فالحاصل أن (الشهداء) تشمل طائفتين من الناس:

الأولى: من قتل في سبيل الله.

الثانية: العلماء حقيقة.

المرتبة الرابعة: الصالحون وهم الطبقة الأخيرة، وهم عامة المسلمين والمؤمنين, فأنت تسأل الله أن يهديك الصراط المستقيم, صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, وهؤلاء يجمعهم معنى واحد: ألا وهو العلم بالحق والعمل به.

تفسير قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)

قال تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] هذان صنفان مخالفان للذين أنعم الله عليهم.

قلنا: إن الذين أنعم الله عليهم يجمعهم شيء واحد وهو العلم بالحق والعمل به, وهذان الصنفان -أي: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)- على عكس من ذلك, فالمغضوب عليهم, علموا الحق ولم يعملوا به, وعلى رأسهم اليهود علموا الحق ولم يعملوا به, والضالون هم الذين لم يعلموا الحق, أي: عبدوا الله على جهل, وعلى رأسهم النصارى قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام, أما بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام فالنصارى واليهود سواء؛ لأنهم علموا الحق ولم يعملوا به, فكما أن اليهود علموا بصحة نبوة عيسى ولكنهم لم يتبعوه, هكذا النصارى علموا بصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوه، إذاً لا فرق بينهم وبين اليهود فالجميع بعد بعثة الرسول مغضوب عليهم.

وهنا يقال: لماذا قال: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) مع أنه قال: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)؟ لأن النعمة من الله, والغضب يكون من الله ومن غيره, فإذا غضب الله على أحد فكل المؤمنين بالله يغضبون عليهم, ولهذا اليهود مغضوب عليهم من قبل الله ومن قبل الرسل ومن قبل الصديقين والشهداء والصالحين.

نسأل الله أن يهدينا وإياكم الصراط المستقيم, صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

قال الله عز وجل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] الجملتان فيهما حصر, فمعنى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي: لا نعبد إلا إياك, و(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أي: لا نستعين إلا إياك, وطريق الحصر أنه قدم المعمول وحقه التأخير, وكلما قُدِّم ما حقه التأخير فإنه يفيد الحصر, هذا في اللغة العربية كما نص على ذلك أهل البلاغة وأهل النحو.

فما معنى العبادة التي قال الله عنها: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)؟

العبادة: هي التذلل لله عز وجل والخضوع له, وامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, وتصديق أخباره, وتعظيمه, ومحبته, إلى غير ذلك من أنواع العبادة, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

فالطهارة عبادة, والصلاة عبادة, والصدقة عبادة, والزكاة عبادة, والصوم عبادة, والحج عبادة, والنذر عبادة, والتوكل -وهو التفويض المطلق- عبادة, إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي ذكرها أهل العلم, والإنسان العابد يشعر بأنه عبد لسيده وإلهه, إذا أمره قال: سمعنا وأطعنا.

ومن تمام العبودية: الحب في الله والبغض في الله, فإن هذا أوثق عرى الإيمان أن تحب لله وتبغض لله, وتوالي لله وتعادي لله, فمن كان من عباد الله الصالحين فهو حبيبك في أي مكان في الأرض, وفي أي زمن من الأزمنة, حتى الذين آمنوا بموسى من بني إسرائيل, والذين آمنوا بعيسى من بني إسرائيل هم أحبابنا وإخواننا.

لا تظنوا أن الحبيب أو الأخ هو من كان من هذه الأمة بل هو كل من كان مسلماً في أي زمان وفي أي مكان فإنه أخ لنا؛ لأن هذا مقتضى العبادة، فالحب في الله والبغض في الله, والولاء في الله والمعادة في الله عز وجل, هذا من تمام العبادة.

