مقومات المجتمع الإسلامي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
مدة
قراءة المادة :
21 دقائق
.
مقومات المجتمع الإسلاميفي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
تمهيد:
نودُّ أن نُشِير - بادئ ذي بَدْء - إلى الحالة التي كان عليها مجتمع "الجاهلية" قبل بعثةِ الرسول الكريم، لنرى إلى أيِّ مدًى أثَّرت "المقومات" أو الأسس التي جاء بها صلى الله عليه وسلم في بناء مجتمعه الإسلامي الجديد.
حالة المجتمع قبل البعثة المحمدية:
كان المجتمع قبلَ بعثة الرسول الكريم أشبهُ ما يكون بالغابة الواسعة المُظلِمة يَتِيه فيها "القوم"، قويُّهم يأكل ضعيفَهم، لا يعرفون طريقًا يَهدِيهم إلى الخروج من تلك الغابة، ولا يستأنسون بمُرشِد يُرشِدهم إلى طريق الصواب، فالقدرات البشرية معطَّلة أو ضائعة لم يُنتَفع بها، ولم تُوجَّه التوجيهَ الصحيح السليم، فكانت وبالاً على أصحابِها وعلى الإنسانية جمعاء.
فقد تحوَّلت الشجاعة فتكًا وهمجيةً، وأضحى الجودُ تبذيرًا وإسرافًا، والذكاءُ خفَّةً وخداعًا، والعقل - كان - وسيلة للتفنُّن في ابتكار الجنايات وإرضاء النزوات الحيوانية على السواء.
وبالجملة لم تكن هناك فضائلُ تُذكَر أو تُعَدُّ، فصار الخير شرًّا، وتبدَّل ظلامًا وعتمةً، عمَت القلوب، وطمست الأبصار عن جادة الطريق.
وإزاءَ تلك الصورة القاتمة لهذا المجتمع الجاهلي الذي عاصره الرسول الكريم، كان لزامًا عليه، صلوات الله وسلامه عليه، أن يضعَ من الأسس، أو يُوجِد من المقوِّمات ما يقضي به على حال هذا المجتمع الفاسد والمُظلِم، ويمحو به تلك الصورة القبيحةَ المظهرِ؛ ليُنشِئ بفضلها مجتمعَه الإسلامي الصالحَ لكل زمان ومكان، وليُحدِّد من خلالِها صورتَه الجديدة التي ترتكزُ في بنائها على فلسفةٍ واضحةِ المعالِم والأهداف، تلك الفلسفة التي تنقل هذا المجتمع الجاهلي من حاله البائس المُزرِي، إلى حال يشعر فيه "الفرد" - من جديد - بكِيانِه وكرامته وقيمته، ويُدرِك حقيقةَ وجودِه على الأرض، فيتولَّد من هذا الشعور الجديد أفرادٌ عديدون، يكونون في مجموعِهم المجتمعَ الإسلامي الذي يرمي إلى تأسيسه الرسولُ الكريم من وراء تلك الأسس أو المقومات.
أسس بناء المجتمع الإسلامي الجديد:
ومن أهم تلك الأسس (المقوِّمات) التي وضَعها رسول البشرية لهذا المجتمع الإسلامي الجديد، ما يلي:
أولاً: الإيمان بوحدانية الله:
وفحوى هذه القاعدةِ الأولى من مقوِّمات البناء: أن تجتمعَ قلوب هؤلاء القوم المشتَّتة في عبادة الأوثان، وأن تتَّفِق أفهامُهم - في يقينٍ لا لبسَ فيه - على الإيمان بحقيقة "الإله الواحد" الأعظم، الذي له من الصفات والمُمكِنات ما لا يتساوَى به "غيره" من تلك الآلهة التي تُعبَد من دونه، وبها يُشرَك به، وما لا يتطاول إليه عقلٌ، ويستحيل تصوُّره، فهو سبحانه كائنٌ بذاته، متفرد بعظمته، مُهيمِن بجبروته على هذا الوجود، أو كما يقول الشاعر:
كثرةٌ لا تتناهى عددًا
قد طوَتْها وحدةُ الواحدِ طَيّ
كلُّ شيء فيه معنى كلِّ شَي
فتفطَّنْ واصرِفِ الذِّهنَ إليّ
وكان من نتائجِ ترسيخ الرسول الكريم لتلك العقيدة التوحيدية في قلوب وعقول أفراد هذا المجتمع: أنِ اجتمَع اهتمام الإنسان، وتوحَّدت قِبْلتُه، وتجمعت أشواقه، وانتظمت مشاعره، وتحدَّدت أفكاره وأهدافه، وذلك هو الأثر البنائي للتوحيد، وهو المقوِّم الأوَّل من مُقوِّمات بناء المجتمع الذي أسَّسه الرسول الكريم، فنقل به صلى الله عليه وسلم أفرادَ هذا المجتمع الجاهلي من عالم همجي غوغائي تسودُه الدَّهماء إلى عالَم جديد تبَلْوَرت في ظلِّه معالِم شخصية هذا الإنسان.
