خطب ومحاضرات
لقاء الباب المفتوح [87]
الحلقة مفرغة
الحمد لله، وأصلي وأسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذا هو اللقاء السابع والثمانون من اللقاءات التي يعبر عنها باللقاء المفتوح، وهذا هو يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر شوال عام (1415هـ)، نبتدئ هذا اللقاء بإكمال تفسير سورة البينة.
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ..)
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ (من) هنا بيان للإبهام، أعني: إبهام الاسم الموصول بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وعلى هذا فيقتضي أن أهل الكتاب كفار وهم اليهود والنصارى، وكذلك الأمر؛ فإن اليهود والنصارى كفارٌ حين لم يؤمنوا برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وإن قالوا: أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويدعون لموتاهم بالرحمة، وما أشبه ذلك من العبارات التي يتزلفون بها فإنهم كاذبون، إذ لو كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بل لآمنوا برسلهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وجد وصفه في التوراة والإنجيل، كما قال الله تبارك وتعالى في سورة الأعراف: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، بل إن عيسى صلى الله عليه وسلم قال لبني إسرائيل: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، فلما جاء هذا الرسول الذي بشر به عيسى بالبينات قالوا: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ، وكذبوه ولم يتبعوه، إلا نفراً قليلاً من اليهود والنصارى، فقد آمنوا بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم واتبعوه.
أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (شر البرية) أي: شر الخليقة؛ لأن البرية هي الخليقة، وعلى هذا فيكون الكفار من بني آدم من اليهود والنصارى والمشركين شر البرية، شر الخلائق، وقد بين الله ذلك تماماً في قوله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنفال:55]، وقال تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:22-23]، فهؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين هم شر البرية عند الله عز وجل، وإذا كانوا هم شر البرية فلن نتوقع منهم إلا كل شر؛ لأن الشرير ينبثق منه الشر، ولا يمكن أبداً أن نحسن الظن بهم .. قد نثق بالصالحين منهم كما وثق النبي صلى الله عليه وسلم بالمشرك عبد الله بن أريقط حين استأجره ليدله على طريق الهجرة، لكن غالبهم وجمهورهم لا يوثق بهم؛ لأنهم شر.
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ فخير خلق الله عز وجل هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم على طبقات أربع بينها الله في قوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، هذه الطبقات الأربع هي طبقات المؤمنين، أعلاها طبقة النبوة، وأعلى طبقات النبوة طبقة الرسالة، ثم بعد ذلك -أي: بعد النبوة- الصديقية، وعلى رأس الصديقين أبو بكر رضي الله عنه، والشهداء قيل: إنهم أولو العلم، وقيل: إنهم الذين قتلوا في سبيل الله، والآية تحتمل المعنيين جميعاً بدون مناقضة، والذي ينبغي لمفسر القرآن أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين بدون مناقضة أن يحملها على المعنيين جميعاً، فالشهداء هم أولو العلم، وهم الذين قتلوا في سبيل الله، وكلهم مرتبتهم عالية فوق سائر المتبعين للرسل إلا الصديقين، قال تعالى: وَالصَّالِحِينَ وهم أدنى الطبقات، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات على اختلاف طبقاتهم هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أي: خير ما خلق الله عز وجل من البرايا.
تفسير قوله تعالى: (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن)
والجنات التي ذكرها الله تعالى جزاءً للمؤمنين العاملين الصالحات هي عبارة عن منازل عظيمة أعدها الله عز وجل للمؤمنين المتقين .. (فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، ولا يمكن للإنسان في هذه الدنيا أن يتصور كيف نعيم الآخرة أبداً، لأنه أعلى وأجل مما نتصور.. قال ابن عباس رضي الله عنهما: [ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء] لكنها تختلف الحقائق اختلافاً عظيماً.
