لقاء الباب المفتوح [17]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعــد:

هذا هو اليوم الذي نلتقي فيه بإخواننا في هذا الشهر، كما هو مقرر في كل يوم خميس، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها لقاءات مباركة، ونبدأ هذا اللقاء بتفسير آيات من كتاب الله عز وجل وقد بدأنا من سورة النبأ إلى آخر القرآن، ووقفنا على قوله: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا... [النازعات:27-28] إلى آخر السورة.

تفسير قوله تعالى: (أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها)

يخاطب الله سبحانه وتعالى عباده يقول: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا [النازعات:27] وأراد بهذا الاستفهام تقرير إمكان البعث؛ لأن المشركين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالبعث، وقالوا: مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78]؟ فيقول الله عز وجل: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ [النازعات:27] والجواب معلوم لكل أحد أن السماء أشد خلقاً، كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57].

(بناها) هذه الجملة لا تتعلق بالتي قبلها، ولهذا ينبغي للقارئ إذا قرأ أن يقف عند قوله: أَمْ السَّمَاءُ [النازعات:27] ثم يستأنف فيقول: بَنَاهَا [النازعات:27] فالجملة استئنافية لبيان عظمة السماء، (بناها) أي: بناها الله، وقد بين الله سبحانه وتعالى في آية أخرى في سورة الذاريات أنه بناها، فقال: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات:47] أي بقوة وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47].

تفسير قوله تعالى: (رفع سمكها فسواها)

قال تعالى: رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا [النازعات:28] (رفع) أي: عن الأرض، ورفعها عز وجل بغير عمد، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد:2] (فسواها) أي: جعلها مستوية وجعلها تامة كاملة كما قال تعالى في خلق الإنسان: يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:6-7] أي: جعلك سوياً تام الخلقة، فالسماء كذلك سواها الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (وأغطش ليلها وأخرج ضحاها)

قال تعالى: وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا [النازعات:29] أغطشه، أي: أظلمه، فالليل مظلم، قال تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء:12].

وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا [النازعات:29] فالشمس تخرج كل يوم من مطلعها وتغيب في مغربها.

تفسير قوله تعالى: (والأرض بعد ذلك دحاها)

قال تعالى: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ [النازعات:30-33].

(وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ) أي: بعد خلق السماوات والأرض (دَحَاهَا) وبين هذا الدحو بقوله: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [النازعات:31-32] وكانت الأرض مخلوقة قبل السماء كما قال الله تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:9-12].

فالأرض مخلوقة قبل السماء، لكن دحوها وإخراج الماء منها والمرعى كان بعد خلق السماوات: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [النازعات:31-32] أي: جعلها راسية في الأرض تمسك الأرض لئلا تضطرب بالخلق مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ [النازعات:33] أي: جعل الله تعالى ذلك متاعاً لنا نتمتع به فيما نأكل ونشرب، ولأنعامنا، أي: مواشينا من الإبل والبقر والغنم وغيرها.

تفسير قوله تعالى: (فإذا جاءت الطامة الكبرى..)

ولما ذكر الله عباده بهذه النعم الدالة على كمال قدرته، ذكرهم بمآلهم الحتمي الذي لا بد منه، فقال عز وجل: فَإِذَا جَاءَتْ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى [النازعات:34] وذلك قيام الساعة، وسماها طامة؛ لأنها داهية عظيمة تطم كل شيء سبقها، (كبرى) أي: أكبر من كل طامة فَإِذَا جَاءَتْ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى [النازعات:34-35] بيان لهذا اليوم الذي تكون فيه الطامة الكبرى، وهو اليوم الذي يتذكر فيه الإنسان ما سعى، يتذكره، ويجده مكتوباً عنده يقرأه بنفسه، قال الله تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:13-14] إذا قرأه تذكر ما سعى، أي: ما عمل، أما اليوم فإنا قد نسينا ما عملنا، عملنا أعمالاً كثيرة منها الصالح ومنها اللغو ومنها السيئ، لكن كل هذا نُسي، وفي يوم القيامة يُعرض علينا هذا في كتاب، ويقال: اقْرَأْ كِتَابَكَ [الإسراء:14] أنت بنفسك: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:14] فحينئذٍ يتذكر الإنسان ما سعى وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً [النبأ:40].