وليس من شكٍّ أن ترسيخَ هذه العقيدة في أذهان أفراد هذا المجتمع، وإيمانهم المطلق بها، وقناعتهم بحقيقتها - كان الركنَ الركين الذي تأسَّس عليه صرح المجتمع الإسلامي الجديد - مجتمع الرسول - هذا عن المقوِّم الأول من مقومات البناء.
ثانيًا: التضامن الجديد للأمة الإسلامية - صوره:
أما عن هذا الأساس الثاني، فقد أقامه الرسول الكريم على ركيزة من الألفة والمحبة والصفاء والوُدِّ، وإخلاص السريرة بين طيَّات قلوب أفراد المجتمع الجديد، ولقد كان لهذا أثرُه المحسوس في سرعة الامتزاج والاندماج بين الأفراد بعضهم بعضًا في مظهر الإخاء الكامل، الذي كان له السماتُ البارزة في القضاء على الفوارق الاجتماعية، وإزالة الحواجز النفسية، والموانع العصبية بين هؤلاء الناس جميعًا.
والذي مُحِيَت فيه كلُّ صفات الفردية والأنانية وحب الذات، ولقد كانتِ القاعدةُ التي وضعها النبي الكريم أساسًا قام عليه هذا التضامن الجديد، هي قولَه صلى الله عليه وسلم: ((مَثَل المسلمين في توادِّهم، وتراحمِهم، وتعاطفِهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى))؛ رواه أحمد ومسلم.
وقوله الشريف: ((المؤمنون تتكافأ - أي: تتساوى - دماؤهم، ويسعى بذمَّتِهم أدناهم، وهم يدٌ على مَن سواهم))؛ رواه أحمد وأبو داود.
ولقد كان من أثر ذلك على المجتمع الإسلامي الجديد - مجتمع الرسول - أن الفرد فيه كان يسير بروح الجماعة، ويتغيَّا في نيته مصلحتَها، ويسعى لتحقيق هدفها النبيل، ويطمح إلى الإسهام بدور إيجابي في تحقيق هدفها المنشود، بل لا بد وأن تتطابق رغباتُه وطموحاته مع طموحات وآمال أفراد تلك "الجماعة الإسلامية".
هذا عن المعنى العامِّ للتضامن، لكنه في واقع الأمر توجد عدَّة صور تُوضِّح لنا معنى هذا التضامن الجديد للمجتمع الإسلامي بمفهومه الواسع، نذكر من أهم تلك الصور ثلاثًا؛ هي:
(أ) التكافل الاجتماعي.
(ب) الآداب الأخلاقية والسلوكية وضوابطها.
(جـ) الشورى بين أفراد المجتمع الإسلامي.
الصورة الأولى: التكافل الاجتماعي - معناه - صوره:
والتكافل الاجتماعي معناه: شعور الفرد المسلم بتحمُّل التَّبِعات، والمشاركة في الأزمات، إزاء أخيه المسلم الذي يعيش معه في مجتمع واحد تربطه وحدة العقيدة، ووحدة المصالح والأهداف.
فعلى جميع القوى الإنسانية في ظلِّ هذا المجتمع الإسلامي ألاَّ تدَّخِر جهدًا، أو أن تتوانَى في سبيل المحافظة على مصالح الآحاد، أو أن تقعد عن حل مشكلاتِهم، وهذا هو الأساس البنائي الذي أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم في مجتمعه الإسلامي الكبير.