من تمام العبادة: أن الله إذا أمر بأمر تقول: سمعنا وأطعنا, بعض الناس الآن إذا قلت: أمر الله بكذا.. أو أمر الرسول بكذا.. قال: هل الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ سبحان الله! هل كان الصحابة يستفهمون مثل هذا الاستفهام إذا أمرهم الله بشيء أو أمرهم الرسول بشيء, يقولون: هل هذا للاستحباب أو للوجوب؟! لا. بل يقولون: سمعنا وأطعنا, نعم إذا وقع الإنسان في المخالفة فحينئذٍ يتوجه هذا السؤال أن يقال: هل هذا للوجوب ويحتاج إلى فدية أو كفارة أو ما أشبه ذلك..؟

إذا نهاه الله ورسوله عن شيء يقول: هل النهي للكراهة أم للتحريم؟ سبحان الله! إذا نهي عن شيء فقل: سمعنا وأطعنا, ونتجنبه.

ولهذا لا يستطيع أحد أن يأتي بحرف واحد عن الصحابة أنهم إذا أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: هل أنت تأمرنا على سبيل الوجوب أم على سبيل الاستحباب؟ وإذا نهاهم عن شيء قالوا: هل أنت تنهانا على سبيل التحريم أم على سبيل التنزيه؟ أبداً, نعم إذا حصل شيء يوجب الاستفهام استفهموا.

مثال: قضية بريرة رضي الله عنها، فإنها لما عتقت وكان زوجها رقيقاً, قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (أنت بالخيار إن شئت أن تبقي معه، وإن شئت أن تفسخي النكاح فافسخي النكاح, فقالت: أختار نفسي وأفسخ النكاح, ففسخت النكاح) وكان زوجها مغيث يحبها حباً شديداً وهي تكرهه كراهة شديدة, فكان يمشي خلفها في أسواق المدينة يسألها أن ترجع وأن تعدل عن رأيها, ولكنها تأبى, فطلب مغيث من رسول الله أن يشفع له, فشفع له لعله يرجع إليها, قالت: (يا رسول الله أتأمرني؟ فسمعاً وطاعة, أم أمر تشير به عليَّ فلا حاجة لي فيه, قال: بل أمر أشير به عليكِ, قالت: لا حاجة لي فيه).

وكذلك إذا دلت القرينة على أن الأمر ليس للوجوب مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام لـجابر بن عبد الله : (بعني الجمل بأوقية..) فجعل يماكسه حتى اشتراه الرسول عليه الصلاة والسلام, المهم أن الأمر الشرعي لا يمكن للصحابة أن يقولوا: يا رسول الله هل الأمر للاستحباب أم للوجوب.

فمن تمام التعبد أنك إذا سمعت بأمر الله ورسوله فلا تتردد, ولا تقول: للوجوب أم للاستحباب، بل قل: سمعنا وأطعنا، وافعل وستؤجر, كذلك إذا سمعت النهي فلا تتردد ولا تقول: هل هو للتحريم فأجتنبه وجوباً, أو للكراهة فأجتنبه تنزهاً, بل قل: سمعنا وأطعنا, إلا إذا وقع الإنسان في المخالفة, فحينئذٍ يسأل: هل هو واجب أم محرم من أجل أن يستدرك ما فاته, المهم أن من تمام العبادة تمام الامتثال, بفعل الأوامر واجتناب النواهي.

(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) معنى نستعين, أي: نطلب العون من الله, والاستعانة تقع على وجهين:

الوجه الأول: استعانة عبادة, بمعنى: أن الإنسان يفوض أمره إلى الله, ويعلم أنه لا قدرة له على شيء إلا بمعونة الله, هذه لا تكون إلا لله.

الوجه الثاني: استعانة بأمر يقدر عليه المعين, والإنسان لا يرى أنه يفوض أمره إلى هذا المستعان به، ولكنه يرى أنه من باب المساعدة, فهذا جائز، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها, أو ترفع له عليها متاعه صدقة) تعينه, فأثبت الإعانة من المخلوق للمخلوق.

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ما المراد بالاستعانة هنا؟ الاستعانة التي لا تصلح إلا لله أم التي تصلح لله وللمخلوق؟

المراد الأول، الاستعانة التي فيها التفويض المطلق وأنه لا قدرة للمستعين على أي شيء إلا بمعونة، هذه الاستعانة به وهذه لا تكون إلا لله عز وجل.