تفسير قوله تعالى: (وبرزت الجحيم لمن يرى)

ثم قال: وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى [النازعات:36] أعاذنا الله وإياكم منها، (وبرزت) أظهرت، تجيء وتقاد بسبعين ألف زمام، كل زمام معه سبعون ألف ملك يقودونها، إذا ألقي فيها الظالمون في مكان ضيق مقرنين، دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً [الفرقان:13] وتأتي جهنم وتبدو -والعياذ بالله- لمن يرى ويبصر فتنخلع القلوب ويشيب المولود، ولهذا قال: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-39] هذان الوصفان هما وصفان لأهل النار، الطغيان وهو: مجاوزة الحد، وإيثار الدنيا على الآخرة بتقديمها على الآخرة وكونها أكبر هم للإنسان، فإذا قال قائل: ما هو الطغيان؟ قلنا: الطغيان مجاوزة الحد كما ذكرناه آنفاً، وحد الإنسان مذكور في قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فمن جاوز حده ولم يعبد الله فهذا هو الطاغي؛ فأنت مخلوق لعبادة الله لا لتأكل وتتمتع وتتنعم كما تتمتع الأنعام، فاعبد الله عز وجل فإن لم تفعل فقد طغيت، وهذا هو الطغيان.

وقوله: وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النازعات:38] هما متلازمتان، فإن الطاغي عن عبادة الله مؤثر للحياة الدنيا؛ لأنه يتعلل بها عن طاعة الله، ويتلهى بها عن طاعة الله، إذا أذن الفجر آثر النوم على الصلاة، إذا قيل له: اذكر الله آثر اللهو على ذكر الله وهكذا، وقوله: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:39] أي: هي مأواه، والمأوى هو: المرجع والمقر، وبئس المقر مقر جهنم أعاذنا الله وإياكم منها.

تفسير قوله تعالى: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى)

قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ [النازعات:40] أي: خاف القيام بين يديه؛ لأن الإنسان يوم القيامة سوف يقرره الله عز وجل بذنوبه، ويقول: عملت كذا وعملت كذا، كما جاء في الحديث الصحيح، فإذا أقر قال الله له: (قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم) هذا الذي خاف هذا المقام وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى [النازعات:40] أي: عن هواها، والنفس أمارة بالسوء، لا تأمر إلا بالشر، ولكن هناك نفس أخرى تقابلها وهي النفس المطمئنة؛ لأن للإنسان ثلاثة أنفس: مطمئنة، وأمارة، ولوامة، وكلها في القرآن.

أما المطمئنة: ففي قوله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].

وأما الأمارة بالسوء: ففي قوله تعالى: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53].

وأما اللوامة: ففي قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:1-2].

والإنسان يحس بنفسه بهذه الأنفس، يرى في نفسه أحياناً نزعة خير يحب الخير ويفعله، هذه هي النفس المطمئنة، ويرى أحياناً في نفسه نزعة شر فيفعله، هذه هي النفس الأمارة بالسوء.

تأتي بعد ذلك النفس اللوامة التي تلومه على ما فعل، فتجده يندم على ما فعل من المعصية، أو لوامة أخرى تلومه على ما فعل من الخير -والعياذ بالله- فإن من الناس من يلوم نفسه على فعل الخير، وعلى مصاحبة أهل الخير، ويقول: كيف أصحب هؤلاء الذين يصدوني عن حياتي وشهواتي وعن الهوى وما أشبه ذلك.

فاللوامة نفس تلوم الأمارة بالسوء، وتلوم المطمئنة تارة أخرى، فهي في الحقيقة نفس بين نفسين، تلوم النفس الأمارة بالسوء إذا فعلت السوء وتُنَدِّم الإنسان، وقد تلوم النفس المطمئنة إذا فعلت الخير -نسأل الله العافية-

يقول الله عز وجل: وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] الجنة هي دار النعيم التي أعدها الله عز وجل لأوليائه، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال الله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17] هكذا جاء في القرآن وجاء في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