على أن الرسول الكريم وضع - في هذا المقام - جملةً من الأقوال والتوجيهات تأسَّس عليها مبدأُ التكافل الاجتماعي هذا، نذكُر من بينِها قولَه صلى الله عليه وسلم: ((أيما أهل عَرْصَةٍ - الحي والمكان - أصبح فيهم امرؤ جائع، فقد برئت منهم ذمَّة الله تبارك وتعالى))؛ رواه أحمد.
وفي حديث آخر: ((مَن كان عنده فضلُ ظهرٍ، فليَعُدْ به على مَن لا ظهر له، ومَن كان عنده فضل زادٍ، فليَعُدْ به على مَن لا زاد له))؛ رواه مسلم وأحمد.
وفي حديث ثالث عن ابن عباس: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُورِّثه))؛ متفق عليه.
وهكذا تأسَّس هذا المجتمع الإسلامي الجديد على التضامن والتكافل الاجتماعي، فالأفراد كلهم جسدٌ واحد، وروح واحدة في الإحساس بالألم، والشعور بالمشاركة فيه، وليس من شكٍّ أن في هذا الاتِّحاد الجامع المتضامن ما يعكسُ صورةً رائعة أوضحت الشكلَ الجديد لمجتمع الرسول الكريم، فالمؤمن يجبُ أن يشدَّ من أزر أخيه، وأن يقف بجانبه، يشاطره المحن، ويمسح عن وجهه الكآبة والحزن، ويرفع عن كاهلِه الأحمالَ الثِّقال، بقدر ما يستطيع إلى ذلك سبيلاً.
وهذا ما دفع "ابنَ حزم" - ومَن وافقه من فقهاء الإسلام - إلى القول بتحميل سكَّان بلد المسؤوليةَ الجنائية في موتِ فرد من أفراد هذا البلد جوعًا، هذا عن الصورة الأولى.
الصورة الثانية: الآداب الأخلاقية والسلوكية وضوابطها:
وعلى هذا الأساس من التعاون والتكافل بين أفراد هذا المجتمع الإسلامي الجديد، وضع الرسول الكريم أسسَ الآداب الأخلاقية والسلوكية لضبط سير الأفراد فيه سيرًا هادئًا مهذبًا ومنظمًا.
ففي مجال "آداب السلوك الأخلاقي والاجتماعي"، شُرِع الاستئذان عند إتيان البيوت وفي داخلها.
ووضَّح الرسول الكريم هذا اللونَ الجميل من الأدب الأخلاقي في سننه القولية والفعلية.
فعن عبدالله بن بُسر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قومٍ لم يستقبِلِ البابَ من تلقاءِ وجهِه، ولكن من ركنِه الأيمن أو الأيسر، ويقول: ((السلام عليكم))؛ رواه أبو داود.
وفي الصحيحينِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لو أن امرأً اطَّلع عليك بغير إذنك، فحذفته - أي: رميته - بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك جُناح)).
وعن عمرو بن سعيد الثقفي أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أَأَلِج؟ - أي: أَأَدخلُ؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: ((اخرج إلى هذا فعلِّمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل؟))، فسمِعها الرجل، فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذِن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل"؛ رواه البخاري في الأدب المفرد.
وبالمقابل وُضِعت الحدود في الجرائم الاجتماعية، وشددت تشديدًا يتناسب مع صيانة حياة كلِّ فرد وماله وحرماته، وقام على تطبيقِها زعيمُ الأمة وقائدها المظفَّر، عليه الصلاة والسلام.
فشرع القِصاص في القتل والجروح؛ حمايةً لأفراد المجتمع، وصيانة لأرواحهم: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 179]، ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ [المائدة: 45].
"ولذلك أيضًا شددت عقوبة الزاني والزانية؛ لِمَا فيها من اعتداءٍ على العِرْض، وعبث بالحرمة، ونشر للفاحشة في المجتمع؛ لِمَا ينشأ عنها من تدليس في الأنساب، شددت هذه العقوبة فجعلت القتل رجمًا للمُحصَن والمحصنة، والجَلد مائة جلدةٍ لغير المحصن وغير المحصنة، وجُعِلت عقوبة القذف في أعراض المؤمنات ثمانين جلدة، وتفسيقًا للقاذف بعدم قَبول شهادته، كما شُدِّدت عقوبة السرقة فجُعِلت قطع اليد، ثم قطع الأخرى عند العودة؛ لِمَا في السرقة من اعتداءٍ على ملك الآخرين، واعتداء على حق الناس في الأمن".
