لقاء الباب المفتوح [15]


الحلقة مفرغة

الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى توفاه الله عز وجل، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإننا في هذا اليوم الخميس، السادس عشر من شهر جمادى الآخرة، نلتقي وإياكم اللقاء الثالث لهذا الشهر عام (1413هـ) ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله لقاءً مباركاً نافعاً.

كنا نتكلم في تفسير القرآن الكريم من أول سورة النبأ إلى آخر القرآن، نظراً لكون المسلمين يستمعون إلى هذه السور كثيراً، لكثرة قراءتها في الصلوات، ولكننا هذا اليوم سوف نتكلم عن مناسبة حصلت البارحة ألا وهي كسوف القمر.

فزع المصطفى صلى الله عليه وسلم عند الكسوف

والكسوف كما نعلم أمر غير عادي يقدره الله عز وجل إنذاراً للعباد وتخويفاً لهم، وقد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كسوف الشمس -مرة واحدة في التاسع والعشرين من شهر شوال سنة عشر من الهجرة، وقد وقع هذا الكسوف أول النهار حين ارتفعت الشمس قدر رمح أو رمحين، وكان كسوفاً عظيماً كلياً للشمس حتى صارت كأنها قطعة نحاس- ففزع الناس لذلك فزعاً عظيماً، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً يجر رداءه. قال الراوي: يخشى أن تكون الساعة، وأمر صلى الله عليه وسلم أن ينادى لها: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس رجالاً ونساءً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فأقام لهذا الكسوف صلاة غريبة، صلاة لا نظير لها في بقية الصلوات، وذلك لأنها كانت لها مناسبة لا نظير لها، فالظهر تصلى عند زوال الشمس كما هو معتاد، والمغرب عند غروب الشمس كما هو معتاد، لكن الكسوف غير معتاد فصلاتها غير معتادة.

صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، وجهر فيها بالقراءة؛ لأن الصلاة صلاة جمع، يجتمع فيها الناس، ولهذا قال العلماء: ينبغي أن يجتمع الناس في صلاة الكسوف في الجوامع، وألا تقام في كل مسجد بل السنة أن يجتمع الناس في الجوامع؛ لأنه أكثر عدداً وأقرب إلى الإجابة والرحمة، فإنه كلما كثر جمع المسلمين كانوا أقرب إلى رحمة الله، كما جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله عباداً من النار من يوم عرفة) وذلك لأنه يوم يضم أكثر جمع من المسلمين في موقف واحد، يرجون ثواب الله تعالى ويخشون عذابه.

اجتمع الناس في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأ بهم جهراً قراءة طويلة طويلة، حتى كان بعضهم يسقط من قيامه من شدة التعب، أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا غرابة أن يقف هذا الوقوف، لأنه صلى الله عليه وسلم من عادته أنه كان يطيل القيام حتى تتورم قدماه، بل حتى تتفطر قدماه، فقيل له في ذلك: (أما قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً)، وأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع إطالة طويلة، ثم رفع فقرأ الفاتحة، ثم قرأ قراءة طويلة طويلة إلا أنها دون الأولى، ثم ركع ركوعاً طويلاً لكنه دون الركوع الأول، ثم رفع بعد الرفع من الركوع بدون قراءة، لكن بحمد وتسبيح وتعظيم لله عز وجل، وأطال هذا القيام بقدر إطالة الركوع، ثم هوى ساجداً صلى الله عليه وسلم، وأطال السجود نحواً من ركوعه، ثم رفع من السجود الأول فقعد وأطال القعود بمقدار إطالة السجود، ثم سجد السجدة الثانية وأطال كالسجود الأول، ثم قام إلى الركعة الثانية وصلاها كالأولى، لكنها أقل قراءة وأقل إطالة في الركوع والسجود ثم انصرف، فقام في الناس خطيباً صلى الله عليه وسلم وخطب خطبة بليغة قال فيها: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد، ولا لحياة أحد) لأن الحوادث الأرضية ليس لها أثر في الفلك، الأفلاك تجري بأمر الله، ولا علاقة لها بما يحدث في الأرض، فهي تتغير بأمر الله عز وجل، لا لفقدان عظيم، ولا لوجود عظيم.

والنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة البليغة: ذكر أنه عرضت عليه الجنة ورأى ما فيها من النعيم، وتقدم قليلاً ليأخذ منها قطفاً من العنب، وقال: (لو أني أخذته لبقي لكم ما بقيت الدنيا) ولكن الله سبحانه وتعالى حال بينه وبينه؛ لأن الوقت لم يأت بعد، إذ أن نعيم الجنة لا يتنعم به الناس إلا يوم القيامة، ثم عرضت عليه النار، حتى تقهقر صلى الله عليه وسلم وخاف من لفحها، ورأى فيها من يعذب، رأى فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قُصبه في النار -أمعاءه والعياذ بالله- لأنه أول من أدخل الشرك على العرب، فهو أول من أدخل الأصنام وسيب السوائب، وأدخل على العرب أنواعاً من الشرك والفسوق فرآه النبي صلى الله عليه وسلم يعذب في نار جهنم، ورأى فيها امرأة تعذب في هرة حبستها، فلا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض، ولا هي أطعمتها بشراب ومأكول، حتى ماتت الهرة فعذبت بها.

ورأى صلى الله عليه وسلم صاحب المحجن يعذب فيها، وصاحب المحجن رجل يسرق الحجاج بمحجنه، والمحجن عصاً لها رأس منحنٍ فيمر بالحاج فيخطف متاعه، فإن فطن له قال: هذا الذي جذبه المحجن، وإن لم يتفطن له سار به وأخذه والعياذ بالله، فرآه يعذب في نار جهنم، وقال صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة: (يا أمة محمد! ما من أحد أغير من الله عز وجل أن يزني عبده أو تزني أمته) أي: الله سبحانه وتعالى له غيرة عظيمة، إذا زنا العبد الرجل أو الأمة المرأة، ولهذا حرم سبحانه وتعالى الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

ولما نزلت هذه الآية وهي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4] قال سعد بن عبادة وكان سيد الخزرج، وكان غيوراً رضي الله عنه حتى إنه من غيرته كان لا يتجاسر أحد أن يتزوج امرأته بعد فراقه لها، فقال: (يا رسول الله! أرأيتَ إن رأيتُ لكع بن لكع -وهذا وصف ذم- على امرأتي أذهب حتى آتي بأربعة شهداء، والله لأضربنه بالسيف غير مصفح -يعني أضربه بحد السيف لا بصفحته فأقتله- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تعجبون من غيرة سعد، والله إني لأغير من سعد، وإن الله لأغير مني) عليه الصلاة والسلام.

فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله يغار من زنا الرجل أو زنا المرأة، وأن ذلك من أسباب سخط الله وعقابه، وقال في هذه الخطبة العظيمة: (يا أمة محمد! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) أي: لو أيقنتم كما أوقن لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولكنه ليس عندنا من اليقين ما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحكمة من الكسوف

هذا الكسوف بين النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة أن الله تعالى يحدث من أمره ما شاء، ومنه الخسوف أو الكسوف، فالخسوف للقمر والكسوف للشمس، وربما قيل الكسوف لهما جميعاً.

يحدث ذلك سبحانه وتعالى ليخوف بذلك عباده، فالكسوف إنذار من الله لعقوبة انعقدت أسبابها، وليس هو عذاباً لكنه إنذار، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يخوف الله بهما عباده) ولم يقل: يعاقب الله بهما عباده، بل هو تخويف، ولا ندري ما وراء هذا التخويف، قد تكون هناك عقوبات عاجلة أو آجلة في الأنفس أو الأموال أو الأولاد أو الأهل، عقوبات عامة أو خاصة ما ندري، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله) ما قال: قوموا، وما قال: صلوا..اذكروا الله، ولكن قال: افزعوا، افزعوا إلى ذكر الله واستغفاره، وكبروا وتصدقوا وصلوا وأعتقوا، كل هذه أشياء تدل على عظم هذا الكسوف، مع أنه بسبب موت القلوب في عصرنا هذا صار يمر وكأنه أمر طبيعي، كأن كسوف الشمس غروبها فنقوم نصلي المغرب، تكسف فنقوم نصلي صلاة الكسوف من غير وجل ولا خوف، نسأل الله أن يلين قلوبنا لذكره.