قال عز وجل: جَنَّاتُ عَدْنٍ العدن بمعنى الإقامة في المكان وعدم النزوح عنه، ومن تمام نعيم أهل الجنة أن كل واحد منهم لا يطلب تحولاً عما هو عليه من النعيم؛ لأنه لا يرى أن أحداً أكمل منه، ولا يحس في قلبه أنه في غضاضة بالنسبة لمن هو أرقى منه وأكمل، قال الله تبارك وتعالى: لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف:108] أي: لا يبغون تحولاً عما هم عليه؛ لأن الله تعالى قد أقنعهم بما أعطاهم فلا يجدون أحداً أكمل نعيماً منهم؛ ولهذا سمى الله تعالى هذه الجنات جنات عدنٍ، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهلها.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البينة:8] (من تحتها) قال العلماء: من تحت قصورها وأشجارها، وإلا فهو على سطحها وليس أسفل، إنما هو من تحت هذه القصور والأشجار، والأنهار التي ذكرها الله عز وجل هنا مجملة فصلها في سورة محمد فقال: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً [محمد:15]، وقد جاءت الآثار في وصف هذه الأنهار: أنها تجري بغير أخدود وبغير خنادق. بمعنى: أن النهر يجري على سطح الأرض يتوجه حيث وجهه الإنسان، ولا يحتاج إلى شق خنادق ولا إلى بناء أخدود تمنع سيلان الماء يميناً وشمالاً.. وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه النونية:
أنهارها من غير أخدودٍ جـرت سبحان ممسكها عن الفيضانِ |
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً أي: ماكثين فيها أبداً لا يموتون، ولا يمرضون، ولا يبأسون، ولا ينامون، ولا يحزنون، ولا يمسهم فيها نصب، فهم في أكمل النعيم دائماً وأبداً، أبد الآبدين .. اللهم اجعلنا منهم.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وهذا أكمل نعيم، أن الله تعالى يرضى عنهم فيحل عليهم رضوانه فلا يسخط بعده أبداً، بل وينظرون إلى الله تبارك وتعالى بأعينهم كما يرون القمر ليلة البدر لا يشكون في ذلك ولا يمترون في ذلك ولا يتضامون في ذلك، أي: لا ينضم بعضهم إلى بعض ليريه الآخر، بل كل إنسان يراه في مكانه حسب ما أراد الله عز وجل.
ثم قال عز جل: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي: ذلك الجزاء لمن خشي الله عز وجل، والخشية هي خوف الله عز وجل المقرون بالهيبة والتعظيم، ولا يصدر ذلك إلا من عالم بالله، كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28].
وبهذا تمت هذه السورة العظيمة، وتم ما تيسر لنا من الكلام على تفسيرها، ونسأل الله أن يجعلنا جميعاً ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته، إنه على كل شيء قدير.
انتهينا في اللقاء السابق إلى قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، بين الله تعالى هنا في هذه الآية بياناً مؤكداً بأن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين (في نار جهنم) أي: في النار التي تسمى جهنم، وسميت جهنم لبعد قعرها وسوادها، فهو مأخوذ من الجهمة، وقيل: إنه اسم أعجمي عربته العرب، وأياً كان فإنه -أعني لفظ جهنم- اسم من أسماء النار أعاذنا الله وإياكم منها.
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ (من) هنا بيان للإبهام، أعني: إبهام الاسم الموصول بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وعلى هذا فيقتضي أن أهل الكتاب كفار وهم اليهود والنصارى، وكذلك الأمر؛ فإن اليهود والنصارى كفارٌ حين لم يؤمنوا برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وإن قالوا: أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويدعون لموتاهم بالرحمة، وما أشبه ذلك من العبارات التي يتزلفون بها فإنهم كاذبون، إذ لو كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بل لآمنوا برسلهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وجد وصفه في التوراة والإنجيل، كما قال الله تبارك وتعالى في سورة الأعراف: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، بل إن عيسى صلى الله عليه وسلم قال لبني إسرائيل: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، فلما جاء هذا الرسول الذي بشر به عيسى بالبينات قالوا: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ، وكذبوه ولم يتبعوه، إلا نفراً قليلاً من اليهود والنصارى، فقد آمنوا بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم واتبعوه.
أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (شر البرية) أي: شر الخليقة؛ لأن البرية هي الخليقة، وعلى هذا فيكون الكفار من بني آدم من اليهود والنصارى والمشركين شر البرية، شر الخلائق، وقد بين الله ذلك تماماً في قوله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنفال:55]، وقال تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:22-23]، فهؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين هم شر البرية عند الله عز وجل، وإذا كانوا هم شر البرية فلن نتوقع منهم إلا كل شر؛ لأن الشرير ينبثق منه الشر، ولا يمكن أبداً أن نحسن الظن بهم .. قد نثق بالصالحين منهم كما وثق النبي صلى الله عليه وسلم بالمشرك عبد الله بن أريقط حين استأجره ليدله على طريق الهجرة، لكن غالبهم وجمهورهم لا يوثق بهم؛ لأنهم شر.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
لقاء الباب المفتوح [63] | 3395 استماع |
لقاء الباب المفتوح [146] | 3350 استماع |
لقاء الباب المفتوح [85] | 3315 استماع |
لقاء الباب المفتوح [132] | 3293 استماع |
لقاء الباب المفتوح [8] | 3275 استماع |
لقاء الباب المفتوح [13] | 3259 استماع |
لقاء الباب المفتوح [127] | 3116 استماع |
لقاء الباب المفتوح [172] | 3090 استماع |
لقاء الباب المفتوح [150] | 3037 استماع |
لقاء الباب المفتوح [47] | 3032 استماع |