الصورة الثالثة: "الشورى بين أفراد المجتمع الإسلامي":
وإذا كان المجتمع الإسلامي الجديد جسدًا واحدًا - كما قلنا من قبلُ - فمن الطبيعي أن تترابطَ فيه المصالح، وتتوحد الأهداف، وتتشابك العَلاقات الإنسانية والاجتماعية، غاية القول أن هذا المجتمع "الكل" تجدُّ فيه أمور وأحداث، وتطرح على ساحاته ثَمَّة مشاكل، وتطفو على سطحه - في حالات الشدة والعسرة - بعضُ المصاعب، إلى آخر ذلك مما يتطلب له الحلول والعلاجات، على أن تكونَ تلك الحلول نابعةً من ضمير الجماعة الإسلامية، وممثلة لفكرها الموحَّد، ومعبِّرة عن روحها وإرادتها الواعية.
وهذا هو ما أرساه الرسول الكريم في مبدأ الشورى، ذلك المبدأ الذي يتبلور في إطاره الحلُّ الأمثل، والعلاج الأنجح لكل المشاكل صغيرها وكبيرها.
وغنيٌّ عن القول أن يُوصَف مبدأ الشورى بأنه أعظم المبادئ دستوريةً و"ديمقراطية"، تأكَّدت في ظله حقوقُ الإنسان، وكشف للعالَم المتمدين عن أروع نظام سياسي عرَفتْه البشرية في ظل هذا المجتمع الإسلامي، الذي تحكمه وحدة القيادة، ويسوده العدل القضائي في دولة الإسلام العالمية.
وفي هذا المبدأ بيَّن الرسول الكريم جملةً من المسؤولياتِ التي تقعُ على عاتق الحكَّام والمحكومين، فوضع أساسًا قيِّمًا لمسؤوليةِ رجال الحكم، أما الأئمة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويسخط لكم ثلاثًا: يرضى لكم أن تعبدوه وحدَه ولا تُشرِكوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن تناصحوا مَن ولاه الله أمركم))؛ رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة.
وقال أيضًا: ((إن الناس إذا رأَوا الظالِم فلم يأخُذوا على يدَيْه، أوشكوا أن يعُمَّهم الله بعقاب منه))؛ رواه أبو داود والترمذي.
وكذلك وضع الرسولُ الكريم نظامًا للمسؤولية، وكيف يُؤدِّي رجال الشورى واجبَ النصح، وتقديم ما يمكن أن يطرَأ على غيرِه، إلى آخر ذلك، وترك تفصيله لمراعاة مقتضيات الأحوال والظروف.
كما وضع صلى الله عليه وسلم (للبيعةِ) التي تنعقِدُ لشخصٍ يُصبِح خليفةً، أو حاكمًا، أو رئيسًا للدولة الإسلامية - شروطًا لا بدَّ منها؛ لكي تُحقِّق الغرضَ منها، فليست الإمارة في مجتمع الإسلام مغنمًا يُرجَى نهمه، أو مَطمعًا يُرجَى حوزتُه في جلابيب القوم والرجال؛ وإنما هي مسؤولية و"أمانة" تأتي يوم القيامة خزيًا وندامة، إلا مَن أخذها بحقها وأدَّى الذي عليه فيها.
وهذه المسؤولية من نتائج الشورى؛ إذ لولا أن للأمة حقَّ الرقابة على الحاكم، ما أمر أن يستشيرها في كل أموره، ولقد كان الرسول الكريم في تطبيقه لمبدأ الشورى قولاً وعملاً، خيرَ مترجِمٍ أمينٍ لآيات الذكر الحكيم: ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الشورى: 38]، وقوله تعالى: ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159].
تلك كانتِ الصورةَ الأخيرةَ من صور التضامن الجديد لمجتمع الرسول الكريم، لكنه بقي لنا أساسٌ ثالثٌ من مقوِّمات هذا المجتمع الجديد، وهو حسن المعاملة بين أهل الذمَّة، سواء كانوا في دار الحرب أو دار الإسلام، وهذا ما سنعرضُ له بإيجاز وإجمال؛ مراعاة لظروف الحال، ومقتضيات المقال والمقام.