هذه الجنة يدركها الإنسان قبل أن يموت.. كيف ذلك؟

إذا حضر الأجل ودعت الملائكة النفس للخروج وقالت: اخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى رضوان الله، وتبشر النفس بالجنة، قال الله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ [النحل:32] متى يقولون؟ حين الوفاة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32] فيبشر بالجنة، فتخرج روحه راضية متيسرة سهلة، ولهذا لما حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة : يا رسول الله! كلنا يكره الموت، قال: ليس الأمر كذلك) كلنا يكره الموت هذه طبيعة، ولكن المؤمن إذا بشر بما يبشر به عند الموت أحب لقاء الله، أحب الموت، وسهل عليه، وأن الكافر إذا بشر بما يسوءه -والعياذ بالله- عند الموت كره لقاء الله وهربت نفسه، وتفرقت في جسده، حتى ينتزعها منه كما ينتزع السفود من الشعر المبلول، والشعر المبلول إذا جر عليه السفود -وهو معروف عند الغزَّالين- يكاد يمزقه من شدة سحبه عليه.

هكذا روح الكافر -والعياذ بالله- تتفرق في جسده؛ لأنها تبشر بالعذاب فتخاف، ولهذا يوجد بعض الناس -والعياذ بالله- يسود وجهه، ولونه في الحياة أحمر، وحدثني من أثق به -وأقسم لي أكثر من مرة- وهو ممن يباشرون تغسيل الموتى، يقول: والله مرت عليّ حالتان لا أنساهما أبداً، غسلت اثنين بينهما زمن، يقول: الوجه أسود مثل الفحم -والعياذ بالله- والبدن طبيعي؛ لأنه يبشر بما يسوءه، والإنسان إذا بشر بما يسوءه تغير.

فالجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وقلت: إن الإنسان قد يدركها قبل أن يموت بما يبشر به، ولا يخفى علينا ما جاء في السيرة النبوية أن أنس بن النضر رضي الله عنه قال: (والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد ) وهذا ليس معناه الوجدان الذوقي، إنما هو وجدان حقيقي -كما أشار إليه ابن القيم رحمه الله من أن بعض الناس قد يدرك الآخرة وهو في الدنيا- ثم انطلق أنس فقاتل وقتل رضي الله عنه، فالحاصل أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها)

ثم قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا [النازعات:42] (يسألونك) أي: يسألك الناس، كما قال تعالى في آية أخرى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:63] وسؤال الناس عن الساعة ينقسم إلى قسمين: سؤال استبعاد وإنكار وهذا كفر، كما سأل المشركون النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة واستعجلوها، وقد قال الله عن هؤلاء: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [الشورى:18].

وسؤال عن الساعة للاستعداد لها، وهذا لا بأس به، وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! متى الساعة؟ قال له: ماذا أعددت لها؟ قال: حب الله ورسوله، قال: المرء مع من أحب) فالناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم ولكن تختلف نياتهم في هذا السؤال، ولكن مهما كانت نياتهم ومهما كانت أسئلتهم فعلم الساعة عند الله، ولهذا قال: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا [النازعات:43-44] أي: أنه لا يمكن أن تذكر لهم الساعة، لماذا؟ لأن علمها عند الله، كما قال الله تعالى في آية أخرى: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:63] وقد سأل جبريل -وهو أعلم الرسل من الملائكة- النبي صلى الله عليه وسلم -وهو أعلم الخلق من البشر- فقال: (أخبرني عن الساعة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي: إذا كانت خافية عليك فأنا أيضاً خافية عليَّ، وإذا كان أعلم الملائكة وأعلم البشر لا يعلمان متى الساعة فما بالك بمن دونهما؟ وبهذا نعرف أن ما يشيعه بعض الناس من أن الساعة تكون في كذا، وفي زمن معين كله كذب، نعلم أنهم كَذَبَة في ذلك؛ لأنهم لا يعلمون متى الساعة، ولا يعملها إلا الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (إنما أنت منذر من يخشاها)

قال تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات:45] أي: ليس عندك علم بها ولكنك منذر، (من يخشاها) أي: يخافها وهم المؤمنون، أما من أنكرها واستبعدها وكذبها فإن الإنذار لا ينفعه: وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:101] ولهذا نقول: أنت لا تسأل متى تموت ولا أين تموت؛ لأن هذا أمر لا يحتاج إلى سؤال، هذا أمرٌ مفروغ منه ولا بد أن يكون، ومهما طالت بك الدنيا فكأنما بقيت يوماً واحداً، بل كما قال تعالى هنا: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات:46] ولكن السؤال الذي يجب أن يَرِدَ على النفس، ويجب أن يكون لديك جواب عليه هو: على أي حال تموت؟!