الحقيقة أن الأمر خطير، وكون الكسوف يأتي ويمضي بهذه السهولة وكأن شيئاً لم يكن، هذا يدل دلالة واضحة على أن القلوب بها بلاء كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين:14-17].

أقسام الناس بالنسبة للكسوف

هذا الكسوف ينقسم فيه الناس إلى قسمين:

- قسم يؤمن بما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك لتخويف العباد؛ فيحذر ويخاف ويفزع ويلجأ إلى الله عز وجل، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هذا القسم.

- وقسم آخر يقول: هذه الأمور طبيعية ليس لها أثر، بل الكسوف سببه حيلولة الأرض بين القمر والشمس، فهذا الجزء المظلم من القمر هو ظل الأرض، حيث حالت بينه وبين الشمس كما يكون ظل السحاب على الأرض إذا حال بين الشمس وبين الأرض، فيقول هذا أمر طبيعي وليس هو للتخويف، ويستدل على ذلك بقوله: إن الناس يعلمون بالخسوف قبل أن يقع، ويحددونه بالساعة والدقيقة ابتداءً وتوسطاً وانتهاءً، إذاً لا حاجة أن نفزع ولا حاجة أن نخاف، وهؤلاء طبع الله على قلوبهم والعياذ بالله فلم يتفطنوا للوحي، ولم يتفطنوا أن الذي قدر هذا السبب هو الله عز وجل.

من يستطيع أن يجعل الأرض تحول بين الشمس والقمر؟! من يستطيع في كسوف الشمس أن يجعل القمر يحول بين الشمس والأرض؟! من يستطيع هذا إلا الله عز وجل؟!

فإذا قدره فإنما يقدره لحكمة، وهي تخويف العباد، والمؤمن العاقل يستطيع أن يجمع بين السبب الشرعي والسبب الكوني، وذلك أن الكسوف له سببان:

السبب الأول: التخويف: تخويف العباد إذا كثرت الذنوب، ورانت المعاصي على القلوب، نسأل الله العافية.

والسبب الثاني: كوني قدري: وهو ما يذكره الناس من أن سبب الكسوف حيلولة القمر بين الشمس والأرض، وسبب الخسوف حيلولة الأرض بين الشمس والقمر، ولا يمتنع أن يجعل الله عز وجل أسباباً طبيعية لتخويف العباد، أرأيتم الصواعق والفيضانات؟ هل لها أسباب كونية قدرية؟

الجواب: نعم. لها أسباب كونية قدرية لكن من الذي خلق هذه الأسباب؟ الله عز وجل خلقها يخوف بها العباد: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:12-13].

إذاً: علينا أن تكون قلوبنا واسعة تسع السبب الكوني وهو القدري، والسبب الشرعي، ونقول: يقدر الله تعالى هذه الأسباب من أجل أن يخوف العباد.

والكسوف كما نعلم أمر غير عادي يقدره الله عز وجل إنذاراً للعباد وتخويفاً لهم، وقد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كسوف الشمس -مرة واحدة في التاسع والعشرين من شهر شوال سنة عشر من الهجرة، وقد وقع هذا الكسوف أول النهار حين ارتفعت الشمس قدر رمح أو رمحين، وكان كسوفاً عظيماً كلياً للشمس حتى صارت كأنها قطعة نحاس- ففزع الناس لذلك فزعاً عظيماً، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً يجر رداءه. قال الراوي: يخشى أن تكون الساعة، وأمر صلى الله عليه وسلم أن ينادى لها: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس رجالاً ونساءً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فأقام لهذا الكسوف صلاة غريبة، صلاة لا نظير لها في بقية الصلوات، وذلك لأنها كانت لها مناسبة لا نظير لها، فالظهر تصلى عند زوال الشمس كما هو معتاد، والمغرب عند غروب الشمس كما هو معتاد، لكن الكسوف غير معتاد فصلاتها غير معتادة.

صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، وجهر فيها بالقراءة؛ لأن الصلاة صلاة جمع، يجتمع فيها الناس، ولهذا قال العلماء: ينبغي أن يجتمع الناس في صلاة الكسوف في الجوامع، وألا تقام في كل مسجد بل السنة أن يجتمع الناس في الجوامع؛ لأنه أكثر عدداً وأقرب إلى الإجابة والرحمة، فإنه كلما كثر جمع المسلمين كانوا أقرب إلى رحمة الله، كما جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله عباداً من النار من يوم عرفة) وذلك لأنه يوم يضم أكثر جمع من المسلمين في موقف واحد، يرجون ثواب الله تعالى ويخشون عذابه.

اجتمع الناس في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأ بهم جهراً قراءة طويلة طويلة، حتى كان بعضهم يسقط من قيامه من شدة التعب، أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا غرابة أن يقف هذا الوقوف، لأنه صلى الله عليه وسلم من عادته أنه كان يطيل القيام حتى تتورم قدماه، بل حتى تتفطر قدماه، فقيل له في ذلك: (أما قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً)، وأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع إطالة طويلة، ثم رفع فقرأ الفاتحة، ثم قرأ قراءة طويلة طويلة إلا أنها دون الأولى، ثم ركع ركوعاً طويلاً لكنه دون الركوع الأول، ثم رفع بعد الرفع من الركوع بدون قراءة، لكن بحمد وتسبيح وتعظيم لله عز وجل، وأطال هذا القيام بقدر إطالة الركوع، ثم هوى ساجداً صلى الله عليه وسلم، وأطال السجود نحواً من ركوعه، ثم رفع من السجود الأول فقعد وأطال القعود بمقدار إطالة السجود، ثم سجد السجدة الثانية وأطال كالسجود الأول، ثم قام إلى الركعة الثانية وصلاها كالأولى، لكنها أقل قراءة وأقل إطالة في الركوع والسجود ثم انصرف، فقام في الناس خطيباً صلى الله عليه وسلم وخطب خطبة بليغة قال فيها: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد، ولا لحياة أحد) لأن الحوادث الأرضية ليس لها أثر في الفلك، الأفلاك تجري بأمر الله، ولا علاقة لها بما يحدث في الأرض، فهي تتغير بأمر الله عز وجل، لا لفقدان عظيم، ولا لوجود عظيم.

والنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة البليغة: ذكر أنه عرضت عليه الجنة ورأى ما فيها من النعيم، وتقدم قليلاً ليأخذ منها قطفاً من العنب، وقال: (لو أني أخذته لبقي لكم ما بقيت الدنيا) ولكن الله سبحانه وتعالى حال بينه وبينه؛ لأن الوقت لم يأت بعد، إذ أن نعيم الجنة لا يتنعم به الناس إلا يوم القيامة، ثم عرضت عليه النار، حتى تقهقر صلى الله عليه وسلم وخاف من لفحها، ورأى فيها من يعذب، رأى فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قُصبه في النار -أمعاءه والعياذ بالله- لأنه أول من أدخل الشرك على العرب، فهو أول من أدخل الأصنام وسيب السوائب، وأدخل على العرب أنواعاً من الشرك والفسوق فرآه النبي صلى الله عليه وسلم يعذب في نار جهنم، ورأى فيها امرأة تعذب في هرة حبستها، فلا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض، ولا هي أطعمتها بشراب ومأكول، حتى ماتت الهرة فعذبت بها.