ثالثًا: حسن معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الذمة:
من المعلوم أن المجتمع الإسلامي الجديد لم يكن مجتمعًا إسلاميًّا صرفًا؛ بمعنى أنه لم يكن مقصورًا على المسلمين فحسب؛ وإنما كان يحوي - إما بداخله أو بجواره - أفرادًا آخرين لا يؤمنون بالنبي الكريم، ولا يعترفون برسالته، وإن كانوا يعلمون ما فيها من الخير والصلاح، هؤلاء هم الذين يُعرَفون "بأهل الذمة" أو أهل الكتاب.
ومن الجدير بالذكر أن الرسول الكريم، قد "فَلْسَف" معاملتَه، وحدَّد عَلاقاته مع "أهل الذمة" هؤلاء، في صور ثلاث: بيعته، معاهداته، سفرائه صلى الله عليه وسلم.
وكان من دلالات البيعة أن النبي الكريم كان يُقِيم في "أولاها" أساسَ دولة الإسلام أول ما أُنشِئت، فقد كانوا يتعاهَدون على ميثاقِها الأول؛ إذ صار لها أرضٌ وشعبٌ وحكمٌ ونظامٌ.
ونحن نُؤيِّد أحدَ الباحثين؛ حيث يقول في ذلك الصدد:
"وإنني أظن أن موادَّ هاتين البيعتين تستجمعُ العناصر الأولى لتكوين المجتمع، والتي بدونِها لا مجتمع ولا نظام، وأنها تُؤلِّف الخلية الاجتماعية على وجهِها الصحيح بأن تُنشِئ جماعة مطمئنة تُقِيم النظام في هذه الجماعة".
وهذا مَثَل آخر نذكره لنُؤكِّد به مدى سُمُوِّ العَلاقة ومبلغ التسامح الذي أسَّس عليه الرسول الكريم تعامُلَه مع أهل الذمة في دار الإسلام أو دار الحرب؛ حيث اكتفى بقَبول "الجِزية" منهم؛ التزامًا بأمر الله، ومقابلاً لتوفير الرعاية لهم والأمن في داخل هذا المجتمع الإسلامي، فالمؤرخ "توماس آرنولد" يذكر أنه لم تحدث محاولة واحدة لإرغام أي ذمي على اعتناق الإسلام، فيقول صراحة:
"لم نسمَع عن أية محاولة مدبَّرة لإرغامِ الطوائف من غير المسلمين على قَبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظَّم قُصِد منه استئصال الدين المسيحي".
وأما (لوثرب ستودارد)، فيقول هو الآخر في كتابه "حاضر العالم الإسلامي":
"ما كان العربُ قطُّ أمةً تُحِبُّ إراقةَ الدماء، وترغب في الاستلاب والتدمير، بل كانوا - على الضد من ذلك - أمة موهوبةً عظيمةَ الأخلاق والسجايا، توَّاقة إلى ارتشافِ العلوم، محسنة في اعتبار نعم التهذيب..
وقد سارت الممالك الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى من تاريخها (650 - 1000م) أحسنَ سيرٍ، فكانت أكثر أصقاعِ العالم حضارةً ورقيًّا وتقدُّمًا وعمرانًا، وما انفكَّ الشرق الإسلامي خلال هذه القرون الثلاثة يُرسِل على الغرب النصراني نورًا".
وأما فيما يتعلق بمعاهداته صلى الله عليه وسلم بين أهل الذمة، فيكفي أن نشير إلى بعض ما جاء في نصوص إحدى معاهداته معهم؛ حيث جاء فيها:
((بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من محمد النبي الأمِّي بين المؤمنين والمسلمين من قريش "ويثرب"، ومَن تبعهم فلحِق بهم...
المهاجرون من قريش على رَبْعتِهم "حالتهم التي أتى الإسلام وهم عليها" يتعاقَلون بينهم - "أي يدفع كل منهم عن الآخر الدية" - وهم يَفدون عانيَهم "الأسير منهم" بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وأن المؤمنين لا يتركون مُفرحًا "مُثقلاً بالدَّين والإنفاق" بينهم أن يعطوه "يدفعوه" بالمعروف في فداء أو عقل، ولا يحالف مؤمنٌ مولى مؤمن دونه...