لا أريدك أن تسأل: هل أنت غني أو فقير؟ قوي أو ضعيف؟ ذو عيال أو عقيم؟ بل: على أي حال تموت من حيث العمل، فإذا كنت تسأل نفسك هذا السؤال فلا بد أن تستعد؛ لأنك لا تدري متى يفاجئك الموت، كم من إنسان خرج يقود سيارته ورُجِعَ به محمولاً على الأكتاف، وكم من إنسان خرج من أهله يقول: هيئوا لي طعام الغداء أو العشاء ولا يأكله، وكم من إنسان لبس قميصاً وزرَّ أزرته، ولم يفكها إلا الغاسل قبيل أن يغسله، هذا أمر مشاهد لكل أحد، بحوادث...!! بغتة على أي حال، فينبغي أن تنظر الآن، وتفكر على أي حال تموت؟ نسأل الله أن يرزقنا وإياكم التوبة والإنابة.

ولهذا ينبغي أن تكثر من الاستغفار ما استطعت، فإن الاستغفار فيه من كل هم فرج، ومن كل ضيق مخرج، حتى إن بعض العلماء يقول: إذا استفتاك شخص فاستغفر الله قبل أن تفتيه؛ لأن الذنوب تحول بين الإنسان وبين الهدى، واستنبط ذلك من قول الله تبارك وتعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء:105-106].

وهذا استنباط جيد يمكن أيضاً أن يستنبط من قوله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد:17] والاستغفار من الهدى، لذلك أوصي نفسي وإياكم بالمراقبة، وكثرة الاستغفار ومحاسبة النفس، حتى نكون على أهبة الاستعداد لما نخشى أن يفاجئنا من الموت، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.

تفسير قوله تعالى: (كأنهم يوم يرونها...)

قال الله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات:46] العشية: من الزوال إلى غروب الشمس، والضحى: من طلوع الشمس إلى زوالها، أي: كأنهم لم يلبثوا إلا نصف يوم وهذا هو الواقع، لو سألت الآن: كيف ما مضى من السنوات علينا؟ هل نشعر الآن بأنها سنوات أو كأنها يوم واحد؟ كأنها يوم واحد لا شك، والإنسان الآن بين ثلاثة أشياء:

يوم مضى فهذا قد فات، ويوم مستقبل لا يدري أيدركه أم لا يدركه، ووقت حاضر وهو المسئول عنه، أما ما مضى فقد فات وهلك عنك، والمستقبل لا تدري أتدركه أم لا، والحاضر هو الذي أنت مسئول عنه.

أسأل الله تعالى أن يحسن لي ولكم العاقبة، وأن يجعل عاقبتنا حميدة، وخاتمتنا سعيدة، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يخاطب الله سبحانه وتعالى عباده يقول: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا [النازعات:27] وأراد بهذا الاستفهام تقرير إمكان البعث؛ لأن المشركين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالبعث، وقالوا: مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78]؟ فيقول الله عز وجل: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ [النازعات:27] والجواب معلوم لكل أحد أن السماء أشد خلقاً، كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57].

(بناها) هذه الجملة لا تتعلق بالتي قبلها، ولهذا ينبغي للقارئ إذا قرأ أن يقف عند قوله: أَمْ السَّمَاءُ [النازعات:27] ثم يستأنف فيقول: بَنَاهَا [النازعات:27] فالجملة استئنافية لبيان عظمة السماء، (بناها) أي: بناها الله، وقد بين الله سبحانه وتعالى في آية أخرى في سورة الذاريات أنه بناها، فقال: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات:47] أي بقوة وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47].


استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
لقاء الباب المفتوح [63] 3395 استماع
لقاء الباب المفتوح [146] 3350 استماع
لقاء الباب المفتوح [85] 3315 استماع
لقاء الباب المفتوح [132] 3293 استماع
لقاء الباب المفتوح [8] 3275 استماع
لقاء الباب المفتوح [13] 3259 استماع
لقاء الباب المفتوح [127] 3116 استماع
لقاء الباب المفتوح [172] 3090 استماع
لقاء الباب المفتوح [150] 3037 استماع
لقاء الباب المفتوح [47] 3033 استماع