ورأى صلى الله عليه وسلم صاحب المحجن يعذب فيها، وصاحب المحجن رجل يسرق الحجاج بمحجنه، والمحجن عصاً لها رأس منحنٍ فيمر بالحاج فيخطف متاعه، فإن فطن له قال: هذا الذي جذبه المحجن، وإن لم يتفطن له سار به وأخذه والعياذ بالله، فرآه يعذب في نار جهنم، وقال صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة: (يا أمة محمد! ما من أحد أغير من الله عز وجل أن يزني عبده أو تزني أمته) أي: الله سبحانه وتعالى له غيرة عظيمة، إذا زنا العبد الرجل أو الأمة المرأة، ولهذا حرم سبحانه وتعالى الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

ولما نزلت هذه الآية وهي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4] قال سعد بن عبادة وكان سيد الخزرج، وكان غيوراً رضي الله عنه حتى إنه من غيرته كان لا يتجاسر أحد أن يتزوج امرأته بعد فراقه لها، فقال: (يا رسول الله! أرأيتَ إن رأيتُ لكع بن لكع -وهذا وصف ذم- على امرأتي أذهب حتى آتي بأربعة شهداء، والله لأضربنه بالسيف غير مصفح -يعني أضربه بحد السيف لا بصفحته فأقتله- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تعجبون من غيرة سعد، والله إني لأغير من سعد، وإن الله لأغير مني) عليه الصلاة والسلام.

فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله يغار من زنا الرجل أو زنا المرأة، وأن ذلك من أسباب سخط الله وعقابه، وقال في هذه الخطبة العظيمة: (يا أمة محمد! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) أي: لو أيقنتم كما أوقن لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولكنه ليس عندنا من اليقين ما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذا الكسوف بين النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة أن الله تعالى يحدث من أمره ما شاء، ومنه الخسوف أو الكسوف، فالخسوف للقمر والكسوف للشمس، وربما قيل الكسوف لهما جميعاً.

يحدث ذلك سبحانه وتعالى ليخوف بذلك عباده، فالكسوف إنذار من الله لعقوبة انعقدت أسبابها، وليس هو عذاباً لكنه إنذار، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يخوف الله بهما عباده) ولم يقل: يعاقب الله بهما عباده، بل هو تخويف، ولا ندري ما وراء هذا التخويف، قد تكون هناك عقوبات عاجلة أو آجلة في الأنفس أو الأموال أو الأولاد أو الأهل، عقوبات عامة أو خاصة ما ندري، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله) ما قال: قوموا، وما قال: صلوا..اذكروا الله، ولكن قال: افزعوا، افزعوا إلى ذكر الله واستغفاره، وكبروا وتصدقوا وصلوا وأعتقوا، كل هذه أشياء تدل على عظم هذا الكسوف، مع أنه بسبب موت القلوب في عصرنا هذا صار يمر وكأنه أمر طبيعي، كأن كسوف الشمس غروبها فنقوم نصلي المغرب، تكسف فنقوم نصلي صلاة الكسوف من غير وجل ولا خوف، نسأل الله أن يلين قلوبنا لذكره.

الحقيقة أن الأمر خطير، وكون الكسوف يأتي ويمضي بهذه السهولة وكأن شيئاً لم يكن، هذا يدل دلالة واضحة على أن القلوب بها بلاء كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين:14-17].


استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
لقاء الباب المفتوح [63] 3395 استماع
لقاء الباب المفتوح [146] 3350 استماع
لقاء الباب المفتوح [85] 3315 استماع
لقاء الباب المفتوح [132] 3293 استماع
لقاء الباب المفتوح [8] 3275 استماع
لقاء الباب المفتوح [13] 3259 استماع
لقاء الباب المفتوح [127] 3116 استماع
لقاء الباب المفتوح [172] 3090 استماع
لقاء الباب المفتوح [150] 3037 استماع
لقاء الباب المفتوح [47] 3032 استماع