ولا يقتل مؤمنٌ مؤمنًا في كافر، ولا ينصُرُ كافرًا على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة، يُجِير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضُهم موالي بعضٍ دون الناس، وأنه مَن تبِعنا من يهود فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم...
إلخ".
ونكتفي بهذا القدر من نصوص تلك المعاهدة، ولعلنا تبيَّنَّا الأسلوب الأمثل الذي سلكه الرسول الكريم في عَلاقاته ومعاملاته، والسياسة الحكيمة التي رسمها صلى الله عليه وسلم بين مجتمعه الإسلامي الجديد وبين أهل الذمة هؤلاء.
ونعتقدُ - ونحن في ختام مقالنا هذا - أن الرسول الكريم في خطبته "حجة الوداع" قد بَلْوَر الأُسُسَ والمقوِّمات بلورةً كاملةً، تأسَّس عليها بِناءُ المجتمع الإسلامي الجديد في عهده ومن بعده، صلى الله عليه وسلم، ونقتطف منها ما يكفي لبيان الدلالة وصدق العبارة على هذا القول، وبها يكون مسك الختام والفراغ من المقال.
قال الرسول الكريم بعد أن حمِد الله وأثنى عليه بما هو أهله، في تلك الخطبة الجامعة ما نصه:
((أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقوا ربَّكم، كحُرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغتُ؟ اللهم اشهد، فمن كانت عنده أمانة فليُؤدِّها إلى الذي ائتَمَنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوعٌ "ساقط ومحرم"، وإن أول ربا أبدأُ به ربا عمِّي العباس بن عبدالمطلب، وأن دماء الجاهلية موضوعةٌ غير السدانة "خَدَمة الكعبة" والسِّقاية "سقاية الحجاج"، والعمد قَوَدٌ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير، فمَن زاد فهو من أهل الجاهلية)).
((أيها الناس، فإن لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهن حقٌّ، لكم عليهن ألا يوطئنَ فُرشَكم غيرَكم، ولا يُدخِلن أحدًا تكرهونه بيوتَكم إلا بإذنكم؛ ولا يأتين بفاحشة مبيِّنةٍ، فإن فعلن فإن الله قد أذِن لكم أن تعضُلوهن "تُضيِّقوا عليهن"، وتهجُروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربًا غير مبرحٍ، فإن انتهين وأطعنكم، فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف؛ وإنما النساء عندكم عوانٍ "أسيرات"، ألا هل بلَّغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس، إنما المؤمنون إخوةٌ، ولا يحل لامرئ مسلم مالٌ إلا عن طِيبِ نفسٍ...، ألا هل بلَّغت؟ اللهم اشهد.
فلا ترجعُنَّ بعدي كفَّارًا يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعضٍ، فإني تركتُ فيكم ما إن أخذتُم به لن تضلُّوا بعده؛ كتابَ الله، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير، ليس لعربي على عجمي فضلٌ إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد)).
قالوا: نعم، قال: ((فليبلغِ الشاهدُ الغائبَ)).
((أيها الناس، إن الله قسم لكلِّ وارث نصيبَه من الميراث، فلا تجوز وصيةٌ لوارث في أكثر من الثلث، والولد للفراشِ، وللعاهر الحجر "أي هذا مقضيٌّ به رغم أنفها، أو لعله يشير إلى رجمها"، ومَن ادَّعى إلى غير أبيه أو تولَّى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يُقبَل منه صرفٌ "توبة" ولا عدل "فدية")).
وهكذا على هذا النحو من الأسوة الحسنة، والموعظة البليغة، والحجة البالغة، أرسى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المقوِّمات التي بنى عليها مجتمعَه الإسلامي الجديدَ، الذي كان نواةً لدولة إسلامية كبرى، حكمت وسادت، وعزَّت وسمت بعزِّ وسموِّ قادتِها وأتقيائِها.
فنِعْم الأساس، وما أعظم البناء! وصلاةً وسلامًا على مَن وضع اللَّبِنات، فكانت عُمُدًا ومقوِّمات صلبة، ارتكز عليها مجتمعُه الإسلامي في كل بقعة من الأرض، وفي كل عصر من الأعصار.
"وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين".